السينما المصرية فى تركيا «٢-٢»
مر علينا فى المقال السابق مدى عمق العلاقات الثقافية بين مصر وتركيا، خاصة فى مجالى الموسيقى والسينما فى القرن العشرين. ويقدم لنا كتاب: «وحدة الموسيقى العربية والتركية فى القرن العشرين» لمؤلفه مراد أوزيلدريم، المصحوب بترجمة رشيقة من ملاك أوزدمير وأحمد زكريا، وصفًا دقيقًا لهذه الحالة المهمة والنادرة فى تاريخ القوى الناعمة فى الشرق الأوسط، فعلى الرغم من حدة الخلافات السياسية بين مصر وتركيا، مع سياسة أتاتورك، والتوجه نحو الغرب، فإن الثقافة والفن كانا مع التاريخ، وليس عكسه، حيث استمرت القوى الناعمة تلعب دورها فى الربط بين وجدان الشعبين.
ورأينا فى المقال السابق نموذج وداد عرفى، المخرج التركى المشهور، وهو يعمل فى مصر سنوات العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى. كذلك رأينا الممثلة المصرية الكبيرة عزيزة أمير تشارك فى مطلع الثلاثينيات فى أحد أهم الأفلام التركية. لكن الحدث الأكبر فى هذا المضمار كان عرض فيلم «دموع الحب» للمطرب والملحن المصرى المشهور محمد عبدالوهاب، فى دور العرض السينمائية فى إسطنبول فى عام ١٩٣٨.
وتُحدثنا الصحافة التركية، آنذاك، عن مدى الإقبال الكبير للجمهور التركى على مشاهدة هذا الفيلم. فعلى الرغم من العواصف وموجة البرد والأمطار التى كانت تشهدها إسطنبول آنذاك، فلم يكترث سكان إسطنبول لكل ذلك، وجاءوا من جميع أنحاء إسطنبول لمشاهدة هذا الفيلم. وطلبت الجماهير التركية فى منطقة الأناضول، وسط تركيا، انتقال عرض الفيلم من إسطنبول إلى الأناضول، نظرًا لتشوق الجماهير لسماع ومشاهدة محمد عبدالوهاب. ولا أدل على مدى الإقبال الجماهيرى على هذا الفيلم من عدد التذاكر المُباعة، ومقارنتها بعدد سكان تركيا، إذ تذكر المراجع التركية أن عدد التذاكر المُباعة لهذا الفيلم بلغ فى عموم تركيا حوالى ١٢ مليون تذكرة، بينما يقدر عدد سكان تركيا آنذاك بحوالى ١٧ مليون نسمة! ومعنى ذلك أن العديد من الأتراك شاهدوا هذا الفيلم أكثر من مرة. وفى مدينة إسطنبول- كبرى المدن التركية- وصل عدد التذاكر المُباعة حوالى سبعة ملايين تذكرة فى عام ١٩٣٩. واستمر عرض الفيلم فى إسطنبول لمدة عامين، ولكى نتبين مدى الإقبال الكبير على الفيلم لنا أن نعرف أن عدد دور العرض فى إسطنبول كان آنذاك ٣٩ دارًا سينمائية، بينما استمر عرض فيلم عبدالوهاب فى ١٥ دارًا منها! ووصف أحد أفيشات إعلان الفيلم فى تركيا محمد عبدالوهاب بأنه: «أعظم مغنٍّ فى الشرق».
والمثير فى الأمر أن أحد أشهر رموز الغناء فى تركيا قام بترجمة أغانى عبدالوهاب إلى اللغة التركية، وقام بغنائها، بل وسجلها على أسطوانات، حيث حققت هذه الأسطوانات الغنائية إيرادًا كبيرًا غير مسبوق. وذهبت الأفلام التركية بعد ذلك إلى محاكاة أفلام عبدالوهاب.
هكذا يتبين لنا أنه رغم الخلافات السياسية الحادة، وسياسة أتاتورك فى إدارة ظهره إلى الشرق، وتشجيع النمط الأوروبى، استمر الفن يلعب دوره فى الوجدان التركى والمصرى، وهو ما يمكن الاستفادة منه فى الحالة الحاضرة، والاستثمار فيه والبناء عليه.