ونلم عاد الحكاية
رمضان خلص.. وأعلن المخرجون بصوت راضٍ سعيد فركش.. وكأننى أسمع صوت عمنا سيد حجاب مغنيًا.. ونلم عاد الحكاية.. ولكن هل انتهت الحكاية بالفعل؟
يظن البعض أن قصة المسلسلات فى مصر مجرد حكاية.. ممثلون وكتّاب ومخرجون وإعلانات وفرجة تنتهى مع السحور الأخير لآخر أيام الشهر الكريم فى انتظار موسم آخر بعد عام بمشيئة الرحمن.. قد يصدق معظمنا ما نقوله فى قعداتنا على المصاطب والمقاهى وفى جلسات نميمة النوادى عن الملايين التى يتقاضاها النجوم.. وقد يذهب البعض إلى أنه كان من الأولى توفيرها فى شق ترعة أو شراء جهاز لمستشفى.. نفس من يطلقون مثل هذه الترهات هم نفس الناس الذين كانوا يتسمرون منذ لحظات يبحثون عن نهايات الحلقات الأخيرة من تلك المسلسلات التى يهيلون عليها التراب الآن.. فى نفس اللحظة تقريبًا هناك من يعرف أن الأمور أكبر من ذلك بكثير.
لقد صارت الدراما فى السنوات العشرين الأخيرة صناعة.. ليس فى أوروبا وأمريكا ولكن فى عالمنا العربى أيضًا.. ليست مجرد صناعة.. فصناعة البسكوت والسناكس وقمصان النوم صناعة ولها أسواقها ومستهلكوها.. والسماسرة أيضًا.. لكنها صناعة ثقيلة.. صناعة الوعى أثقل مما نحتمل وأبعد مما نرى.. ولقد تنبهت الحكومات لهذا الأمر منذ حلت السينما موقع الكتاب وتجاوزته.. فهم الأمريكان منذ مبكر سيكولوجية الفنون وتأثيرها على أذهان المتلقين ومثلهم فعل الأتراك والهنود.. فرصدوا الملايين فى وقت مبكر جدًا لتمرير ما أرادوا من رسائل بأسرع مما تخيلوا.. وهكذا أدرك نفر من بيننا منذ ستينيات القرن الماضى وخاضت الدولة عبر عناصر القوى المصرية الناعمة حروبًا مهمة فى هذا السياق يعرفها أولى الأمر والمتخصصون والمبدعون أيضًا.. وصلت اللهجة المصرية إلى الجميع من المحيط إلى الخليج بفضل هذه الفنون.. وصار صوت عبدالباسط عبدالصمد ومحمد رفعت والحصرى والطبلاوى دبلوماسية من نوع عبقرى اخترق كل الحواجز إلى إفريقيا وبلاد فارس، مثلما سيطر صوت أم كلثوم على ميادين العالم العربى أجمع.
ولسنوات كان دخل مصر من السينما فى المرتبة الثانية بعد دخلها من القطن.. ولأسباب لا وقت لذكرها الآن تاهت البوصلة منا.. وتنبه الآخرون لما غاب عنا.. فأهملنا قوانا الناعمة.. وتراجع تأثير أصواتنا بشكل مريب واستقبلنا كل ما هو غث وضحل بشكل يكاد يكون مقصودًا لسنوات.. لعب فيها من لعب فى هوية أجيال مصرية تشوشت تحت ضربات متعمدة غيبتها.. لكن لم يدم الأمر كثيرًا بفضل يقظة حراسها ومن يعرفون قيمتها ومن يعرفون فى الوقت ذاته أن حربًا من نوع مختلف تجرى لاحتلال عقولنا.. فكان أن استعادت القاهرة ألقها مجددًا.. ولعل رمضان هذا العام يكون البداية لتجليات مصرية يملكها مبدعوها تعيد الأمور إلى نصابها وتستكمل ما كنا قد بدأناه منذ سنوات بعيدة.
الغناء والموسيقى والمسرح والكتاب والدراما ليست نزهة.. وليست فرجة.. أو ترفًا.. أو وسيلة للهو والإلهاء.. فإذا كان للتعليم بكل مفرداته دور فى بناء الأمم.. فذلك البناء لن يستقر دون الأدوات الثقافية الحديثة.. بناء البشر أصعب بكثير من بناء الحجر وهذا ما نعرفه جميعًا الآن.
أعود لأقول إن صناع الدراما فى بلادنا.. وبإشارات ذكية عبر مسلسلات مثل الحشاشين.. مليحة.. جودر.. صلة رحم.. مسار إجبارى.. وسر المسجد.. وبرامج مثل مملكة الدراويش والشاهد ونور الدين.. وعشرات الكتب التى أخرجتها المطابع المصرية وبعضها حصد جوائز مهمة فى عالمنا العربى مؤخرًا.. كل هذه العناصر بالشكل الفنى البديع والمبهر الذى ظهرت به تؤكد أننا نملك جيلًا جديدًا من البناة يعرف ماذا يفعل ولمن وبأى طريقة.
لا أنزعج أبدًا من أن بعض المسلسلات ليست بنفس القدر من التركيز والجودة.. وربما ابتعدت وتباينت أهداف صانعيها.. وهذا أمر طبيعى.. التنوع مطلوب لجذب أجيال لم تزل تتخبط.. والمتعة فى حد ذاتها هدف.. ربما تعثرت بعض التجارب فى بعض تفاصيلها.. لكن النجاح المدوى لأعمال جادة تحمل مضامين كنا نتصورها بعيدة عن القبول الجماهيرى سيذهب بنا إلى مناطق أبعد وتجارب أكمل فى وقت قريب.
فرحون نحن بأن لدينا أجيالًا جديدة من المبدعين تملك أدواتها جيدًا.. تمزج بين الموهبة والمهارات التى تتفوق على منافسينا فى محيطنا الإقليمى.. وقد تصل لمستويات عالمية إن لم أكن مبالغًا.. كانت أعمالنا تعانى من فقر إنتاجى لسنوات جعل البعض يحجم عن التجريب والمجازفة خوفًا من بعبع التكلفة العالية.. لكن الفرصة التى منحتها الشركة المتحدة فى السنوات الأخيرة لمبدعينا أتت ثمارها هذا العام.. ولولا هذا التفكير الذى يتجاوز معايير قديمة ما كنا حصلنا على عمل فنى مبهر فى كل تفاصيله مثل جودر أو الحشاشين.
لا أعتقد أننا هنلم الحكاية ونقفل بابها عليها كما يقول سيد حجاب.. بل سنفتح كل النوافذ لكل المغردين.. ليصبح عيدنا أعيادًا.. وموسمنا الرمضانى مواسم مستمرة للإبداع الذى يليق بمصر.