بأى إبداع عُدت.. يا عيد.. فى محبة صاحب أهم ريمونتادا فنية فى السنوات الأخيرة
- تجربة عيد درس ملهم لكل فنان استسلم لبريق نجاح خاطف دون أن يحاول تغيير جلده
- لم يستسلم لإحساس المظلومية بالثمانى سنوات العجاف وكان يستعد للرجوع بأحمد عيد آخر لم يعرفه الناس
- فيلم «حلق حوش» شهد أول لقاء بين الكومبارس أحمد عيد ومساعد المخرج كريم عبدالعزيز
فى النصف الثانى من عام ١٩٩٦، كان المخرج الكبير محمد عبدالعزيز يقف أمام كاميرته؛ ليدخل تحديًا جديدًا من نوع خاص.. وهو الرجل الذى أخرج أهم أعمال عادل إمام الكوميدية.. لكنه هذه المرة قرر أن يخوض التحدى رفقة المنتج السبكى والمؤلف المبدع بشير الديك، عبر فيلم جديد بطلته ليلى علوى، ويقف أمامها بأدوار البطولة الرجالية شابان تعوّدا على الأدوار السنيدة منذ الثمانينيات، وهما محمد هنيدى وعلاء ولى الدين.. لاحقًا سيقود الاثنان قاطرة جيل جديد سيأخذ الراية كاملة من جيل الزعيم وإخوانه، الذى سيطر على مقاليد أمور الفن منذ السبعينيات.
بعد تسكين الأدوار، كان هناك دور أشبه بالصامت كتبه بشير الديك بفانتازيا كوميدية لفرد أمن نحيل يحرس البنك الذى يسرقه أبطال الفيلم، وكل دوره أن يتنمر عليه البطلان لنحافته الشديدة؛ لتخرج الكوميديا ويضحك المشاهدون.. لم يجد محمد عبدالعزيز أفضل من فتى نحيف «كاركتر»، كل ما أنجزه فى الفن أدوار صغيرة جدًا فى عدد من المسارح، اسمه أحمد عيد.. رأى أنه يصلح ليكون قيمة مضافة لكوميديا الفيلم، فسكّنه على الفور المخرج الكبير فى دوره الصغير، ونادى على شاب آخر صغير السن ضمن الكرو يقف خلف الكاميرا، ومسئول عن تفاصيل الإسكربت ومدى تنفيذها؛ ليتسلم أحمد عيد ويتأكد من حفظه دوره.. هذا الشاب الصغير هو كريم محمد عبدالعزيز، كما نزل اسمه على التتر، وهو نفسه ابن المخرج الكبير الذى سيصبح فيما بعد أهم ممثل فى مصر فى الجيل الجديد، الذى افتتحه هنيدى وعلاء بفيلم أبيه.
دارت الأيام دورتها وتقابل أحمد عيد مرة أخرى بكريم عبدالعزيز بعد هذا الموقف بأكثر من ربع القرن، لكن هذه المرة أمام كاميرا بيتر ميمى؛ ليتشاركا سويًا المسلسل الأعلى إنتاجًا فى تاريخ الدراما المصرية، وهو مسلسل «الحشاشين» فى رمضان ٢٠٢٤، ويعزز كريم مكانته الفنية التى بناها بكاريزما فنية هائلة، ويدشن أحمد عيد مرحلة جديدة لموهبة جبارة خرجت من الرماد فى تغيير جلد إعجازى قام به الفتى النحيل بعد أن جاوزت سنه منتصف الخمسينيات.
يفوز باللذة كل مغامر
مَن تابع مسلسل «الحشاشين» هذا العام لا بد أن يجد مسببات كثيرة للسعادة بهذا العمل الرائد، الذى اقتحمت به الشركة المتحدة عصر الإنتاجات الملحمية بالغة الضخامة.. وهذا شىء بالتأكيد سوف يُذكر لكل من شارك فى إخراج هذا العمل بتلك الاحترافية، التى تضاهى ما كنا ننظر إليه بعين الغبطة والإعجاب مما ينتجه الغرب من مسلسلات ملحمية.
العناصر كلها كانت مثار فخر؛ من أول الكتابة الجميلة المحفزة على التفكير والنقاش للكاتب المبدع عبدالرحيم كمال، ثم بيتر ميمى هذا الطبيب الذى أصبح اسمه مرادفًا للجودة والإتقان، ثم كريم عبدالعزيز الفنان الملهم الذى يحمل كاريزمته الفنية بين عينيه، مع باقى الممثلين الذين أبدع جُلهم فى أدوارهم بالمسلسل.
لكن بشكل شخصى كان أكثر من أثار إعجابى وتأملى، هو هذا الفنان الفذ الذى أدى أصعب دور فى المسلسل «زيد بن سيحون» وأعجبنى اختيار أحمد عيد تحديدًا هذا الدور المتناقض مع الصورة الذهنية المنطبعة عنه عبر عشرات الأعمال السابقة.. صحيح أنها كانت خفيفة الظل، لكنها فى الوقت نفسه أشبه بثوب قصير جدًا على جسد بالغ الضخامة.. وهذا بالضبط ما حدث، حيث كانت قماشة أدواره الكوميدية فى كل أفلامه لا تتناسب مع موهبته التمثيلية المختزنة داخله، التى كانت على ما يبدو تنتظر اللحظة المناسبة للخروج فَتِية شابة متألقة فى دور ساحر كدور زيد بن سيحون.
الحقيقة، المتتبع لمسيرة أحمد عيد سيكتشف أن ما فعله عيد من محاولة ناجحة تمامًا لتغيير الجلد، أمر بالغ الصعوبة فشلت فيها مواهب كثيرة حبست نفسها فى قالب واحد، وانخدعت بنجاحها الوقتى ولم تلتفت إلى أن هذا النجاح الوقتى هو تقليص من عمر الفنان؛ بعكس ما فعله عيد منذ العام الماضى عندما خاض اختبارًا أول لمحاولة الخروج من شرنقته القديمة بدور رائع أيضًا فى مسلسل «عملة نادرة»، عندما أدى دورًا بالغ الشر بمنتهى الانسيابية، وهو دور «مسعود عبدالجبار» مع أنه لأول وهلة قد تظن أن أحمد عيد غير مقنع لأداء مثل تلك الأدوار.. لكنك تفاجأ بغول تشخيص فاجأنا جميعًا فى رمضان السابق.
وعملًا بمبدأ «يفوز باللذة كل مغامر» فقد كان «زيد بن سيحون» هو لذة أحمد عيد هذا العام، أو كل مكافأته على مغامرة تغيير جلده التى لم يجرؤ عليها الكثيرون، أو لم يستطيعوا بالأحرى.
ريمونتادا فنية
أحمد عيد الذى وقف أمام كاميرا محمد عبدالعزيز فى بداية النصف الثانى من التسعينيات لأول مرة فى فيلم «حلّق حوش».. على ما يبدو أن الكاميرا أحبته.. فلم يمر باقى سنوات القرن إلا وكان أحمد عيد وجهًا مألوفًا لجمهور الموجة الجديدة للسينما، حيث شارك هنيدى فتى الجيل الذهبى فى فيلمه «همام فى أمستردام» بدور أكبر وهو صديق البطل فى عام ١٩٩٩ بعد أن كان جسده النحيل قد امتلأ قليلًا وزادت ثقته أمام الكاميرا، ومنه قفز فى بداية الألفية إلى فرصته الذهبية التى منحه إياها الكاتب والمخرج محمد أمين عندما اختاره أن يكون أحد ثلاثة فى واحد من أهم أفلام الكوميديا السوداء الجميلة وهو «فيلم ثقافى»، حيث شارك «عيد» أحمد رزق وفتحى عبدالوهاب؛ لتفرز التجربة الجريئة هذا الفيلم الأيقونى على بساطة فكرته.
وبجانب «فيلم ثقافى» أصبح أحمد عيد موجودًا بجانب الأبطال الجدد فى دور الصديق الظريف صاحب الإيفيهات، التى تدل على طيبته وبساطة عقله لتفرز ضحكًا راقيًا ليس فيه ابتذال ولا نكت بايخة، مثلما ابتلينا مؤخرًا بمثل تلك النماذج التى أساءت لفضيلة الضحك.. فشارك أحمد السقا فى فيلميه الأولين «شورت وفانلة وكاب» فى نفس عام ٢٠٠٠، وبعده بعام فى «أفريكانو» لتنغرس صورة عيد الفنان الشاب الظريف خفيف الظل، الذى يظهر مرافقًا للبطل مثل «إزاى البنات تحبك»، ثم «قلب جرىء» فى ٢٠٠٢، ثم بطولة مشتركة أخرى مع أحمد رزق فى فيلم «إوعى وشك» وبعدها أول بطولة مطلقة لعيد فى فيلم «ليلة سقوط بغداد» فى ٢٠٠٥؛ ليؤسس لنفسه أسلوبًا بسيطًا فى الكوميديا الرائقة المستندة إلى قبول ربانى له عززها ببطولات تالية «أنا مش معاهم، ثم خليك فى حالك، ثم رامى الاعتصامى، ثم حظ سعيد» فى ٢٠١٢، لكن يتعطل عيد ٥ سنوات بعد أن حوصر فى أدوار إلى حد ما متشابهة، فرجع فى ٢٠١٧ بفيلمه «يابانى أصلى»، وبعده «خلاويص»؛ لينحسر نجاحه بعد أن ألف الجمهور أسلوبه؛ حتى مشاركته الزعيم عادل إمام فى مسلسل «صاحب السعادة» لم تغفر له، فكان لا بد لأحمد عيد من وقفة طويلة مع النفس منحتها له ظروف السوق التى اقتحمتها أسماء جديدة، مثل محمد رمضان وآسر ياسين وأمير كرارة، وغيرهم من الجيل التالى له.
وجد أحمد عيد نفسه على ما يبدو أمام خيارين، إما أن يستسلم لمرحلة الفنان الذى أفل نجمه بفعل الزمن وانعزل ويكتفى بحالة النوستالجيا التى تنتاب من يراه، أو يذكره قائلًا «ياااه أحمد عيد.. ده كان ممثل هايل.. الله يرحم أيامه».
وإما أن يقوم بمغامرة بالغة الخطورة بأن يطرح على الناس أحمد عيد آخر غير الذى اعتادوه فى أدواره الخفيفة.. وهذا الخيار الثانى هو الأقرب لنفسية أحمد وشخصيته المغامرة، فكان الاختبار الأول العام الماضى بدوره فى مسلسل «عملة نادرة»، ثم دوره الأهم حاليًا «زيد بن سيحون» أهم وأخطر شخصية فى ملحمة «الحشاشين» بعد حسن الصباح.
لست مظلومًا
اللافت والجدير بالاحترام فى شخصية أحمد عيد، أنه لم يستسغ صورة المظلومية التى حاولت السوشيال ميديا وضعه فى إطارها عندما اختفى لسنوات قبل عودته القوية، حيث ظهرت أصوات من نوعية بكائية انتشرت بشدة واستساغها بعض الفنانين الغائبين، واستخدموها فى الرجوع للساحة مرة أخرى عبر فيديوهات ابتزاز عاطفى موجه لزملاء قدامى لهم لم يأخذوا بأيديهم فى أعمالهم الناجحة، وتركوهم فريسة للتجاهل و«قعدة البيت».. والأمثلة طبعًا كثيرة بدون ذكر أسماء؛ لأن الأسماء بالتأكيد قد حضرت إلى ذهنك وأنت تقرأ.
أحمد عيد اختفى لمدة ٨ سنوات كاملة، وهى فترة كفيلة بالقضاء على أى فنان بالنسيان، علاوة على أنها سبب كافٍ لتعزيز إحساسه بالمظلومية وتنشيط الغدد البكائية عنده لابتزاز المنتجين والمخرجين والرفاق القدامى لإجبارهم على تشغيله.. لكن الحقيقة أن عيد لم يفعل ذلك، بل على العكس لم يسمح لأحد بجره لسكة المظلومية وخرج فى برامج- يمكن الرجوع إليها- بعد ظهور بوادر نجاحه فى مسلسل العام الماضى «عملة نادرة» يسخر من حملة التعاطف عليه بأسلوب خفيف غير جارح لمن أبدى تعاطفًا.. لكنه نسف فرضية المظلومية من أساسها، وقال فى أكثر من موضع ما معناه إنه لم يتعرض للظلم، وعرضت عليه أدوار كثيرة خلال فترة تقاعده السابقة، لكنه لم يستسغها أو لم يشعر بها، وفى اعتقادى أنه حتى إن لم يقل ذلك صراحة كان يرفض تلك الأدوار لإدراكه أنه آن الأوان لتغيير الجلد، وظل منتظرًا دورًا يعطيه فرصة أن يخرج مارد موهبته من قمقمه ويرى الناس أحمد عيد آخر غير الذى اعتادوا عليه فى أغلب أفلامه الناجحة بشكل كبير.
وهذا هو الدرس الحقيقى الذى منحه أحمد عيد لكل من يريد أن يستلهم العبر.. وكأنه يقول لكل نمبر وان إن النجاح ليس مقياسًا دائمًا للدلالة على أن الفنان يمشى على الدرب الصحيح المناسب لموهبته.. قد يكون النجاح الزائف ولعنة الترند رقم ١ التى فقدت معناها من كثرة استخدام النجوم لها، هى غشاوة تمنع الفنان أو الممثل من مراجعة أدواره ومحاسبة نفسه فنيًا كما كان يفعل أحمد زكى مثلًا، الذى كان أحيانًا يتصل بناقد أثنى ثناء مبالغًا فيه على فيلم له نجح ويشتبك معه لفظيًا، رافضًا أسلوب المجاملة الفجة له، بل إنه يعدد له أخطاءه فى الفيلم من وجهة نظر المشاهد أحمد زكى.. ويؤنبه على عدم الالتفات لتلك العيوب ومواجهته بها حتى يعدل من نفسه.. وعلى العكس من ذلك فقد كان أحمد زكى فى أحيان كثيرة يتصل بناقد قسى عليه فى نقد فيلم له، لكنه شعر أنه منصف فشكره على رأيه وثمّن كل كلمة قالها.
فى النهاية لا بد أن نقر بأننا أمام ممثل موهوب من قماشة جميلة ذات رائحة نفاذة لا تخطئها عين محبة للفن الصادق نفس نوعية القماشة التى خرج منها فطاحل وأباطرة فن التشخيص على مدار تاريخ الفن المصرى.. وكلى أمل أن يكون ذلك النجاح الجماهيرى الكبير والاحتفاء الشعبى الهائل بأحمد عيد الجديد حافزًا لكل فنان استكان وارتاح فى المنطقة الآمنة التى تجلب الأدوار والفلوس والتصفيق المؤقت، لكنها ستضيق عليه مع الوقت ويشعر بأنه وقع فى سجن تلك المنطقة التى بدت آمنة لكنها سجن كبير لموهبته.. ولا عزاء لكل نمبر وان مزيف، والمجد لقيمة فنية وإنسانية اسمها أحمد عيد.