من «الهكسوس» إلى «الحشاشين».. المشهد الذى يجب أن تحذره مصرُ الآن!
إن الذين منحتهم الأقدارُ ومنحت بلادَهم تاريخًا مديدًا فريدًا دون غيرهم ثم لا يقرأون تاريخهم حق قراءته، هم قابلية دون غيرهم لأن يُلدَغوا من نفس الجُحر مراتٍ ومراتٍ، وكأن الأقدار تعاقب مَن لا يتلقى مِنَحها بما يليق بها شكرًا وتدبرًا وتفكرًا!
«1»
بعيدًا عن جنون حسن الصباح وجرائمه، وفى مشاهد قليلة من إحدى حلقات «الحشاشين» - وتحديدًا فى الحلقة التى شهدت ظهور الفنان محمد رجب - رأينا كيف استولى الصباح وتابعاه أو «الزهاد الثلاثة» على قلعة ألموت، كانت كلمة السر فى نجاح هذا الاستيلاء هم الرعاة الفقراء الذين كانوا يجاورون القلعة، وكانت بينهم وبين صاحب القلعة ورفاقه بعض علاقات الجوار السابقة، ويعرف بعضهم بعضًا جيدًا. تعاطف معهم صاحب القلعة وسمح لأعدادٍ منهم بالدخول، بل وأحسن الظن بحسن الصباح ذاته فاستقبله أولًا كضيف، كان ذلك فى القرن الحادى عشر الميلادى، أى منذ ما يقرب من عشرة قرون.
قبل ذلك التاريخ بحوالى ثمانية وعشرين قرنًا، وقبل الآن بثمانية وثلاثين قرنًا وتحديدًا فى القرن السابع عشر قبل الميلاد حدثت واقعة تاريخية غيرت مسار تاريخ مصر وسياستها الخارجية آنذاك، وصاغت مواقفها من جيرانها لقرونٍ تالية. هذه الواقعة أو الحدث الأكبر هو ما يُطلق عليه غزو الهكسوس لمصر، بينما الأدق لفظًا والذى يتسق تمامًا مع ما حدث هو «استيلاء» الهكسوس على أجزاء من أرض مصر قبل حدوث الغزو العسكرى ذاته، هذا ما يتفق عليه المؤرخون الآن. كان تسللًا علنيًا أو دخولًا سلميًا لأرض مصر دون ممانعة من أهلها وحكومتها آنذاك التى كانت منشغلة بصراعات حكام الأقاليم الداخلية، وقطعًا لم يكن هذا الاستيلاء ممكنًا له أن ينجح دون أن يتلقى هؤلاء مساعدات لوجستية من بعض المصريين أو القبائل القاطنة على حدود مصر، سواء كانت تلك المساعدات عبارة عن إمدادات بالمياه تعين الداخلين على اجتياز صحراء مصر، أو العمل لهم كأدلاء للطرق الصحراوية، وربما القيام بتوفير مأوى لأعدادٍ كبيرة فى رحلة عبور الحدود المصرية.
«2»
استولى الصباح على القلعة وأول أمر أصدره هو طرد صاحب القلعة ثم فتحها لاستقبال باقى الرعاة أو الأتباع الذين استطاع استمالتهم لدعوته أثناء إقامته خارج القلعة. أما الهكسوس فقد قاموا بما هو أكثر من ذلك وأخطر. استوطنوا فى المناطق الممتدة من حدود مصر الشرقية وحتى مناطق شرق الدلتا. استولوا على خيرات مصر، واستفادوا من علومها الممتدة لقرونٍ طويلة قبل دخولهم لأرضها.. نظموا صفوفهم وأكملوا المشهد الأخير بالغزو المسلح، ثم استباحوا ثقافة مصر وديانتها وأماكنها المقدسة، وحاولوا فرض ثقافتهم وعقائدهم، وتعمدوا إهانة المصريين، كما سجلت ذلك الوثائقُ التى كُتبت بعد طردهم مباشرة.
فى تاريخ حسن الصباح ظاهرة مهمة، هى أنه وطوال تنقله داعيًا لدعوته الباطنية كان يتجنب المدن الكبرى ويفضل الصحارى والترويج لدعوته بين قاطنيها من رعاة يسهل السيطرة على عقولهم. وكان الذين ساعدوه فى الاستيلاء على القلعة هم من الرعاة، أما أبطال المشهد الأقدم الذى يشكل جزءًا هامًا من تاريخ مصر، أو الهكسوس فهم أيضًا كانوا فى مجملهم قبائل بدوية أعرابية وعبرية وهندو أوروبية. كثيرٌ منهم كانوا جيرانًا لمصر بالفعل، كلمة الهكسوس تعنى فى أحد معانيها «الملوك الرعاة» أو «ملوك الرعاة». ولم يكونوا جميعًا على نفس المستوى الحضارى، فهم كانوا حلفًا كبيرًا، بعض أطرافه كانت قبائل بدوية فظة، بينما تمتع البعض الآخر بقسطٍ من الحضارة تمثل فى معداتهم العسكرية. لم يكن تسللهم إلى أرض مصر هو الأول من نوعه، فقد سبقه الكثير من المحاولات، كما تلاه أيضًا الكثير، لكن هذه المرة التى حدثت فى القرن السابع عشر قبل الميلاد كانت هى الأنجح فيما سبقها.
«3»
لقد تعودوا من مصر على عدة خصال منذ فجر تاريخها وفجر علاقاتهم التجارية معها. يمكن اختصار هذه الخصال فى اختيار مصر للسلام رغم تفوق قدرتها العسكرية على قدرة جيرانها، وحسن الجوار، وإغاثة الهائمين بلا مأوى والجائعين الفارين من الجدب أو الصراع القبلى فى صحراء آسيا الملاصقة لمصر أو التى تفصلها عن مصر مياه البحر الأحمر، دأبوا على الفرار إليها طلبًا للأمن والمأوى والمأكل، وهى لم توصد أبوابها دونهم سابقًا حتى استفاقت على هذه الطعنة الغادرة الكبرى، بعض مناظر مقابر نبلاء ونخبة مصر فى الدولة الوسطى قبل هذا الحدث كانت سجلًا تاريخيًا أمينًا يصور علاقات مصر بهؤلاء الجيران الذين خانوا العهود وحسن الجوار وتنكروا لموائد مصر التى طالما تحلقوا حولها فى القرون السابقة.
الغريب فى فصول تاريخ مصر، أن هذا المشهد تكرر مراتٍ أخرى بعد تلك المرة استنادًا إلى مفردات أخرى دينية أو قبلية. لم تستطع هذه المفردات المستحدثة - مثل تغير ديانات الشعوب سواء فى مصر أو ما جاورها - تغيير ذلك المشهد القديم التقليدى من وجود منتظرين على أبواب مصر من طالبى أمنها وأمانها وأرضها وقوتها وخيراتها، ومن تمسك مصر بنفس شخصيتها القديمة المضيافة الكريمة، ومن تمسك بعضهم بنفس الصفات القديمة التى عبرت عن نفسها فى مشهد القرن السابع عشر قبل الميلاد.
«4»
فى السنوات الأخيرة أضيفت عوامل جديدة ضاعفت من دراما المشهد المعاصر.. من أهم هذه العوامل هو وجود تنظيم باطنى مسلح ممدد عبر دول المنطقة.. رغم أن رأسه كان من مصر وفى مصر وأن قوته الأكبر - سواء كانت قوة روحية أو تنظيمية - كانت أيضًا فى مصر، لكن بعض أذرعه المنتشرة عبر العالم لم تخلُ من شراسة وقوة اقتصادية أو مخابراتية لا يمكن إنكارها. مواجهة مصر لهذا التنظيم مواجهة مسلحة عنيفة وعلنية وتمكنها من كسر شوكته فى مصر وهدم مخططه فى المنطقة، هذا جعل من مصر عدوًا مباشرًا لهذا التنظيم وكل من يقف خلفه أو يتخفى فى عباءته. انتصارها فى أهم جولات المواجهة أضاف سببًا جديدًا لاستهدافها. فلم يعد الأمر مجرد الحاجة إلى أمنها وأمانها وكرم ضيافتها لفترة زمنية محددة. بل أصبح مستهدفها أن يتم تمرير أعداد كبرى من هذا التنظيم من غير المصريين إلى مصر، وتحديدًا من مواطنى إحدى الدول العربية الآسيوية التى تمزقت بفعل ميليشيات هذا التنظيم وتحت مسمى الربيع العربى، لهذا لم يكن طبيعيًا دخول هذا الكم من الأموال فى تلك السنوات الأولى بعد ثورة يونيو مع أسر من المفترض أنها فرت من بلادها طلبًا للأمان والحياة، لم يكن طبيعيًا أن يسيطر بعض هؤلاء على جزء كبير من سوق العملة الموازية الذى كان هدفه حرمان الدولة المصرية من كل ما يستطيعون حرمانها منه من عملة صعبة لتعجيزها عن مواصلة الصمود الاقتصادى أو مواصلة خطط الإصلاح والتنمية.
منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام، وعلى متن إحدى البواخر السياحية استمعتُ عرضًا لحديث سيدة مصرية تعمل أستاذة جامعية بإحدى جامعات مصر الإقليمية بمصر العليا.. كانت تتحدث بوضوح وعلانية عن أستاذ جامعى بكلية عملية بنفس الجامعة وهم يعرفون أنه عضوٌ عامل بتنظيم الإخوان الإرهابى.. كانت تحكى عن حوار جمعها به وهى تسأله عما إذا كانوا لا يزالون يدفعون نفس المبالغ المالية للتنظيم.. فكانت إجابته التى ذكرتها السيدة وأنقلها حرفيًا.. «طبعًا.. إحنا بنلم فلوس لإعالة 30 ألف أسرة إخوانية س.. ية «جنسية غير مصرية» فقط فى محافظة...»! يتحدث الرجل عن هذا الرقم من الأسر التى دخلت مصر بشكلٍ منظم وتنتمى لتنظيم الإخوان الإرهابى من نفس الجنسية العربية التى أتحدث عنها والتى سيطرت على جزء كبير من سوق العملة الموازية حتى أسابيع قليلة مضت.
من هذه الأموال - سواء التى دخلت مصر مع دخولهم الأول دون معرفة مصادرها، أو التى يقوم فلول التنظيم المصرى بجمعها، كما ذكر هذا الأستاذ الجامعى، أو التى حصلوا عليها من الاتجار فى الاقتصاد المصرى ومحاولة ضربه بالاستيلاء على العملات الأجنبية - بدأ هذا التكتل فى تملك عقارات ومحلات تجارية فى مختلف محافظات مصر.. ثم بدأنا نرى المرحلة الثانية وهى استبعاد العمالة المصرية بشكلٍ صريح من العمل فى هذه المشاريع، وأيضًا الإعلان عن الأيديولوجية الدينية فى الإعلان عن استبعاد غير المسلمين من العمل.
هذا يعنى أن جزءًا غير مصرى من جسد هذا التنظيم انتقل بالفعل إلى مصر فى السنوات السابقة، وأن هناك معلومات مجمعة لدى بعض كوادر التنظيم المصرية عن هذا الجزء الدخيل فى التربة المصرية. استطاع هذا الجزء تنظيم صفوفه وتقويتها ماليًا وتنظيميًا، وهو الآن فى مرحلة كمون تنظيمى، لكنه يمثل تهديدًا مباشرًا وصريحًا لهذا الوطن، وبدأ بالفعل فى استهداف الهوية المصرية على أرض مصر.
«5»
هل سيناء فقط هى المستهدفة وهى فقط «أرض الميعاد» التى يجب أن يتنبه المصريون لما يُحاك لها؟ من يعتقد هذا فهو غارق فى الأوهام. فقصة الهكسوس أصبحت فكرة عامة غير مقيدة بحد بذاتها من حدود مصر، أو بمجموعات أو شعوب أو قبائل بذاتها.. «الهكسوس» وتسللهم لأرض مصر أصبح فكرة تشير إلى كل محاولة تستهدف هوية مصر أو قطعة من أرضها سواء كان ذلك شرقًا أو جنوبًا أو غربًا. فمصر كلها أرض ميعاد للطامعين هنا وهناك! وفى الوقت الذى تحلقت فيه العيون بسيناء وحدود مصر الشرقية وما تخوضه مصر من معارك شرسة للحفاظ على تلك الحدود، كانت هناك فى أقصى جنوب مصر قصة أخرى يجب أن تُروى ويُماط اللثام عنها.. فلا خير فيمن عرف أو رأى إن لم يقل، ولا خير فيمن يحمل هوية هذه البلاد ولا يريد أن يسمع! منذ سنوات اشتدت حملات الإفك المعروفة بالأفروسنتريك والتى أرادت أن تنزع عن مصر هويتها الحقيقية وتسطو على تلك الهوية وعلى إرث مصر الحضارى. ثم حدث ما حدث فى الدولة الشقيقة المجاورة لمصر جنوبًا، وكعادة مصر فتحت قلبها وذراعيها ولم تُشح بوجهها بعيدًا ولم تتنكر لشخصيتها التاريخية المغيثة لكل ملهوف.. فتدفق أشقاءُ الجنوب. ثم بدأت أخيرًا تظهر عباراتٌ على استحياء.. مضمونها أن أسوان ليست مصرية، وأن ما يحدث ليس استضافة كريمة أو إغاثة جارٍ ملهوف، لكنه حقٌ مكتسب، هناك محاولة لاستهداف هوية جزءٍ من أرض مصر جنوبًا! بعض المنتفعين قرروا أن يشاركوا فى هذا المشهد بأن يحاولوا التحايل على ضوابط الدولة المصرية بالعمل على تهريب الأفراد عبر الدروب الجبلية الوعرة.
لقد تطورت فكرة «تسلل الهكسوس» فى الأعوام الأخيرة ولم تقتصر على الحدود الشرقية فقط. استهداف الهوية المصرية على أكثر من بقعة من بقاع مصر أصبح جزءًا لا يتجزأ من الفكرة الأم وهى استهداف الأرض، فبين وجود إعلانات عمالة تستبعد المصريين بمنطقة صناعية شمال مصر، وانتشار بعض اللوحات الإعلانية الضوئية الضخمة بأهم شوارع مدينة جنوبية كبرى بلهجة غير مصرية، يكون جليًا أن هوية مصر هى الهدف.
هناك شَعرة فاصلة حادة تفصل بين حسن الظن وكرم الوفادة، والسذاجة التى تقود للوقوع فى نفس الفخاخ التاريخية السابقة.