السر فى المطرية
لا أخفى فرحى بما يفعله شباب حى المطرية.. لست وحدى مَن فرح وانتظر أن يشاهد ما يفعله أهلنا فى ذلك الحى الشعبى الذى يتوسط القاهرة.. ولست فى حاجة إلى البحث عن أسباب لهذه البهجة.. أعرفها وأفهمها مثلما أستوعب مبررات المندهشين.. هذه الخلطة المصرية المحيرة البديعة الملغزة هى التى تستعصى على من لا يعرفونها جيدًا.
السر ليس فى التفاصيل فقط، كما تقول أغنية الجسمى.. السر فى ناسها أنفسهم حتى وإن بدا لنا فى لحظة متعبة أنهم تغيروا.. وهم أبعد ما يكون عن ذلك الوهم.
الحكاية ليست فى إفطار جماعى ضم عشرة آلاف مصرى.. لا تعرف المسيحى فيهم من المسلم.. ولا فى عدد الأطنان المطبوخة فى بيوت طيبة بأيادٍ شابة ودعوات عجوز.. المسألة ليست فى جينس وموسوعته.. السر والحكاية فى محبة أهل هذا البلد للحياة وقدرتهم غير المحدودة على تجاوز تحدياتها وغموضها وارتباكها.
ربما لا يدرك الشاب أو الرجل الذى بدأ الفكرة منذ عشر سنوات قيمة ما حدث.. أقسم أنه وأصحابه أصحاب أول ترابيزة اتفرشت فى الشارع أنه لم يكن يتخيل أن يصل الأمر إلى هذا الحد.. الحد الذى جعل من كل بيوت مصر الفقيرة والغنية على السواء تتمنى لو أنها هناك وسط هذا الحشد الذى يفرح لأنه وسط الناس.. الرسالة وصلت إلى العالم كله ولا تزال.. إيه الشعب الحلو ده.. إيه الناس الحلوة دى.
ليست لقيمات يدفع بها بعضنا إلى فمه.. لقد تحول اليوم إلى عيد له سمت وطعم ولون عند أطفال الحارات والعطوف والأزقة فى ذلك الحى المصرى.. شباب المطرية أوصلوا رسالتهم الحلوة لأنفسهم قبل الآخرين.. إحنا مش عبده موتة ولا إبراهيم الأبيض.. إحنا بتوع الحلمية ولياليها تلك التى كان يبحث عنها أسامة أنور عكاشة.. إحنا المصراوية.. فى زيزينيا والعطارين.. إحنا الشراقوة اللى عزموا القطر.. إحنا الشعب اللى ما تغلبوش لا كورونا ولا أزمة دولار.. إحنا اللى حافظين إن غزة فى القلب.. حد كان ييجى فى باله إن وسط كل هذه اللمة.. وسط هذا الطوفان من الابتسامات والهرج والمرج وأصوات الأطباق وروايح الطبيخ الطازج تنطلق الحناجر لتهتف.. فداكى يا فلسطين.
هذا شعب.. يعرف نفسه جيدًا.. يعرف روحه.. روح مصر.. خابزها وعاجنها.. نحن السياسيين والمثقفين والمتحذلقين ومؤلفى الدراما العجزة الذين لا نعرفه جيدًا ولا ندرك قدره ونحتاج من حين إلى آخر إلى من يوقظنا من غفلتنا، مثلما فعل أبناء عزبة حمادة فى المطرية فى إفطارهم السنوى.
النجاح يقولون إنه عدوى.. وأجمل ما فى هؤلاء المصريين أن غيرتهم طيبة وصالحة لبناء الحضارات الجديدة التى تحتاجها الإنسانية.. لقد انتقلت عدوى عزبة حمادة إلى مدن أخرى فى مصر.. ربما لم تلفت نظرنا اليوم.. لكن الفكرة انتقلت إلى كثيرين من شبابنا فى النوبة وأسيوط والسويس، وغيرها.. لماذا لا نتجمع معًا فى مكان واحد بأسرنا وأطفالنا ونأكل مع بعض عيش وملح.
أطفال مدارسنا بعضهم قرر أن يفعل ذلك.. وأجبروا إدارات مدارسهم على تنظيم اليوم.. إفطار جماعى لمن يرغب من التلاميذ وأولياء أمورهم.. كل واحد هيجيب الأكل من بيتهم وهنفطر مع بعض.
المعنى الطيب الذى أراده رجل مصرى طيب منذ عشر سنوات فى شارع بسيط من عزبة حمادة انتقلت عدواه وتكاثرت.. صارت قوس قزح الذى يجلى عتمات كادت تهلك صدورنا.. هذه لحظات مصرية مبدعة تقاوم الإحباط وترمى بعقولنا فى بحور التجدد والدوران.. لن يتوقف التاريخ لأن الجغرافيا هزمته بنوة أو شوية مطر وسيول وعفار طالما هناك شباب فى هذا البلد من طينة وعجينة شباب المطرية.. وهذا هو سرها الذى لم يكشف بعد عن كل تفاصيله.