بسبب السياسة لا الدين!
من حسنات مسلسل «الحشاشين» أنه فتح الباب لمن يريد البحث فى تاريخ الدول الإسلامية المختلفة وأحوالها، ومن المآزق الإبداعية التى تعامل معها ببراعة أنه قفز على مناقشة أفكار أى فرقة إسلامية، سواء بالمدح أو بالذم، لأنه مشغول بمناقشة فكرة استخدام المبادئ لتحقيق مجد شخصى أولًا، وفكرة خداع البسطاء بحلم الجنة والنعيم الأبدى ثانيًا.. لذلك دخل صُناع المسلسل إلى صلب القضية وطرحوا نموذجًا لشخص دموى يستخدم المبادئ الدينية لتحقيق طموحه، ويخدع البسطاء بخليط من قدرات شخصية وملكات إيحائية وقدرة على التأثير وغسل العقول.. والحقيقة أن صُناع المسلسل كانوا محقين تمامًا فى تجنب التوسع فى طرح الخلفية التاريخية التى ظهر من خلالها هذا النموذج الدموى؛ مراعاة لاعتبارات متعددة وجديرة بالاحترام والتقدير، والحقيقة أن الأيام أثبتت صحة وجهة نظرهم.. فرغم هذا التجنب الواضح لعرض خلفيات ظهور الأفكار التى استغلها حسن الصباح مؤسس الحشاشين؛ فإن جماعة الإرهاب حاولت الصيد فى الماء العكر والادعاء بأن المسلسل يسىء إلى هذه الفرقة الإسلامية أو تلك، وهو ما تكذبه متابعة الحلقات، ومع ذلك أريد أن أطرح فكرة محددة، وهى أن قراءة التاريخ الإسلامى تؤكد أن السياسة كانت دائمًا سبب فرقة المسلمين وتشتتهم وضعفهم، وأن الأمر فى البداية لم تكن له علاقة بالدين لا من قريب ولا من بعيد.. فالمسلمون بعد وفاة الرسول «صلى الله عليه وسلم» لم يختلفوا دينيًا أبدًا.. كل الصحابة كانوا يؤمنون بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله، ولكن الخلاف كان حول السياسة أولًا وأخيرًا، والخلاف المؤسس لظهور الفرقة الإسلامية، والمشهور باسم الفتنة الكبرى، كان خلافًا دنيويًا لا دينيًا.. فقد رأى قسم من العرب أن على بن أبى طالب «رضى الله عنه» وآل بيت الرسول أحق بالخلافة من الناحية الدينية، وهذا حق، ورأى قسم آخر أكثر تأثيرًا أن معاوية أصلح لأمور الدنيا، وأكثر خبرة بالسياسة واتصالًا بالحضارات التى ورثها المسلمون.. لذلك ظهرت مقولات ذات دلالة، مثل أن الطعام عند معاوية أشهى، والصلاة خلف على أتقى.. وقد عانى على «رضى الله عنه» من انقسام أصحابه عنه، وخروج الخوارج عليه، ثم قتلهم له، بينما كتلة معاوية متماسكة صلبة لأنها قامت على أساس المصلحة لا العقيدة، ولم يذكر التاريخ الإسلامى أن على «رضى الله عنه» كفّر معاوية وأصحابه، أو اعتبر أنهم خارجون على الدين، والعكس صحيح طبعًا.. والحقيقة أن آل البيت رغم عدم توليهم الحكم الدنيوى، كانوا فى أرفع مقام بين العرب عزًا وجاهًا ومالًا، ثم كانت مأساة كربلاء بسبب الخلاف على شرعية الحكم، فجيش يزيد يرى أنه حاكم شرعى بايعه أغلبية المسلمين ما عدا قلة.. والحسين بن على «رضى الله عنه» يرى أنه حاكم غير شرعى، وأن أهل العراق لو انضموا له لاستطاع عزل يزيد.. وهو ما لم يحدث لأسباب معقدة.. والمعنى هنا أن السياسة لا الدين كانت سبب الفرقة.. وقد تجنب المسلمون دائمًا ذكر تاريخ الفرق الإسلامية المختلفة والحروب بين المسلمين لأسباب سياسية لا دينية، وبالتالى لم يعد المسلم العادى يعرف عن تاريخ الإسلام سوى فترة ميلاد الدعوة وانتشارها فى عهدى أبوبكر وعمر.. ثم يُلقى ستارًا من التكتم على أحداث كثيرة جدًا وتواريخ كثيرة جدًا.. ثم يفتح الستار مرة أخرى فى القرن الخامس الهجرى على معارك التصدى للتتار والصليبيين.. وأذكر أن الرقابة فى مصر تدخلت عدة مرات لمنع إنتاج أعمال تناقش الفتنة الأهلية بين المسلمين، رغم أن الفتنة سببها السياسة وليس الدين، والحقيقة أن العالم الإسلامى قد بلغ سن الرشد بفعل ثورة المعلومات والإنترنت والسماوات المفتوحة، وأن ما كان يسهل السكوت عنه فى زمن الكتاب المطبوع والقناة التليفزيونية الواحدة لم يعد ممكنًا إخفاءه فى عصر الإنترنت ومحركات البحث الهادرة.. وبالتالى فالحل هو أن نقدم التاريخ الحقيقى للانقسام الإسلامى بقراءة موضوعية.. تفصل بين ما هو دينى وما هو سياسى.. فالدين لم يكن سبب انقسام المسلمين فى البداية، ولكن الدنيا والموقف منها.. ثم ظهر التكفير بين الفرق المختلفة لتعزيز الغرض السياسى، وكأن الشىء لزوم الشىء.. أو كأن الخلاف السياسى أصبح يحتاج لمبررات دينية تم خلقها.. لتدور دائرة الدم.. لن نتقدم دون إعادة قراءة تاريخنا.