المليجي.. نجم لم يحظ بمكانة البطل التقليدي ولو لمرة واحدة
المكان حي المغربلين بالقاهرة.. الزمان، الآن على أعتاب عشرينيات القرن الماضي. تقف عزيزة الفحل بصوتها الجهور وطولها الفارع الذي تخطى حاجز الـ190 سم ترهب أجدع شنب في الحي وتدخل في صراع عادة ما يُحسم لصالحها وسط تصفيق حاد وإعجاب شديد من طفل في العاشرة يدعى محمود حسين المليجي.
تفتحت عين الطفل محمود المليجي المولود في حي المغربلين أواخر عام 1910، على آخر ما تبقى من آثار دولة الفتونة، والتي تمثلت له في صورة عزيزة الفحل رغم أنها لم تكن ذات جسد فحل على الإطلاق، ولكنها اكتسبت لقبها من زوجها الفتوة الأصلي وعلى ما يبدو أن الاسم وحده كان له أثر في نفوس جميع سكان الحي الذين يفرون هاربين ما إن وطأت قدمها مكان بعينه، خائفين أو قاصرين للشر.
والأكثر من ذلك أنها تحولت في عين محمود المليجي إلى حلم، يتبع أثرها في كل مكان، يشاهد أداءها في العركة وكأنما يشاهد فيلمًا سينمائيًا، هذه المتعة التي يدفع ثمنها أي شيء حتى وإن كان علقة موت يتلقاها عند عودته للمنزل، ورغبته في أن يصبح هو الآخر فتوة الناس الغلابة.
الزمان الآن منتصف عشرينيات القرن الماضي، والمكان مسرح المدرسة الخديوية، شب المليجي عن الطوق وأصبح شابًا يافعًا مؤهلاته الجسدية تمكنه عن جدارة من تحقيق حلم الفتونة الطفولي لكن الزمان لم يعد زمن الفتوات الآن.. إنه زمن المسرح.
وجد المليجي ضالته على خشبة مسرح المدرسة الخديوية التي يدرس فيها، قدم من خلالها أدوار عادية إلى أن التقطته عين فاطمة رشدي فخطفته إلى مسرحها بعدما ظنت في البداية أنه ممثل كبير لكن المفاجأة بالنسبة لها أنه طالب كغيره من ممثلي المدرسة، فاعتقدت فيه أنه ممثل "لقطة" يصلح لأداء جميع الأدوار لكن لماذا أدوار الشر؟
بعدما أنهى المليجي واحدة من سهرات الأنس برفقة أصدقائه، عاد إلى منزله ولكنه لم يعد وحيدًا، صاحبه تعب شديد في المعدة، تعب كاد يقوده إلى الهلاك، التشخيص كان حالة تسمم نجا منها بأعجوبه، لكنها أخذت معها بعض من شعره الأمامي، لتكتمل تميمة الحظ، أداء متميز يعززه مظهر رجل أصلع شرير.
عندما اكتملت للمليجي معالم الشخيصة التي تحولت فيما بعد إلى "لقمة عيش"، أخذ يروج لها على خشبات المسارح في مختلف محافظات مصر، إلى أن استقر به المقام في مدينة جمصة، يعرض مسرحية هناك برفقة زميلته والتي تكبره بسنوات عديدة علوية جميل.
وبينما المليجي غارق في عروض المسرحية وغارق في ديونه أيضًا، تلقى خبر وفاة والدته، والموقف الأشد قسوة على المليجي في هذه اللحظة من فقدان الأم، هو فقدان المال الضروري واللازم ليصل بها إلى مستقرها الآخير.
في حركة "جدعنة" خلعت علوية مصاغها، وعرضت على زميلها راضية بيعه وتكريم والدته، فما كان من المليجي إلا أن يتزوجها ردا على معروفها الجليل.
علوية تخطت في حياة المليجي حاجز الزوجة فأصبحت أمًا له بامتياز، لم ينجب المليجي وكانت له نزوات "للركب" ولم تفكر لحظة في أن تتخلى عنه، وإنما في كل مرة تعرف بعلاقة جديدة له، تقدم علوية على تلقين السيدة التي ارتبط بها "علقة موت" وتأخذ بزمام المليجي وتعيده إليها، حتى إنه كلما حاول الإفلات من الطوق الذي يحيط برقبته تجذبه إليها مرة أخرى فيعود إليها كي لا يختنق.
رأى المليجي في نفسه أنه قادر على تغيير خريطة السينما في مصر، قادرًا على إصلاح ما أفسده الآخرون وتقديم فن يليق بالمشاهد وبالسينما وبنفسه، لكنه لم ير في نفسه أنه مستحق ليكون البطل الأول على أفيش أفلامه حتى وإن كان هو منتجها.
خلافات النجوم حول ترتيب الأسماء على التترات وأفيشات السينمات، خناقات أزلية، وانطلاقًا من المثل القائل "يابخت من كان النقيب خاله" فيابخت من كان منتج الفيلم راضٍ عنه، فمبال إن كان منتج الفيلم هو نجم بحجم المليجي.
بداية من فيلمه الأول –المغامر- الصادر عام 1947 والذي لم يحقق نجاحا يذكر، مرورًا بأفلام مثل سوق السلاح، و"ألو أنا القطة"، كتب المليجي اسمه على جانب الأفيش فوق ذيل القطة، وكانت الصدارة لنجوم شباب هما نور الشريف وعادل إمام؛ معلنًا عن نفسه وبإرادته أنه نجم فضي لا هو ماسي ولا ذهبي، حتى في الأفلام التي حظيت بتوقيعه كمنتج.
عندما سئُل المليجي عن نقاط ضعفه، قال إنه لا يريد أن يكون مثاليًا "أنا مش عايز الناس تقول عليّ مثالي لكن بشرفي أنا مشكلتي إني متواضع زيادة عن اللزوم".
حين ترى موهبة المليجي التي هي ملء السمع والبصر، وتعرف أنه لم يكن يومًا نجمًا بالمفاهيم التقليدية، تصدق على الفور رأيه في نفسه بأنه متواضع حد تضيع حقوقه، لكن في رأيي أن الموضوع كان له بعدًا آخر.
المليجي طوال الوقت كان خائفًا من المستقبل، لم يكن له أولاد يخشى على مستقبلهم ولكنه كان يخشى أن يكون مصيره مثل مصير الكثيرين من النجوم الذين سبقوه، تحدث مرة في أحد حوارته بانفعال شديد عن النجوم الذين يجبرهم السن على التقاعد ثم لا يجدون أموالا تكفيهم قوت يومهم، وهم من هم أصحاب الأسماء التي كانت تتجلي في سماء الفن.
حتى أنه أعلن حقده الواضح على موظفين الحكومة الذين يجدون في النهاية مكافأة نهاية خدمة ومعاش.
هذه القناعة وهذا الخوف، ربما يفسر بشكل واضح، لماذا أراد أن يبقى المليجي في الصفوف الثانية وأحيانًا الثالثة؛ أراد ألا يعتقد الصناع يومًا أنه النجم الذي لا يريد أن يسبق اسمه أحد فيبقى حبيس منزله لسنوات كغيره من النجوم الذين أرادو أن يبقوا في الصف الأول، الصف الأول وفقط.
التعاون الأول بين المليجي والمخرج يوسف شاهين جاء في ثاني أعمال المخرج وهو فيلم ابن النيل، قدم خلاله دور الرجل الشرير الذي اعتاد عليه، بل وبحسب يوسف شاهين كان الدور "ملخبط ومكتوب غلط"، لكن ذلك لم يمنع موهبة المليجي الطاغية من البروز حتى شعر بها شاهين وعلم أن بإمكانه تقديم شيء استثنائي.
الأرض.. آتى الدور الاستثنائي، ولكن المليجي قدمه وفي قلبه غصة لم يعلم بها أحد، فهو من هو يأتي اسمه متأخرًا عن نجوى إبراهيم، هذا الوجه الشاب الجديد، محدودة الموهبة، بل والأكثر من ذلك أن أجره كان أقل منها.
المليجي المعجون بالفن، لم يدفعه ذلك كله إلى العمل بمفهوم السوق على قد فلوسهم، وإنما قدم دور من أهم أدواره، ومن أهم الأدوار التي قدمت في السينما بشكل عام، دور طبع عليه من روحه متجاهلًا آراء المخرج الذي يرفض أن يتجاهله أحد، وإنما سمح بذلك للمليجي في استثناء لم يتكرر في حياة هذا المخرج كثيرًا.
النجاح المدوي الذي حققه الفيلم والذي حققته شخصية أبو سويلم، جعل المليجي يعتقد، أن "الزهر لعب"، وأنه أخيرًا بعد كل هذا العمر في السينما، سوف يجلس واضعًا قدم على قدم يختار أدواره، والأهم أجره.
لكن هذا لم يحدث انطفأت شعلة النجاح، وقدم أعمال مميزة لكنها لم تكن أدوار بطولة ظل نجم فضي، حتى في الأعمال التي قدمها بعد ذلك مع يوسف شاهين نفسه، وهما إسكندرية ليه، وعودة الابن الضال.
يقول يوسف شاهين إن المليجي خانه ورحل عن دنيانا سريعًا قبل أن يحققا معًا تقديم أعمال فنية استثنائية نابعة من مخزون محمود المليجي الذي لم ينضب ولم يجف حتى آخر يوم في عمره، لكن هل كان بمقدور شاهين أن يقدم للمليجي ما يستحقه من تقدير أدبي ومادي، ويدفعه -رغمًا عنه- من مقصورة الرجل الثاني، النجم الفضي، إلى نجم ذهبي مضيء ولو لمرة واحدة؟.