لغز جمال الدين الأفغانى «١»
خصصت المقال السابق للحديث عن الإمام محمد عبده، بمناسبة صدور كتاب جديد، يحمل لنا أيضًا الجديد عنه، وعن مشروعه لاستقلال مصر بعد الاحتلال البريطانى لمصر فى عام ١٨٨٢. ووجدتنى أعود مرة أخرى للدراسات عن محمد عبده، وعن أستاذه المشهور جمال الدين الأفغانى، هذا الثائر الإسلامى والمصلح الدينى، الذى لا يزال حتى الآن يتردد صدى أفكاره فى شتى بقاع العالم الإسلامى، كما ما زالت سيرته تثير الجدل بين الباحثين، ولا سيما حول شخصيته التى يحيط بها الكثير من الغموض والألغاز.
ومن النقاط المثيرة فى تاريخ جمال الدين الأفغانى، أصله العرقى، ومذهبه الدينى. وأتذكر أن الدكتور لويس عوض قبيل وفاته كتب عدة مقالات عن جمال الدين الأفغانى، ضمنها بعد ذلك فى دراساته عن الفكر المصرى الحديث. وفى الحقيقة أثارت هذه المقالات جدلًا كبيرًا، بل ضجة كبرى عندما تعرض لويس عوض لمسألة ماهية جمال الدين الأفغانى، من حيث أصله العرقى، ومذهبه الدينى؛ إذ أكد عوض عدم صحة نسبة السيد جمال الدين الأفغانى إلى أفغانستان، وذهب إلى أن أصل الرجل يعود إلى إيران، وإلى أن مذهبه الدينى هو المذهب الشيعى، وليس المذهب السُّنى. وأتذكر أن الدنيا آنذاك قامت ولم تقعد، ووجه البعض تهمة التعصب إلى لويس عوض، وأنه يريد هدم رمز من رموز الإصلاح الإسلامى، أى جمال الدين الأفغانى.
وهناك فريق آخر من نقاد لويس عوض لم يذهبوا إلى اتهامه بالتعصب الدينى، وإنما ذهبوا إلى أن عوض فى حقيقة الأمر قد سطا على أفكار المؤرخة الأمريكية نيكى كيدى، التى أصدرت عدة دراسات فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وذهبت فيها إلى عدم صحة النسب الأفغانى، وأنه من أصل إيرانى، بل إن «الأفغانى» كان شيعى المذهب، وإنه قد انتحل الأصل الأفغانى لينفى عن نفسه الأصل الإيرانى والانتماء إلى المذهب الشيعى.
والحق أن مسألة أصل «الأفغانى» هى أحد الألغاز المثيرة فى حياة هذه الشخصية العجيبة والمثيرة للجدل. وقد صدر فى مصر فى عام ١٩٥٧ كتاب مهم فى هذا الشأن، حرره بعض أهم أساتذة اللغة والحضارة الفارسية فى الجامعات المصرية، وهما: صادق نشأت وعبدالنعيم حسنين. ولقد اختارا عنوانًا مثيرًا للكتاب: «جمال الدين الأسد آبادى المعروف بالأفغانى، كما يقدمه ابن أخته ميرزا لطف الله خان». ويؤكد الكتاب إيرانية وشيعية جمال الدين «الأفغانى»، وأن أسرته ما زالت تعيش فى مدينة أسد آباد فى إيران، حتى تاريخ صدور الكتاب. ويقدم الكتاب العديد من الأدلة التاريخية، من وجهة نظرهم، حول هذا الأمر، منها أن اسم والد «الأفغانى» هو أحد أسماء الإمام علىّ بن أبى طالب باللغة الفارسية، وأن ابن أخته هو إيرانى شيعى. ويوضح الكتاب أن التعليم الذى تلقاه الأفغانى فى شبابه كان على أساس علوم المذهب الشيعى. كما يذكر الكتاب حادثة طرد السلطان العثمانى عبدالحميد الثانى للأفغانى من إسطنبول بعد اكتشافه هذا الأمر. والحق أن الكتاب يقدم العديد من الأدلة التاريخية فى هذا الشأن.
ويفسر الكتاب لماذا انتحل «الأفغانى» هذا الأصل، ولماذا أخفى تشيعه، وادعى الانتماء السُّنى، ويرى الكتاب أن هذا الأمر كان مهمًا وضروريًا لتسهيل مهام «الأفغانى» ودوره الإصلاحى، سواء فى إسطنبول عاصمة العالم السُّنى، أو فى القاهرة والأزهر منارة العِلم السُّنى.
وفى حقيقة الأمر ليس هذا هو اللغز الوحيد فى سيرة «الأفغانى»، وإنما هناك العديد من الألغاز، منها انتماؤه إلى المحافل الماسونية، وهو ما سنتعرض له فى المقال المقبل.