زينة الزينات.. شمعة البهجة التى أكلها التجاهل والنكران
البداية.. زينات صدقى وصديقتها خيرية صدقى أثناء عملهما فى كازينو «بديعة» «بنات بحرى» أشهر لوحات محمود سعيد
محمود سعيد الرسام المصرى الأشهر له لوحة خالدة اسمها «بنات بحرى» أبدعها عام ١٩٣٧ وصنفت من حينها كواحدة من أهم لوحات الفن التشكيلى فى تاريخ الفن المصرى، استعان صالح جودت بالكلام عنها فى مقاله الذى نشره فى الكواكب عن زينات صدقى عدد ٢٢ سبتمبر ١٩٥٣، وقال جودت نصًا «لست أدرى ممن استوحى الفنان محمود سعيد هذه اللوحة الفريدة، ولكن أغلب الظن أنه استوحاها من حسناوتين من بنات بحرى كانتا تخطران على البحر فى سنة ألف وتسعمائة وكذا وثلاثين فتملآن القلوب نشوة والعيون نورًا».
وكان يقصد هنا بالحسناوتين زينات صدقى وخيرية صدقى اللتين حضرتا سويًا من بحرى لتعملا معًا ولهما صورة شهيرة فى سن العشرين بجمال فاتن أخاذ أثناء العمل راقصات فى كازينو بديعة.
لم يكن صالح جودت، وهو الشاعر الكبير، يقصد المعنى الحرفى بكون زينات صدقى هى الملهمة لمحمود سعيد أثناء رسمه لوحة بنات بحرى، لكنه كان يقصد مجازيًا؛ لبيان مدى سحر جمالها حينها، وهى بنت العشرين.
زينب محمد سعد ولدت فى حى الجمرك بالإسكندرية، وعندما وصلت لسن الرابعة عشرة زوجها أبوها لطبيب يكبرها بـ٢٥ سنة، لكن الزيجة لم تستمر إلا شهورًا قليلة ولما حدث الانفصال أيقنت بعدها أن روح التمرد التى بداخلها لن تستقيم مرة أخرى فى بيت الأب، الذى كان حريصًا على تزويجها مرة أخرى فى أسرع وقت، لكنها فرت إلى قدرها وسارت فى طريق الفن، بدأته بالعمل مطربة وراقصة فى الفرق المتجولة.. وهو أمر لا يمكن وصف مدى شقائه وصعوبته خلال عشرينيات القرن الماضى. فرت زينات من هذا الشقاء إلى الاستقرار فى قاهرة الفنون، وبالفعل انضمت إلى فرقة بديعة مصابنى قبلة الفنانين فى ذلك العهد.
زينات لم تجد نفسها فى الرقص، شعرت أن بداخلها طاقة فنية أخرى من نوع خاص لا يستوعبها غير المسرح، وليس أى مسرح، إنما مسرح الريحانى بجلالة قدره.
ولأن الأقدار أحيانًا تخدم من يستحق فقد خدمت زينات، بأن ساقت إليها نجيب الريحانى بنفسه فى إحدى رحلاتها كراقصة إلى الشام، والريحانى رجل لا يمل من اكتشاف نبتة الموهبة داخل أى إنسان أمامه، فكما بحث عن عبدالفتاح القصرى الشاب الغلبان الذى صفعه جورج أبيض وطرده بعد أن أصاب الجمهور بهيستيرية ضحك فى مشهد تراجيدى، وجعله نجمًا من نجوم فرقته، فقد لاحظ أيضًا جذوة الموهبة تضوى داخل الراقصة الشابة فى فرقة بديعة زينات صدقى واختطفها وضمها إلى فرقته موقنًا بأن وقتها آت لا محالة.
وبالفعل بدأت زينات تخط اسمها داخل تاريخ مسرح الريحانى على استحياء شديد بأدوار صامتة، ثم تطورت لأن تقول جملة أو جملتين على الأكثر حتى غدت نجمة من نجوم العرض، فلجأ الريحانى إلى خبيئته التى ادخرها «لوقت عوزة»، فأدت زينات صدقى الدور أفضل من صاحبته، وهنا بدأت مرحلة جديدة من حياة بنت بحرى التى أتت لتغزو القاهرة بفنها وخفة دمها.
التوهج.. تميمة حظ الخمسينيات وحبيبة سمعة والعندليب
توفى الريحانى عام ١٩٤٩ تاركًا أغلب تلاميذه نجومًا فى السينما والمسرح، وهكذا كانت زينات صدقى تغادر حقبة الأربعينيات نجمة من نجوم الأدوار المساعدة لتدخل العقد الذهبى بالنسبة لها، وهو عقد الخمسينيات، حيث تحولت زينات إلى طاحونة «شغل» لا تهدأ بدأتها بسنة ٥٠ مثلًا بأحد عشر فيلمًا، وهو عدد كبير من الأفلام أخذت تتأرجح حول هذا العدد ينقص قليلًا ويزيد حتى وصل فى عام من أعوام الخمسينيات إلى ٢٢ فيلمًا وهو عام ١٩٥٤.
وتحولت زينات إلى تميمة حظ لكل نجوم المرحلة فكانت ملازمة لإسماعيل ياسين كظله فى أغلب أفلامه التى كانت دائمًا ما تحقق أعلى الإيرادات، ومنها بالطبع ابن حميدو «مضاد الاكتئاب القومى» الذى جمعها مع عبدالفتاح القصرى أيضًا عام ١٩٥٧.
بالإضافة لسمعة كان صاروخ الغناء الصاعد عبدالحليم حافظ يحفر اسمه فى عالم السينما بالذهب عبر أداء أدوار الفتى الرومانسى المظلوم أغلب الأحيان وصاحب النظرات الحالمة، ارتبط حليم نفسيًا بماما زينات كما كان يناديها وأحب وجودها بجانبه ولها موقف شهير معه أثناء تصوير فيلم «شارع الحب» أحد أهم أفلام العندليب عندما كانت تفتح طعامها الذى تحضره لها ابنة أختها يوميًا إلى موقع التصوير لأنها لا تأكل من الخارج أبدًا، فمر عليها حليم بينما تستعد لالتهام طعامها البيتى، نادت عليه تدعوه لمشاركتها الطعام بإلحاح شديد لكنه رفض بأدب، وعندما زادت فى إلحاحها كشف لها العندليب ما أدمى قلبها الحانى، وجعلها تترك الطعام كما هو ولا تقترب منه، حيث أخرج حليم من جيبه علبة فيها أنواع من العقاقير المختلفة وقال لها «ده أكلى يا ماما زينات».
لم يكن هذا القلب الرهيف جديدًا على زينات التى وقفت ذات يوم لتشتبك لفظيًا بحدة شديدة مع كبار فرقة الريحانى التى تنتمى إليها، وهم بديع خيرى وسراج منير وعباس فارس، والسبب كومبارس غلبان كان يعمل فى الفرقة، وكانت دائمة العطف عليه وعلى بيته، وعندما مات تكفلت بمصاريف جنازته لكنها وجدت الجثمان يسير وحيدًا ووراءه أفراد أسرته فقط، فأخذت تنادى من يجلسون على المقاهى لكى يشاركوا فى تشييع الجنازة.. وبعد أن دُفن الرجل رجعت مسرعة إلى مسرح الريحانى لتحتد على زملائها الكبار فى الفرقة وتقول بأعلى صوتها «ما هو لو كان اللى فى الخشبة يوسف وهبى ولا محمد عبدالوهاب كان زمانكوا بتجروا عشان تطلعوا فى الصور».
ظلت إنسانيتها الرقيقة ملازمة لها طوال فترة توهجها، ولم تتغير أبدًا حتى على المستوى المادى؛ لأن كل دخلها مهما زاد كانت مطالب أسرتها الكبيرة التى تكفلت بها تبتلعه أولًا بأول.
الانطفاء.. جليل البندارى ينبه عبدالناصر لمأساتها بمقال أخبار اليوم
الحق أن الكاتب الصحفى ماهر زهدى قد تناول حياة زينات صدقى فى كتاب بديع، كتبه بشكل درامى مذهل فى إنسانيته.. وأسلوب سرد رائق يستحق عليه الامتنان والاحتفاء.
رصد زهدى انحدار الخط البيانى لنجومية زينات صدقى المبهرة وهو الانحدار الذى توازى مع تهاوى نجومية بطل الخمسينيات الأول والأعلى أجرًا إسماعيل ياسين، حيث شهد عام ١٩٦٣ نقطة تحول فى حياة زينات التى أتى عليها أيام كانت ترفض الرد على التليفونات حتى لا تلتزم بأعمال جديدة لا تجد وقتًا لتمثيلها.. لكنها فى هذا العام تحديدًا شاركت رفيق لـَمعانها سمعة فى فيلم «المجانين فى نعيم»، والذى لم يكن فيه إسماعيل هو البطل الأوحد كما كان معتادًا، وجاء أشبه بسنيد للبطل الفعلى وهو نجم المرحلة رشدى أباظة.
وأدت فيه زينات دورها الذى ظهرت فيه ملامح كبر السن عليها ما دفع المنتجين للتردد فى عرض أى أدوار عليها، فوجدت نفسها أسيرة بيتها لمدة سنتين كاملتين لم تعمل فيهما زينات صدقى، وتثاقلت عليها الديون لتتحول حكايتها إلى بوادر مأساة قد تشبه أباها فى فيلم «ابن حميدو» المعلم حنفى أو عبدالفتاح القصرى صديقها ورفيق الكفاح.. والمفارقة أنه مات بطريقة دراماتيكية مثلما قلنا سابقًا عام ١٩٦٤، حينما كانت زينات فى عز أزمتها المادية والمهنية.
استفز وضع زينات كاتبًا ثقيلًا مثل جليل البندارى الذى كتب مقالًا لأخبار اليوم فى منتصف الستينيات يقول فيه صارخًا:
«لم أصدق أن فنانة عظيمة من تلميذات الريحانى يحدث لها هذا، وأن أخف الممثلات دمًا تضطر إلى أن تبيع أثاث بيتها قطعة قطعة لأجل أن تسدد الضرائب وأن تأكل، لأنها تجلس بلا عمل، ويمنعها كبرياؤها أن تطلب المساعدة من أحد، وفى الوقت نفسه، من دون أن يشعر بها أحد من الدولة»!
من رأى هذا المقال يا تُرى؟
رآه الشخص الصحيح تمامًا، وهو الرئيس جمال عبدالناصر الذى بادر بالاتصال بوزير إرشاده ثروت عكاشة؛ لتُوضع زينات على قائمة المكرمين فى عيد العلم الذى أقيم فى ٢١ ديسمبر ١٩٦٦، وحصلت على شهادة تقدير ومبلغ ١٠٠٠ جنيه، فرحت به بالطبع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أركان بيتها البسيط.. وكان هذا التكريم بمثابة جرس تنبيه للمنتجين لمعاودة الاستعانة بزينات فى أفلامهم مرة أخرى فمثلت فيلم «رجل وامرأتان» فى نفس العام، وشاركت حليم فيلمه الجديد «معبودة الجماهير» عام ١٩٦٧.
ثم جاء دور النكسة لتجهز على ما تبقى من أمل لدى زينات فى الخروج من الكبوة المادية، حيث جاءت الهزيمة التى منى بها الوطن فى ذلك العام المشئوم بمثابة أمر بإغلاق كل روافد الفن، وهاجر الفنانون المصريون إلى لبنان وسوريا وتركيا بحثًا عن متنفس لفنهم حتى لو تورطوا فى النهاية فى أفلام مقاولات رخيصة تسىء لهم، وهو ما كان مستحيلًا بالطبع على زينات صدقى التى استسلمت للأمر الواقع، واكتفت بفتات الأدوار التى تجيئها بين الحين والآخر سواء فى السينما أو المسرح.. وتفرغت تمامًا لعائلتها المتمثلة فى إخوتها وأولادهم الذين صاروا منذ ولادتهم أولادها هى.. وبقيت تعانى التجاهل والنكران من أقاربها الذين يعيشون فى الإسكندرية حتى وجدت الفرصة لترد عليهم عام ١٩٧٣، عندما كرمها عبدالقادر حاتم ضمن قدامى الفنانين مع منحها معاشًا استثنائيًا.. وكان أهم إنجاز حققته من وراء هذا التكريم هو نظرة التحدى والعتاب لهؤلاء الأقارب عبر كاميرا التليفزيون المصرى- كما قلنا- ودعاءها الكاشف «اللهم انصر الفنانين على قرايبهم اللى مش بيعترفوا بالفن».
النهاية.. كيف حاول السادات إصلاح ما أفسده الزمن.. وفشل؟
«تفضل السيد أنور السادات رئيس الجمهورية بمنح السيدة زينات صدقى معاشًا استثنائيًا تقديرًا لما أدته لوطنها فى مجال الفن».
كان هذا هو نص شهادة التقدير التى استلمتها زينات من عبدالقادر حاتم سنة ١٩٧٣.. بالتأكيد قرأت زينات نص شهادة التقدير أكثر من مرة شاعرة بالانتصار والزهو، وبالتأكيد أيضًا كان هذا الأمر أكثر من كاف بالنسبة لها؛ لتكون راضية وهى القنوعة دائمًا، لكن القدر أراد أى يعزز من هذا الاعتراف الرسمى بقيمتها بأن وجدت نفسها بعد هذا الحفل بثلاث سنوات واقفة أمام السادات بشحمه ولحمه على مسرح عيد الفن سنة ١٩٧٦، وهو يميل عليها بنفسه يعبر عن إعجابه بفنها ويحثها على أن تطلب منه أى شىء، لكنها كعادتها لم تطلب شيئًا بل اعتبرت مقابلة الرئيس وثناءه عليها هما أكبر مكافأة، وسلاحًا تواجه به الجحود والنكران.
حتى عندما احتد عليها المرض بنصاله القاسية رفضت أن تستغل العشم الذى زرعه السادات أثناء التكريم، حيث مال عليها وأعطاها رقمه الخاص قائلًا «لما تعوزى أى حاجة كلمينى أنا اللى هرد عليكى»، حينها ألحت عليها ابنة شقيقتها ورفيقتها نادرة أن تستغل هذا الأمر وتكلم السادات تطلب منه إنقاذها من براثن المرض بقرار علاج على نفقة الدولة، لكنها غضبت بشدة على حد حكى نادرة نفسها سنة ٢٠٠٥ للزميل أيمن الحكيم الذى نشره فى انفراد بديع فى جريدة «روزاليوسف»، وقالت لها زينات: «لأ سيبى الراجل فى مشاكله، اللى عنده مكفيه، كفاية إنه عملّى معاش استثنائى وبيدونى ٧٥ جنيه فى الشهر». الحقيقة أن هذا التصرف من زينات كان مكملًا لصورتها الإنسانية المبهرة فى خصالها، فبجانب عطائها المفرط الذى توزعه على القريب والبعيد فهى تمتلك عزة نفس لا تضاهى، تمنعها من طلب العون من غير الله، وهذا ليس تعبيرًا مجازيًا فقد أثبته انفراد أيمن الحكيم برسائلها إلى الله التى كتبتها بخط يديها وحفظتها فى مصحفها الصغير، ومنحت «نادرة» الحكيم حق نشرها. الرسائل على قدر صدقها كان وجعها أشد، فى إحداها مثلًا كتبت بالنص «يارب افتحها فى وشى.. يارب هاتلى شغل.. يارب أرجع أشتغل تانى». وفى رسالة أخرى أكثر كشفًا لطيبة وعظمة تلك المرأة تقول فيها بالنص «يارب توب عليا من الشاى والسجاير، يارب تكرم نادرة، وتهدى لها عيالها طارق وعزة، يارب تحنن عليا قلب صاحب البيت وتخليه يصبر عليا فى الأجرة المتأخرة.. يارب ساعدنى ووفقنى وأكرمنى فى صحتى وابعتلى شغل». وفى النهاية ذهبت زينات صدقى إلى من استجارت به ودعته يوم ٢ مارس ١٩٧٨، بينما كان الرئيس السادات ينتظر مكالمتها التى لم تأت أبدًا.