التاريخ يحكم بالوثائق.. «الدستور» تكشف دور القاهرة فى إرساء السلام بمنطقة الشرق الأوسط
وسط صرخات اليتامى، وآهات الثكالى، ودماء الجميع فى غزة، كان أشد ما يشغل بعض المنصات والقنوات الإخبارية التشكيك فى جدوى دور مصر فى مفاوضات إنهاء الحرب فى غزة، مثلما بلغ التبجح مداه بالترويج لإغلاق معبر رفح فى وجه المساعدات، برغم ما يثبته البث المباشر يوميًا من دخول المساعدات المصرية والعالمية مرورًا بالمعبر على مدار الساعة.
وبصورة مباشرة، أو ضمنية، دلل هؤلاء على تراجع دور المفاوض المصرى بدخول الجانب القطرى على خط مباحثات الهدنة ووقف إطلاق النار فى غزة. برغم ما فى ذلك من مغالطات تاريخية، وسياسية. أقلها، أن من يسعون حقًا وصدقًا لوقف الحرب فى غزة، سيرحبون بكل مساهمة فى سبيل تحقيق الهدف الأسمى، دون انشغال بانحيازات تليق بمشجعى كرة القدم، لا بتحليل للسياسة الدولية.
أما المغالطة الأهم، ففى تعمد هؤلاء إغفال الإشارة إلى أن الدور القطرى على وجه التحديد فى هذه المفاوضات وغيرها، راجع إلى انفراد "الدوحة" باحتضان مكتب القيادة السياسية لحركة حماس منذ عام ٢٠١٢ فى وقت تصنفها أطراف أخرى عديدة كـ"منظمة إرهابية"، فضلًا عن المساهمات المالية غير المحدودة التى قدمتها قطر لـ"حكومة حماس" فى غزة، بهدف تسيير مهام الحكم، وترسيخ سلطتها فى القطاع طوال سنوات مضت.
ومن ثم، فقبول الوساطة القطرية هنا، مرهون بشكل أساسى برغبة وقبول قيادات "حماس"، الطرف الأساسى فى الأزمة الحالية، فى مواجهة جيش الاحتلال.
وإن كانت القاهرة تسعى بكل جهد مخلص لإنهاء الحرب، وتخفيف معاناة الأهل فى غزة، فلا شك أنها ترحب وتتفهّم كل المساعى الدولية الأخرى لتحقيق الهدف ذاته.
ليس فقط لأن مصر تؤمن بأن مصلحة غزة وفلسطين كلها مقدمة على أى اعتبارات سياسية أخرى. بل لأن مصر واثقة فى دورها التاريخى الراسخ تجاه القضية، بما لا يقبل أى مقارنات ساذجة ومغرضة. وعلى من نسى المساعى المصرية لتحقيق السلام العربى والإقليمى والدولى بكل السُبل المتاحة فعليه قراءة التاريخ.. أو لنقرأه عليه هنا.
1949الهدنة.. فرصة للسلام المؤقت
قبل سبعة أشهر من صدور قرار "الأمم المتحدة" بتقسيم فلسطين عام ١٩٤٧، كانت مصر فى صدارة الدول التى طالبت الأمم المتحدة رسميًا بإنهاء الانتداب البريطانى وإعلان استقلال فلسطين.
وحين وقعت الواقعة، وتم إعلان دولة إسرائيل، ودخلت القوات العربية لتحرير فلسطين يوم ١٥ مايو ١٩٤٨، وجدت فى مواجهتها قوات إسرائيلية يزيد عددها على ٣ أضعاف القوات العربية، مع تسليح أكثر تطورًا، ودعم غربى مفضوح.
فى ميدان المعركة، أدركت مصر خطورة غياب التنسيق العسكرى بين القوات العربية المشاركة فى حرب فلسطين عام ١٩٤٨. فكانت الهدنة خيارًا مرًا للسلام المؤقت، لحين ترتيب البيت العربى قبل المواجهة التالية.
ومع تضارب قرارات وتحركات القوات العربية، وعدم التزام القوات الإسرائيلية بقرارات وقف إطلاق النار، وجدت مصر أنه لا مفر من قبول مفاوضات الهدنة العسكرية، التى عقدت فى جزيرة رودس اليونانية مطلع عام ١٩٤٩.
وأشرفت "الأمم المتحدة" على الهدنة باعتبارها "خطوة لا غنى عنها فى سبيل تسوية النزاع المسلح وعودة السلام إلى فلسطين".
ورفض المفاوضون المصريون الجلوس على مائدة واحدة مع الوفد الإسرائيلى، وتمسكوا بصياغة محددة للمادة الخامسة من اتفاقية الهدنة تشدد على أن "خط الهدنة هو مجرد خط عسكرى لوقف إطلاق النار، ولا يمثل حدودًا سياسية أو إقليمية لفلسطين، ولا يمس أى حقوق تتعلق بالتسوية النهائية لقضية فلسطين مستقبلًا".
وقد التزمت القوات العربية الأخرى التى وقعت اتفاقيات هدنة مماثلة، بهذه الصياغة التى حرمت إسرائيل من استغلال حالة الارتباك العربى للسيطرة على كامل فلسطين فى ذلك الوقت.
وكان الأمل أن تستغل الدول العربية فرصة الهدنة وسلامها المؤقت فى تقوية الجيوش وتعميق التنسيق الدبلوماسى، استعدادًا لجولة جديدة فى الصراع العربى الإسرائيلى.
1955 مصر رائدة "عدم الانحياز"
تحت شعار "نحن ضمير العالم، ولسنا عضلاته"، أسهمت مصر فى تأسيس حركة عدم الانحياز أوائل ستينيات القرن العشرين، كخطوة على طريق تحقيق السلم والأمن الدوليين.
وكان الهدف الأساسى للحركة حشد أكبر عدد من الدول التى ترفض مبدأ الانحياز لإحدى القوتين العظميين: أمريكا والاتحاد السوفيتى.
وبدأت مساعى تأسيس حركة عدم الانحياز بـ"مؤتمر باندونج" الشهير الذى استضافته إندونيسيا عام ١٩٥٥. وشاركت فيه ٢٩ دولة، فى مقدمتها: مصر والهند ويوغوسلافيا.
وبفضل روح التعاون التى جمعت بين الرؤساء: جمال عبدالناصر، و"جوزيف تيتو" رئيس يوغوسلافيا، و"جواهر لال نهرو" رئيس وزراء الهند، تواصلت جهودهم معًا لترسيخ مبادئ عدم الانحياز.
ونجح الزعماء الثلاثة فى إقناع قادة دول العالم الثالث بخطورة تبعات الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتى، وضرورة التحرر من التبعية السياسية للمعسكرين الشرقى والغربى.
وفى ١٩٦٠، انضمت إلى الأمم المتحدة ١٧ دولة إفريقية وآسيوية دفعة واحدة. وبعدها بأسبوع، وقف الرئيس عبدالناصر فى الجمعية العامة للأمم المتحدة يخاطب ضمير العالم، داعيًا إلى تأييد مبادئ "عدم الانحياز".
وواجه الرئيس عبدالناصر زعماء العالم بحقيقة هيمنة الدول الكبرى على قرارات الأمم المتحدة، وقال: "إنه من الواجب ألا تنسى الأمم المتحدة نفسها، أو تنسى ميثاقها وقراراتها، وإلا فإننا نشجع بذلك الذين يحاولون تناسى الأمم المتحدة وتجاهل وجودها".
وفى سبتمبر ١٩٦١، تكللت جهود مصر وشركائها بتأسيس حركة عدم الانحياز رسميًا. وقد منحت مصر رئاسة المنظمة لدورتين متتاليتين، فى إجراء استثنائى انفردت به مصر من بين كل أعضاء المنظمة، تكريمًا لها وتقديرًا لدورها الريادى فى نشر مبادئ "عدم الانحياز" باعتبارها طريقًا آمنًا لتحقيق السلام.
1964القاهرة.. صوت فلسطين
لم تنقطع جهود مصر دفاعًا عن حق الشعب الفلسطينى فى السلام. ولأنه كان من الضرورى أن يسمع العالم صوت الفلسطينيين أنفسهم يطالبون بحقوقهم بعد حرب ١٩٤٨، عملت القاهرة على بلورة الكيان السياسى الفلسطينى وفتح أبواب المحافل الدولية أمامه.
وقد بدأت تلك المساعى بدور مصر فى استصدار قرار من جامعة الدول العربية عام ١٩٥٢ باعتبار المندوب الفلسطينى فى الجامعة ليس مندوبًا عن عرب فلسطين وحدهم، بل عن فلسطين بأكملها.
كما أسهمت مصر فى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لتكون ممثلًا شرعيًا للشعب الفلسطينى. وفى مؤتمر القمة العربى الأول الذى استضافته القاهرة عام ١٩٦٤، تكللت جهود الرئيس جمال عبدالناصر بتكليف السياسى الفلسطينى أحمد الشقيرى بوضع مشروع لميثاق المنظمة الفلسطينية ونظامها الأساسى.
1969«اتفاق القاهرة» ينقذ لبنان والمقاومة
حين بدأ العام ١٩٦٩، بدأت معه بوادر الصدام بين الجيش اللبنانى والفدائيين الفلسطينيين. ورغم انشغال مصر بحرب الاستنزاف فى ذلك الوقت، لم تتخل القاهرة عن دورها فى التوفيق بين الأشقاء، ضمانًا للسلام.
كان التشنّج سيد الموقف بين أطراف الأزمة فى لبنان. وطالب بعض التيارات بطرد الفدائيين الفلسطينيين، وفى المقابل طالبت أحزاب بالإضراب والتظاهر دعمًا للمقاومة، متهمة خصومها بالعمل على تصفية القضية الفلسطينية. وتطرّف آخرون بالدعوة إلى الاستعانة بقوات أجنبية لحفظ السلام، بدعوى تحييد لبنان فى الصراع العربى الإسرائيلى.
وبعد سقوط قتلى وجرحى فى مواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن فى بيروت، قدمت الحكومة اللبنانية استقالتها، فقبل الرئيس اللبنانى شارل الحلو وساطة الرئيس جمال عبدالناصر، الذى دعا أطراف الأزمة إلى اجتماع فى القاهرة.
وحضر إلى العاصمة المصرية رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وقائد الجيش اللبنانى إميل البستانى. وبعد مفاوضات طويلة، لتقريب وجهات النظر بين الأشقاء، تكللت المبادرة بالنجاح، وتم إعلان "اتفاق القاهرة" فى مطلع نوفمبر ١٩٦٩.
كان لبنان على أبواب حرب أهلية قبيل إعلان "اتفاق القاهرة"، الذى نظم الوجود الفلسطينى فى لبنان، وأعطى الشرعية للمقاومة الفلسطينية انطلاقًا من الأراضى اللبنانية، دون مساس بالسيادة الوطنية.
وقد حظى "اتفاق القاهرة" بتأييد أغلبية القيادات السياسية العربية بمجرد إعلانه. وثمّن القادة العرب موقف مصر القادرة على فرض السلام، على الرغم من احتجاج إسرائيل على "اتفاق القاهرة" باعتباره خرقًا للهدنة بين إسرائيل ولبنان عام ١٩٤٩.
معاهدة عمرها 3000 عام
بالقرب من أحد مداخل مجلس الأمن الدولى، توجد نسخة طبق الأصل من أقدم معاهدة سلام دولية موثقة فى التاريخ، يزيد عمرها على ٣٠٠٠ عام. فى هذه المعاهدة المصرية. أدرك المصريون القدماء أهمية السلام والاستقرار لبناء حضارتهم، فتمكّنوا من استثمار مواردهم البشرية فى إثراء فنون البناء والزراعة والتجارة. وحين كانت الحرب ضرورة حتمية، كان المصرى القديم يخوضها باعتبارها سبيلًا لفرض السلام من جديد.
وتشهد على ذلك معاهدة "قادش" للسلام، التى وقعها الملك رمسيس الثانى مع ملك الحيثيين "هاتوسيلى الثالث" عام ١٢٦٩ قبل الميلاد، بعد سنوات من الحروب والنزاعات الحدودية. وتنص المعاهدة على الالتزام بالسلام الدائم، وضمان سلامة الأراضى، وعدم الاعتداء، وكذلك: الصداقة بين الشعبين، والتعاون التجارى، وتسليم المجرمين الفارين، وغيرها من مبادئ السلام التى قامت عليها المنظمات الدولية فى العصر الحديث. ولعل فى احتضان مقر "الأمم المتحدة" نسخة من المعاهدة المصرية القديمة نوعًا من رد الاعتبار لمصر، بعد أن عرقل الاحتلال البريطانى انضمامها إلى منظمة "عُصبة الأمم"، التى تأسست على أنقاض الحرب العالمية الأولى. وقد تأخر انضمام مصر إلى "عصبة الأمم" نحو ١٨ عامًا، حتى تم توقيع المعاهدة المصرية البريطانية عام ١٩٣٦، لتنضم مصر إلى المنظمة الدولية فى العام التالى. وبعد أن تحولت "عصبة الأمم" إلى منظمة "الأمم المتحدة"، جرى تعويض مصر بانتخابها عضوًا غير دائم بمجلس الأمن فى يناير ١٩٤٦.
1970 القاهرة تُنهى «أيلول الأسود»
كانت الوساطة المصرية لوقف القتال بين الجيش الأردنى والمقاومة الفلسطينية فى سبتمبر ١٩٧٠، آخر ما فعله الرئيس جمال عبدالناصر فى حياته.
لم يمنعه المرض وتحذيرات الأطباء عن أداء واجبه تجاه الأشقاء. وكأنه كان يُجسّد التزام مصر بأن تكون شقيقة كبرى، وحضنًا أكبر على الدوام.
اشتُهرت أحداث شهر سبتمبر أو أيلول ١٩٧٠ بـ"أحداث أيلول الأسود"، تعبيرًا عن الصدمة التى خلفتها على المستوى العربى. لكن الأزمة تبلورت قبل ذلك بشهور، وتحديدًا فى فبراير من العام ذاته، حين أصدرت الحكومة الأردنية بيانًا من ١١ بندًا لتنظيم العلاقة بين اللاجئين الفلسطينيين والسلطات الأردنية، احترامًا للسيادة الوطنية.
وسرعان ما انطلقت حرب البيانات بين الطرفين، رفضًا واتهامًا بالسعى لتصفية القضية الفلسطينية. ثم تصاعدت الأزمة، حتى بلغت ذروتها فى سبتمبر، فصارت صدامًا مسلحًا بين الجانبين فى العاصمة الأردنية عمّان.
وزادت المأساة العربية تعقيدًا بتدخل الجيش السورى، وإعادة انتشار الجيش العراقى، وتهديد ليبيا والجزائر بالتدخل عسكريًا. كما حرّكت أمريكا أسطولها السادس فى البحر المتوسط، وأرسلت العشرات من طائرات الفانتوم إلى قاعدة تركية.
ومع التصاعد المتسارع للأحداث، دعت مصر إلى قمة عربية طارئة، واستقبلت القاهرة الملوك والرؤساء العرب لبحث سبل فرض السلام بين الأشقاء. ورفض الجانبان وقف إطلاق النار فى البداية، فأرسلت مصر وفدًا للوساطة فى موقع الأحداث.
وبعد أيام من الانعقاد المتواصل للقمة العربية فى القاهرة، نجحت جهود الوساطة. وفى ٢٧ سبتمبر ١٩٧٠ وقعت الحكومة الأردنية والمقاومة الفلسطينية اتفاقية القاهرة للصُلح بين الأشقاء.
1970 يد للسلام.. وأخرى للسلاح
بعد حرب يونيو ١٩٦٧، انشغلت مصر بإعادة بناء جيشها استعدادًا لمعركة تحرير سيناء، لكنها فى الوقت نفسه لم تغلق باب المفاوضات الدبلوماسية لتحرير الأرض. حتى جاءت المبادرة الأمريكية التى عرفت بـ"مبادرة روجرز للسلام" لتضع مصر أمام معادلة صعبة.
كان الرئيس جمال عبدالناصر قد أعلن بعد "النكسة" أن "ما أُخِذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة"، بعد أن تيقن من الموقف الإسرائيلى الرافض أى التزام بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة.
وفى مايو ١٩٧٠، وجّه عبدالناصر خطابًا مفتوحًا إلى الرئيس الأمريكى نيكسون خيّره فيه بين الضغط على إسرائيل للانسحاب، أو تعد أمريكا شريكًا مباشرًا فى احتلال الأراضى العربية.
وفى الشهر التالى مباشرة، جاء الرد الأمريكى على نداء عبدالناصر، حيث بادر وزير الخارجية الأمريكى ويليام روجرز إلى طرح مبادرة جديدة للسلام.
ورغم التشكك فى صدق النوايا الأمريكية والإسرائيلية، أعلنت مصر عن قبول مبادرة السلام ووقف إطلاق النار، رغم معارضة الأشقاء العرب. لكن مصر كانت تخطط لاستثمار الموقف فى صالح جيشها، فقامت بتحريك كتائب الصواريخ المضادة للطائرات خلال فترة وقف إطلاق النار.
وعلى عكس ما أرادت إسرائيل، حين دعمت مبادرة "روجرز"، لم تقبل مصر بسلام قائم على المساومة والحل الجزئى. وإنما استغلت مصر المبادرة لإعادة تشكيل "حائط الصواريخ" على جبهة سيناء. وهو ما كان له الدور الأبرز فى حماية قوات العبور فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، التى انتصرت فيها مصر، لتفرض سلامًا آخر، تحميه القوة.
1973 الحرب سبيل السلام
فى أكتوبر ١٩٧٣، لم تكن الحرب هدفًا فى حد ذاتها، وإنما كانت خيارًا مصريًا وحيدًا لتحرير الأرض وفرض السلام من جديد.
وعلى مدار سنوات النكسة وحرب الاستنزاف، تعددت محاولات مصر للوصول إلى حل سلمى لتحرير سيناء والأراضى العربية المحتلة، لكن العدو الإسرائيلى لم يستجب لمبادئ وقرارات المنظمات الدولية. فما كان من مصر إلا اللجوء للحرب، لإثبات فشل نظرية الأمن الإسرائيلى، وإجبار العدو على إدراك أن الاحتلال والسلام لا يجتمعان أبدًا.
ومن المفارقات المخطط لها أن طلبت مصر لقاءً بين وزير خارجيتها، ونظيره الأمريكى هنرى كيسنجر، صباح السادس من أكتوبر ١٩٧٣، بدعوى إحياء المفاوضات لتحرير الأرض واستعادة السلام دون حرب. بينما كانت مصر فى الواقع تستعد لتوجيه الضربة الأولى فى حرب أكتوبر، لفرض السلام بالقوة، وهى اللغة التى يفهمها العدو.
ولأن مصر لم تسعَ للحرب إلا من أجل التحرير والسلام، فقد وقف الرئيس أنور السادات أمام مجلس الشعب بعد ١٠ أيام فقط من العبور، ليطرح على قادة العالم مبادرة جديدة للسلام، تفرضها مصر، ولا تستجديها من أحد.
وبعد أن كاد المجتمع الدولى ينسى الصراع العربى الإسرائيلى، جاء نصر أكتوبر ليرفع من جديد مبدأ وشعار: "السلام القائم على العدل"، فسارعت الدول الكبرى إلى دعوة مصر والأطراف المعنية إلى مؤتمر جنيف للسلام.
وقد استثمرت مصر انتصارها العسكرى فى إعلاء مكانتها الدبلوماسية، فتفاوضت من منطلق القوة فى "مؤتمر جنيف"، وما تبعه من مبادرات دولية لتحقيق التسوية الشاملة وإعادة السلام إلى الشرق الأوسط.
1975 قناة السويس شريان سلام
كان حرص مصر على تطهير وإعادة افتتاح قناة السويس عام ١٩٧٥ رسالة سلام إلى العالم أجمع. وإبرازًا للفارق بين توابع العدوان الإسرائيلى عام ١٩٦٧، وحرب التحرير فى أكتوبر ١٩٧٣.
لهذا حرص الرئيس أنور السادات على اختيار يوم ٥ يونيو ١٩٧٥ ليكون موعدًا لعودة الملاحة الدولية إلى قناة السويس، وهو اليوم نفسه الذى شهد قبل ٨ سنوات العدوان الإسرائيلى الذى تسبب فى تعطيل الملاحة فى القناة، وحرمان العالم من أهم شرايينه التجارية. وفى خطاب إعادة الافتتاح، قال الرئيس السادات إن المصريين الذين شقوا هذه القناة بالعرق والدموع، لتكون همزة وصل لنشر السلام بين القارات والحضارات، يعيدون افتتاحها مجددًا كما حفروها أول مرة رافدًا للسلام وشريانًا للتعاون بين الشعوب.
وحين أعيد افتتاح قناة السويس، لم تكن إسرائيل قد انسحبت من باقى أراضى سيناء، لذلك شدد الرئيس السادات فى خطابه إلى جميع القوى المناضلة من أجل السلام، على أن مصر تهدى هذه الخطوة تيسيرًا على العالم، لكنها فى الوقت نفسه مصممة على استكمال تحرير أراضيها بكل السبل المتاحة، حربًا أو سلامًا.
وكان الرئيس السادات نفسه قد طرح مبادرة لافتتاح قناة السويس عام ١٩٧١، بشروط من بينها أن تعمل الدول الكبرى على إلزام إسرائيل بجدول زمنى للانسحاب من الأراضى المحتلة، واحترام السلام.
ولأن إسرائيل، ومن ورائها الدول الكبرى، لم تستجب للمبادرة المصرية طواعية فى وقتها، جاءت حرب أكتوبر لتقلب الموازين، وتمهد لافتتاح مختلف ومشرف لقناة السويس عام ١٩٧٥.
1979 السلام.. مبادرة ومعاهدة
بعد انتصار مصر فى أكتوبر ١٩٧٣، لم يسمح الرئيس أنور السادات بإعادة الشرق الأوسط إلى حالة "اللا سلم واللا حرب". وفى ظل تباطؤ إسرائيل فى مفاوضات الانسحاب من الأراضى العربية المحتلة، لجأ الرئيس السادات إلى خطوة جريئة لم يتوقعها أحد، فطرح مبادرة جديدة للسلام، وأبدى استعداده لزيارة إسرائيل للمرة الأولى.
وبهذه المبادرة، أراد السادات كشف حقيقة الموقف الإسرائيلى المراوغ أمام العالم، وإثبات عدم جدية قادة إسرائيل فى كل مفاوضات السلام التى تلت حرب أكتوبر.
ولم تجد إسرائيل مفرًا من قبول المبادرة المصرية. وفى نوفمبر ١٩٧٧، ألقى الرئيس السادات خطابًا تاريخيًا فى "الكنيست" الإسرائيلى، داعيًا إلى جولة مفاوضات مصرية مباشرة من أجل السلام الدائم.
وبفضل مبادرة السادات أدركت الدول الكبرى حقيقة التوجه المصرى للسلام، فى مقابل عدائية إسرائيل، فسعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى رعاية جولة مفاوضات جديدة بين الجانبين عرفت بمفاوضات "كامب ديفيد".
فى مارس ١٩٧٩، وقع الرئيس السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلى "مناحم بيجن" معاهدة السلام، التى تتضمن جدولًا زمنيًا لانسحاب إسرائيل من باقى أراضى سيناء، وتنظم مفاوضات تحقيق الحكم الذاتى للفلسطينيين فى قطاع غزة والضفة الغربية.
وبذلك حقق الرئيس السادات معادلة صعبة، جمع فيها بين الانتصار فى حرب أكتوبر والسعى إلى السلام من منطلق القوة، ففاز بجائزة نوبل للسلام، واستحق تكريم المصريين له بلقب "بطل الحرب والسلام".
1992 وساطة مصرية بين قطر والسعودية
فى ديسمبر ١٩٩٢، نجحت مصر فى حل أخطر أزمة حدودية بين المملكة العربية السعودية ودولة قطر، كادت تشعل الحرب بين البلدين الشقيقين.
وتعود النزاعات الحدودية بين السعودية وقطر إلى مرحلة ما قبل نشأة الدولتين رسميًا، لخلاف حول اتفاقيتى الخط الأزرق والخط البنفسجى، عامى ١٩١٣ و١٩١٤.
لكن المواجهة الأشد خطورة فى تاريخ تلك الخلافات وقعت فجأة فى ٣٠ سبتمبر ١٩٩٢، وعرفت بـ"حادثة الخفوس"، وسببها عدم ترسيم الحدود بدقة فى منطقة تنازلت عنها الإمارات للسعودية، نتج عنها حصار قطر طبيعيًا، حيث صارت بلا حدود برية، سوى مع السعودية.
وقالت قطر إن قوة سعودية استولت على موقع "الخفوس" وقتلت اثنين من أفراده، وهو ما نفته السعودية، موضحة أنه مجرد تراشق بالنيران بين رجال البادية داخل أراضيها. فأعلنت الدوحة عن وقف العمل بالاتفاقية الحدودية لعام ١٩٦٥، وقاطعت اجتماعات مجلس التعاون الخليجى، ولوّحت بعرض النزاع على "الأمم المتحدة".
ووقفًا للتصعيد، تدخلت عدة وساطات للتوفيق بين الرياض والدوحة، ولم تفلح سوى الوساطة المصرية فى حل النزاع الحدودى بين البلدين. حيث تدخل الرئيس حسنى مبارك للتوفيق بين الملك فهد بن عبدالعزيز، والشيخ خليفة بن حمد آل ثانى، فى قمة ثلاثة بالمدينة المنورة.
وأقنع مبارك الطرفين بتوقيع "بيان المصالحة"، وتشكيل لجنة ثلاثية لوضع اتفاق عام ١٩٦٥ موضع التنفيذ، برعاية مصرية.
1994 القاهرة تصحح مسارات «أوسلو»
فى مطلع ١٩٩٣، خاضت منظمة التحرير الفلسطينية مفاوضات سرية للسلام مع إسرائيل، انتهت إلى توقيع اتفاقية "أوسلو" برعاية الحكومة النرويجية. ونالت بنود الاتفاقية انتقادات فلسطينية وعربية. ورغم غياب مصر عن تلك المفاوضات، بذلت القاهرة جهودًا مضنية لتصحيح مسار "أوسلو" بعدة اتفاقات أخرى.
وفوجئت وزارة الخارجية المصرية بعدم وجود أى بند فى اتفاق "أوسلو" يتناول حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى، ومصير المستوطنات الإسرائيلية، لكنها لم تشأ أن تفسد فرحة المفاوض الفلسطينى بما توصل إليه، حسب مذكرات عمرو موسى، وزير خارجية مصر فى ذلك الوقت. ورغم ذلك، سعت مصر إلى البناء على ما تحقق من اعتراف متبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وإعلان مبادئ تحقيق السلام.
وتوجت أول المساعى المصرية بالتوصل إلى اتفاق "غزة أريحا"، الذى وقعه فى القاهرة الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلى إسحق رابين، والذى ينظم سلطة الحكم الذاتى الفلسطينى، بعد تعهد إسرائيل بالانسحاب الجزئى من قطاع غزة والضفة الغربية.
فى يوليو ١٩٩٤، احتفلت مصر بتأسيس السلطة الفلسطينية رسميًا، ووصول الرئيس ياسر عرفات إلى قطاع غزة عبر الأراضى المصرية للمرة الأولى.
وفى العام التالى، تكللت جهود مصر باستضافة طابا لمفاوضات الاتفاقية التى اشتهرت بـ"أوسلو الثانية"، التى تنظم السلطات الممنوحة للحكومة الانتقالية الفلسطينية، وتمهد لتوسيع الحكم الذاتى الفلسطينى مع انسحاب إسرائيل من المدن الكبرى فى الضفة الغربية، وإجراء الانتخابات التشريعية، والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية.
2011 لم الشمل الفلسطينى فى القاهرة
تؤمن مصر بأن تحقيق السلام فى الشرق الأوسط يبدأ بحل عادل للقضية الفلسطينية، لكنها تدرك فى الوقت نفسه أن طريق الحل يبدأ بترتيب البيت الفلسطينى، والاتفاق بين الفصائل الفلسطينية على توحيد المواقف والرؤى.
لهذا لم تدخر مصر جهدًا فى سبيل التوفيق بين الأشقاء وإنهاء الانقسام، وتحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية. ومنذ كانت مصر تدير قطاع غزة بين عامى ١٩٤٩ و١٩٦٧، حرصت على إنشاء المجلس التشريعى الفلسطينى ليضم مختلف أطياف التيارات السياسية الفلسطينية.
ومن القاهرة، انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٦٤ لتجمع تحت لوائها كل فصائل المقاومة على اختلاف توجهاتها.
وحين ساءت العلاقة بين الفصائل خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، استضافت القاهرة حوارًا وطنيًا بحضور ١٣ وفدًا فلسطينيًا، مثلت منظمات: فتح، وحماس، والجهاد، والجبهة الشعبية، وكذلك الجبهة الديمقراطية، وجبهة التحرير، وحزب الشعب الفلسطينى، وغيرها.
وبعد المواجهات المسلحة بين حركتى "فتح" و"حماس" عقب انتخابات ٢٠٠٦، بحثت القاهرة عن صيغ توافقية تجمع الأشقاء، حتى نجحت فى الوصول بهم إلى اتفاق المصالحة عام ٢٠١١.
وبتأثيرات عربية وعالمية، تجدد الخلاف بين الأشقاء الفلسطينيين فى ظل تمسك حركة حماس بالسلطة فى "غزة". وهو ما تطلب وساطة مصرية جديدة، تكللت بالتوصل إلى ما عرف بـ"اتفاق القاهرة ٢٠١٧"، وفيه تعهدت "حماس" بتسليم السلطة فى قطاع غزة إلى حركة "فتح".
ومن منطلق مسئوليتها التاريخية ودورها الإقليمى، لم تفقد مصر الأمل فى لم الشمل وإنهاء الانقسام الفلسطينى، وتوحيد صوت فلسطين أمام العالم طلبًا للسلام العادل.
2023 فى القاهرة.. قمة للسلام
سارعت مصر إلى التحرك عبر عدة مسارات متزامنة، منذ اندلعت الحرب على غزة، بعد أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. فتواصلت مصر مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وكل الأطراف المعنية لوقف إطلاق النار، وضغطت لإدخال المساعدات عبر معبر رفح، ثم دعت زعماء العالم إلى "قمة القاهرة للسلام".
وبمشاركة دولية واسعة، انعقدت قمة القاهرة للسلام بعد أقل من أسبوعين على تأزم الموقف فى غزة. واستهدفت القمة توجيه نداء عالمى للسلام، ووقف إطلاق النار فى غزة، والخروج من رحم الأزمة بروح وإرادة سياسية جديدة تمهد الطريق لإطلاق عملية سلام حقيقية وجادة، تفضى فى النهاية إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وبينما كانت التهديدات الإسرائيلية تتوالى لمنع إدخال المساعدات إلى الفلسطينيين عبر معبر رفح، نجحت مصر فى فرض إرادتها، وأدخلت آلاف الأطنان من المساعدات المصرية، وكذلك المساعدات التى وصلت مصر من باقى دول العالم.
ولأن المخططات الإسرائيلية كانت تستهدف تهجير أهالى شمال غزة إلى جنوبها، بالقرب من الحدود المصرية، تمهيدًا لإجبارهم على النزوح إلى مصر. فقد جاءت كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى حاسمة فى قمة القاهرة للسلام، ومعبرة عن إرادة وعزم الشعب المصرى، فقال: "إن حل القضية الفلسطينية، ليس التهجير". كما أن "تصفية القضية الفلسطينية، دون حل عادل، لن يحدث، وفى كل الأحوال لن يحدث على حساب مصر".
وهو ما أُعيد التأكيد عليه فى كلمتى فلسطين والمملكة الأردنية الهاشمية رفضًا للتهجير القسرى، ومخططات تصفية القضية الفلسطينية.
واتفق زعماء الدول المشاركة فى قمة القاهرة للسلام على ضرورة الضغط لوقف إطلاق النار، وإحياء عملية السلام فى الشرق الأوسط، لضمان التعايش السلمى القائم على العدل.