حلمى بكر الذى لا يعرفه أحد
نحن نعرف كل شىء عن زيجات حلمى بكر.. وطلاقاته وخناقاته مع مطربى التوك توك والميكروباص والمهرجانات، خناقاته مع قطع غيار السيارات التى هلكت من كثرة محبته لها، نوادره مع الكرة والملاعب، وربما نعرف نوع الأكلات التى يفضلها، وماركات البرفيوم التى يدمنها، عدد أعقاب السجائر التى يدخنها.
نحن نعرف كل شىء.. كل شىء، لكن شيئًا واحدًا لا نعرفه، قيمة هذا الرجل، وسر موسيقاه التى تجعله، باختصار، واحدًا من أهم مُلحنى هذا العصر، وتجعل أغنياته سيرة قادمة لسنوات قد تزيد على الألف.
هل ظلمنا نحن، النقاد والمحبين للموسيقى وأهلها، والفن وأهله، حلمى بكر؟!؛ نعم ظلمناه كثيرًا؛ من كثرة ما تعودنا على ملاحقة النوافل وترك الأصول، ظلمه أهل الموسيقى حينما ساروا خلف المُعزين فى جنازات وهمية للأغنية المصرية الحقيقية، وكان أكثرنا ظلمًا لحلمى بكر وأغنياته الفذة حلمى بكر نفسه.
يا اللى ما عندكش فكرة
«يا اللى ماعندكش فكرة»، هذا ليس فقط اسمًا لواحدة من أغنياته التى أعتبرها من علامات الموسيقى العريقة الحديثة.. لكنها عنوان القصة.. حلمى بكر وموسيقاه أكبر من الفهم لدى من ليس لديهم فكرة، هو صانع موسيقى تحتاج إلى سنوات طويلة من المجانسة، وسنوات أطول من احترام العقل والقلب، فلا تكفى أن تكون سليم العقل لتحتفى بموسيقى هذا الرجل، بل يجب أن يكون فؤادك سليمًا أيضًا ليشعر بإيقاعاته، ونقلاته الفجائية، وسكناته التى تحتاج إلى أوردة سليمة لتتحمل اندفاع الدم ليوازى سخونة واندفاع مشاعره، التى يسكبها بغزارة فى شرايين الميلودى الذى يصفه فى جمل موسيقية لا تستقر أبدًا، ولا يستطيع مُهادنتها إلا من أوتى نضجًا يماثل نضج حروفها ونغماتها.
أراكم تقولون ما كل هذه الألغاز، والكلام المبهم؟، ربما عندكم حق، لكنكم مثلى ما عندكمش فكرة.. وحتى أن أريحكم وأستريح ليس ضروريًا أن تكون على دراية بعلوم الموسيقى، ولا عارفًا ملهمًا لفهم موسيقى ما عندكش فكرة، لكن على الأقل يجب أن تكون ناضجًا بما فيه الكفاية لفك طلاسم وألغاز ٢٨ حرفًا عربيًا هى حروف لغة الضاد.. وسر ١٨ حرفا نغميًا هو حرف سلم الموسيقى السبعة مضروبة فى أربع مرات، فهل أدركت السر؟!
يحتاج من يريد معرفة الوقائع المهنية فى سيرة موسيقى بكر.. أن يشرب شايًا معتقًا.. وأن يصفى عقله وقلبه من أى شوشرة.. حافظ على الوجع، وعلى التجارب العاطفية الفاشلة التى خضتها ستحتاجها، وأنت تستمع إلى وردة، وهى تدخل منسجمة إلى مقدمة المسرح الذى انهار تمامًا مع تلك المقدمة الموسيقية المتخمة بكل ما يحفظه المصارعون فى علوم النغم.. نعم هى حلبة مصارعة.. والوردة تدخل بهدوء قبل أن تخبرك:
«ما عندكش فكرة»
هواك أد إيه/ بيهدى زمانى هنا
أد إيه/ ما عندكش فكرة رضاك
أد إيه.. بيغنى حياتى
غنا أد إيه
ما عندكش فكرة
أنا إزاى فى حبك
بضحى كتير
وبنسى عشانك
قلوب ناس تدوب
ومنك تغير
هل يمكن أن نتوقف عند هذا القدر مما كتب عبدالوهاب محمد، بالطبع يجوز، لكن لا يمكنك المرور قبل أن تسأل نفسك: ماذا فعلت وردة؟!، وماذا فعل حلمى بكر؟!، لقد خدعنا الرجل بإيقاع يكاد لا يشعر به إلا من يريد.. فيما تنتقل الوردة إلى تتر جملة إلى أخرى حتى تصل إلى: «وبنسى عشانك، قلوب ناس تدوب»، لتجد نفسك، وقد تأهلت تمامًا لاستقبال نقلة إيقاعية ولحنية قاطعة، وقائلة يتلوها صفحات وصفحات من الاعترافات التى يترجمها عمنا حلمى بمزاج صوتى لا يغادر مفارقة، إلا ليخبرنا بفتح عظيم:
بحبك لوحدك/ من الدنيا ديه
كأنك هواها/ ونورها..
وزهورها/ وأول منايا..
وآخر منايا/ ياللى ما عندكش فكرة..
هل استرحتم الآن قليلًا لفهم ما حدث.. إذا كنتم فعلتم ذلك فلننتقل إلى الكوبليه الثانى وإذا لم يكن فقد نقلها هو وغير موده ومزاج مطربته وإيقاعاته حتى يصل إلى «وأقول بس إيه ما عندكش فكرة».
طيب تحب أقولك إن الإيقاعات المركبة فى مقدمة هذه الأغنية التى مرت منذ قليل شغلتنا عن أن نلمح كيف دخل هذا المقام الشرقى «الراست» إلى أوردتنا، مصحوبًا بإيقاع المعمورى القادم من تراث الحضرات فى ريف مصر، وحاراتها، لننسى ماذا يفعل الرجل قبل أن يعود ويستقر وتستقر وردة فى أحضان الراست وهى تعلن ما عندكش فكرة.
بص يا سيدى.. هذا المقام هو مقام فارسى «إيرانى»، ومعناه «الواضح المستقيم».. فهل أراد حلمى بكر فى أول تجلياته الكبرى عبر حنجرة أم كلثوم التى أعد ذلك اللحن من أجلها أن يقول لنا بوضوح و«على الخط المستقيم»: أنا ملحن كبير قد «رياض السنباطى وعبدالوهاب والموجى وبليغ»، نعم؛ هو هضم كل هؤلاء، واخترع لنا أحدًا لا يشبههم لكنه يشبه نفسه أنه الواضح المسيطر مثل مقام الراست تمامًا، وهذا هو سر حلمى الذى شغل الناس عن موسيقاه الفذة وسبب له كل هذه المشكلات طيلة عمره، فمنعنا من الاستمتاع برحلة موسيقية مبهرة صنعها فنان ملهم لا يتكرر كثيرًا لكننا ما عندناش فكرة.
أبوقلب شارع وحارة
عذرًا لن أستمر فى سماع وتحليل «ما عندكش فكرة»، فليس هذا غرضى على الإطلاق، ويكفى أن أقول إن كل جملة موسيقية فى هذه الأغنية أغنية لها كل ميلودى فى نوتة هذا الملحن المصنوع من خمسين سنة كاملة يكفى لضخ عشرات الألحان مما يستمعون.. إن كنتم تستمعون قبل هذا اللحن صنع الرجل عشرات الألحان، وبعده صنع المئات، لكننا لا نسمع، وإن سمعنا لا نفهم، وإن فهمنا شغلتنا ركبة فيفى عبده عما عداها، لكننى لم أنشغل، فقط سار سريعًا عند بيت «محمد رشدى» على الناحية الأخرى من جسر ألحان العم حلمى.
هى نقلة غريبة أعرف.. لكن من الرصانة وتحدى الأقوياء، إلى تحدٍ آخر مقصود صنعه الرجل وهو فى عز شبابه مع حنجرة فضفاضة تشبه مواويل الغيطان فى ريف بحرى.. وسمحت مفردات حسن أبوعتمان القادم من «زقاق» محلاوى أن يستعرض حلمى بكر «رشاقته»، وأن يعلن أنه هو الآخر حى شعبى فهو المولود فى الحلمية يعرف لغة أهل الريف أيضًا
ولا يا ولا يا عرباوى
ارمى بياضك خطى القناوى
وإن كنت شارى يا أدهم زمانك
المهر مركب وإنت معداوى
وذلك الدخول الذى يبدو بسيطًا ليس كذلك أنت أمام شاعر يملك لجام مفرداته جيدًا.. والأهم أنه يجيد التصوير للمشاعر وببراعة ولا يمكنك حذف كلمة مما كتب وحلمى بكر يضع صورة موازية لهذه المفردات، هو ليس تعبيريًا تمامًا كسيد درويش وبليغ حمدى، فهو لا ينسى أنه ملحن يغازل الملحنين لكنه يعبر بطريقته فى استخدام المقامات وتنقلاتها والإيقاعات الراقصة هذه المرة، لكنه لا يتلوى مثل النساء هو يضع رقصة حبيب يتغزل فى حبيبته:
عرباوى شغلاه الشابة
الحلوة السنيورة
أم التربيعة بترسم
ضلاية على القورة
وضفاير غارت م القصة
رقصت على رن الخلاخيل
وعيون يا صبايا ما تتوصى
غية وبتطير زغاليل
وطارت الزغاليل زغلول تلو الآخر فى فضاء حنجرة «محمد رشدى».. وحلمى بكر يعى جيدًا الكنز الذى حط على شباك حجرته الصغيرة فى دور أرضى يسكنه، وهو «المجند» الذى لم يعرفه أحد بعد.. لكن الكاتب محمد جلال أرسل محمد رشدى إليه بعد أن خذله بليغ والأبنودى، وذهبا إلى لبنان مع حليم.
من يسمع اللحن بتركيز يدرك أن حلمى بكر لم يضع فى مخيلته أن محمد رشدى مطرب شعبى، لكنه مطرب، ولذا صنع لحنه على مقاس نفسه، وليس على مقاس رشدى، هى أغنية شعبية شيك، مقام العجم الذى اختاره حلمى بكر، على ما أعتقد، لا يذهب بنا إلى الحارة فى العمق، هو يقف على ناصيتها، يأخذ صوت محمد رشدى منها، ويسحبه حتى «قلبى يا قلبى يا بو الحيارى والله لا اعملك شارع وحارة».
لقد صنع بكر حارته وشارعه الخاص فى مسيرة الغناء الشعبى فهو لا يشبه الفلكلور.. أو يلعب معه قبل بليغ.. ولا يستخدم الخطى والمعتاد من مقامات شعبية وإن لجأ إلى إيقاعات يستخدمها الشعبيون، وهكذا فعل مع صوت صباح الشعبى أيضًا عندما اختار أن يلحن لها من مقام النهاوند، وهو الأخ الأصغر لمقام العجم، وأرجو ألا أكون مخطئًا فى ظنى بأنه مقصد فى كل أغنياته الشعبية وهى كثيرة مع رشدى وصباح وحتى نجاة التى صنع لها لحنًا شعبيًا بامتياز دون أن ينزع عنها شياكتها ورومانسيتها.
مهما الأيام تعمل فينا مابنستغناش عن بعضينا
هو رجل واضح يمشى فى شارعه الخاص جدًا هو ابن المدرسة الشرقية فى الغناء لا شك فى ذلك، وعبدالوهاب هو الأقرب إلى ملامحه لا شك عندى فى ذلك، لكنه ابن تجربته التى تبدو ناضجة تمامًا فى أغنياته مع عليا التونسية، وفى مقدمتها ع اللى جرى أو ليلى مراد أو عماد عبدالحليم الذى صنع له واحدًا من الألحان المركبة.. وأظنه كان يصفه بعبدالحليم حافظ وليس لعماد، وهو واحد من الألحان التى تحتاج إلى قصة كاملة فى شرح تنقلاته وألاعيبه الفنية، ولن أفعل ذلك حتمًا فقط أشير إليه لنسمعه ونسمع كيف استطاع الرجل إخراج كل هذا القدر من حنان صوت عماد عبدالحليم المجروح بطبعه، دون أن يفقد قدرته على صنع لحن كبير بتفاصيل سردية متتالية فى كلمات فى منتهى الشاعرية والعذوبة لشاعر فذ اسمه على مهدى:
فى قلبى جرح
مستخبى ولا مرة
شاورت عليه
وناس تبكى
وناس تشكى
وأنا وحدى بداوى فيه
وحده.. فى بلاد بعيدة ظل يداوى جراح قلبه ويداريها عن الكل.. رفض العلاج من الجميع..أتعبه الخذلان قبل أن تتمكن منه سموم الكلى ونزف القلب.. خذلناه جميعًا.. فغادرنا فى مشهد لا يشبه سوى موسيقاه التى لا يفهمها أغلبنا.. ولن نعرفها الآن.. ربما يحدث ذلك فى زمن بعيد ليس فيه زيف المشيعين.