"المواطن" بين المحتسب والقانون وضمير التاجر!
هذا المقال يعرض لأربع صور مختلفة لمراقبة الأسواق، عشناها عبر العصور والمراحل الزمنية المختلفة، أسواق زمان البعيد والقريب والحالي، في نهايتها سأترك لحضراتكم اختيار الصورة الأفضل لضبط أسواقنا في عصرنا الحالي:
(1) الصورة الأولى "المحتسب": وتعود بداية ظهور وظيفة المحتسب إلى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي ابتدع وظيفة مراقبة الأسواق تحت مسمى الحسبه التي تولاها "عمر" بنفسه، ثم تحولت إلى وظيفة المحتسب وقد اقتبسها أمير المؤمنين من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، بتوليته لـ"سعيد بن سعيد بن العاص" بعد فتح مكة على أسواقها.
وتتركز مهمة "المحتسب" في مراقبة المكاييل والموازين للتحقق من مطابقتها لما يجب أن يتكون عليه مقاديرها، إلى جانب مراقبة السلع المعروضة للبيع في الأسواق، وللتأكد من سلامتها من الغش والتدليس، ومحاسبة الغشاشين، والمدلسين، وتأديبهم ومعاقبتهم ضمن حدود النظام.
ويحكي الجبرتي عن سيرة المحتسب مصطفي الكاشف الذي كان يراقب الأسواق في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر وعرف عنه قسوته في التعامل مع الغشاشين، والغش المقصود كان إما ببيع سلع بأكثر من قيمتها، أو بأغلى من تسعيرتها المحددة، أو ببيع سلع غير صالحة، وبلغ حد عقاب الغش التجاري في عهد المحتسب إلى قطع الأذن أو قطع لحم الغشاش كما فعل "الكاشف" بقطع أوقيتى لحم من جسد أحد الجزارين، لأنه باع لأحد الأشخاص كمية من اللحم وأنقص منها أوقيتين.
وفى عقوبة أخرى أمر المحتسب بوضع كنفانى عاريًا فوق صينية الكنافة النحاسية والنار مشتعلة تحتها، لأنه باعها بأزيد من السعر المحدد، كما أبقاه على هذا الحال حتى احترق.
واعتاد المحتسب أن يعاقب الجزارين بأن يضع فى أنوفهم خطافًا يعلق به قطعة من اللحم للدلالة على جشعهم. وروى عنه أنه صادف رجلًا يبيع قللًا أتى بها من سمنود وادعى أنها قلل قناوى، فما كان منه إلا أن طلب من المارة أن يكسروا القلل فوق رأسه.
(2) الصورة الثانية بعد ظهور الدولة الحديثة وقد أنشئت وزارة التموين فى منتصف القرن العشرين عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما صحبها من أزمات اقتصادية، وحُددت لوزارة التموين مهام تشبه وظيفة المحتسب في القرون الماضية.
اقتصرت وظائف وزارة التموين في العمل على حماية المستهلك، والدفاع عنه، والتصدي لطائفة التجار الذين يغالون في أسعار بيعهم لمنتجاتهم، لذلك سنت الدولة قوانين عديدة في هذا المجال لعل أهمها المرسوم بقانون ٩٥ لسنة 1945 لتنظيم شئون تموين البلاد، والمرسوم بقانون ١٦٣ لسنة ١٩٥٠ بخصوص التسعير الجبري للسلع. والقرارات الوزارية العديدة، وأهمها القرار 113 لسنة 1994 الخاص بمكافحة السلع مجهولة المصدر.
ومن أهم القوانين التي استهدفت حماية المستهلك كان القانون رقم 48، الخاص بقمع الغش والتدليس والذي صدر عام ١٩٤١ وتم تعديله مرات عديدة، وآخر هذه التعديلات كان بالقانون ٢٨١ لسنة ١٩٩٤ الذي تم تشديد العقوبة بموجبه على القائمين بالغش للسلع، وصدر أيضًا خلال الستينيات من القرن الماضي القانون 10 لسنة ١٩٦٦ الخاص بتداول السلع الغذائية.. ومؤخرًا صدر القانون الخاص بحماية المستهلك من السلع الضارة والخدمات غير السليمة.
(3) الصورة الثالثة ترتبط بما سبق في الصورة الثانية ومعظمنا عاش هذه المرحلة بوجود ما يعرف بمفتش التموين ومعه مفتش الصحة، وهما عنصران كانا يشكلان قوة الدولة فى مواجهة أي أنواع من الغش التجاري.
تربينا في مدينتنا في قلب الصعيد على قوة رجال التموين الذين ما أن تنزل حملاتهم على الأسواق حتى تظهر علامات الخوف والقلق عند معظم التجار، فلم يتوقف دور مفتش التموين عند مراجعة الأسعار وصلاحية السلع، بل كان يمتد إلى مصدر السلعة من خلال الفواتير الرسمية التى تثبت مصدر السلعة، وطريقة عرض السلعة في أماكن مناسبة مكتوب عليها السعر بتيكت واضح للقراءة وفقًا للأسعار المحددة، وكان أهم ما يميز تلك المرحلة أنه كان لا وجود لتعدد أسعار السلع ولا مغالاة في الأسعار وانتهى نظام الرقابة التموينية على الأسعار فى مطلع التسعينيات بتطبيق المراحل الأخيرة من قانون الانفتاح الاقتصادي وتحرير الأسواق فيما يعرف بالسوق الحرة.
(4) الصورة الرابعة وتعتمد على ضمير التاجر، رغم وجود ما يزيد على 30 جهة رقابية تعمل جميعها على ضبط الأسواق، وقد تجلى الاعتماد على ضمير التاجر، كما حدث في أعقاب قرار تعويم الجنيه أمام العملات الأجنبية عام 2003 في عهد حكومة الدكتور عاطف عبيد وارتفع بسببه سعر صرف الدولار من 3.70 جنيه إلى 5.35 جنيه، وخلال أشهر ارتفع سعر العملة الخضراء في السوق الرسمية من 5.86 جنيه في العام نفسه، ثم زاد إلى 6.19 في مطلع عام 2004.
"لمن ستبيعون سلعكم، وأي مجتمع سوف يحتمل فروق الأسعار"، بهذه الكلمات بدأ الحاج محمود العربي، شهبندر تجار مصر ورئيس غرفة القاهرة التجارية، "رحمه الله"، حديثه الموجه لرؤساء الشٌعب التجارية في اجتماع عاصف دعا إليه عقب صدور قرار التعويم.
قال العربي: إن القوة الشرائية في السوق المصرية محددة ومرتبطة بدخل المواطن، الذي لم يزد بالقدر الذي يتناسب مع الزيادات في الأسعار، فمن أين سيأتي بفوارق الأسعار؟، وبعد محاضرة تلقائية ألقاها- العربي- عن معنى وقيمة التاجر وربطها بالتجارة مع الله سبحانه وتعالي، حكى عن تجربته مع الموردين لشركاته، وقال: ذهبت للمورد الرئيسي في اليابان وشرحت له وضع السوق المصرية وما حدث لها نتيجة التعويم، ولأنى عميل جيد بالنسبة له طلبت خصما خاصا لشركاتي بقيمة 20% حتى أستطيع تسويق منتجاتي في مصر، وألمح العربي إلى أن كلامه كان يحمل معنى التهديد إنه إن لم يستطع تسويق منتجاته سوف تتراكم المنتجات، وبالتالي سوف يتراجع طلبه من الوكيل اليابانى، وبالفعل حصل على خصم خاص ونجح في تثبيت أسعار منتجاته حينها.
وأخيرًا بعد عرض تلك الصور الأربع لمراقبة الأسواق وحماية المستهلك المصري، ما هي الصورة الأنسب لمجتمعنا التي تصلح لإعادة ضبط الأسواق؟.. لكم الإجابة.