الحشاشون! «3 - 3»
يسجل لنا التاريخ العديد من الأمثلة عن البعد السياسى لهذه الفرق الباطنية، رغبة فى إعادة الحكم الفارسى، وزوال الخلافة العربية، أو على الأقل إضعافها من أجل السيطرة على الحكم من الداخل. ففى أعقاب القضاء على أبى مسلم الخراسانى على يد الخليفة المنصور، حتى لا يكون للحكم «رأسان»، تمرد البعض فى إقليم خراسان على الخلافة العباسية، وتزعم هؤلاء من يدعى سنباد. وتصف بعض المصادر سنباد هذا بأنه كان مجوسيًا ولكنه يدعى الإسلام، ويرى حسين مجيب المصرى أن «ما نسب إلى سنباد بأنه كان مجوسيًا احتمال ضعيف، ولعله كان على مذهب نصف فارسى، وهذا المذهب لا يعتبر مذهبًا إسلاميًا فى الرأى الغالب». وهكذا يحدد مجيب المصرى هوية سنباد بأنه كان من الفرق الباطنية التى حاولت خلط الإسلام بالتعاليم المجوسية الفارسية القديمة. وتنتهى قصة سنباد بالقضاء عليه وعلى فتنته على يد الخليفة المنصور.
ويحدثنا التاريخ عن بنى بويه، وهم من الفرس الشيعة، الذين سيطروا فى حقيقة الأمر على مقاليد الحكم فى بغداد بالقوة العسكرية، وأخذوا فى التلاعب بالخلفاء العباسيين، بالعزل والتولية وفقًا لمصالحهم الخاصة، وأغراضهم العنصرية، ولا شك أن هذا الأمر أسهم إلى حدٍ كبير فى إضعاف الخلافة العباسية، حيث وصلت إلى مرحلة من الضعف سمحت للتتار بعد ذلك باقتحام بغداد، وتخريب أحد أهم معاقل الحضارة الإسلامية.
ولم تكتف الفرق الباطنية بالعمل على إضعاف الخلافة العباسية، وتهديد وحدة العالم الإسلامى، وإنما لجأت إلى التحالف مع أعداء الأمة الإسلامية. ولعل فى حركة بابك الخرمى أسوأ نموذج على ذلك؛ إذ خرج الأخير على الخلافة العباسية، وانضم إليه أتباع الباطنية فى محاولة لإسقاط الخلافة. والأسوأ من ذلك أن بابك الخرمى عمل على الاتصال مع الدولة البيزنطية، وهى العدو الأول للخلافة العباسية، وكان بابك الخرمى يهدف من وراء ذلك إلى تكوين تحالف ضلعاه الخرمية فى الأقاليم الفارسية والدولة البيزنطية فى آسيا الصغرى، من أجل الانقضاض على الخلافة العباسية فى بغداد والقضاء عليها، إلا أن كل مساعيه انتهت بالفشل، لكن هذه الحركات أضعفت إلى حدٍ كبير قوة الخلافة العباسية.
والنموذج الآخر الأشد قسوة وإرهابًا فى تاريخ الحركات الباطنية هو فرقة «الحشاشين». ويصف برنارد لويس، وهو أحد أهم من درس هذه الفرقة، الحشاشين بقوله: «لم يحل القرن الثالث عشر حتى كانت كلمة حشاش Assassin قد دخلت بأشكال مختلفة فى الاستخدام الأوروبى بهذا المعنى، أى القاتل المأجور».
ولن نتحدث هنا عن تاريخ الحشاشين ونشرهم للإرهاب والفزع فى جنبات العالم الإسلامى، ولكن ما يهمنا هنا هو دورهم فى هدم وحدة العالم الإسلامى، بخروجهم على الخلافة العباسية الجامعة للأمة آنذاك، هذا فضلًا عن تعاونهم مع أعداء الأمة. ويتضح ذلك فى طبيعة الدور السيئ والمشين الذى لعبه الحشاشون أثناء الحروب الصليبية؛ إذ لم يعمل هؤلاء لصالح الصف الإسلامى الذى كان يواجه موجات الحملات الصليبية، وإنما عملوا لصالحهم الخاص. ولا أدل على ذلك من تحالف الحشاشين مع فرقة سرية إرهابية صليبية هى «فرسان المعبد»، هذه الفرقة الصليبية الإرهابية التى أراقت دماء الكثير من المسلمين أثناء هذه الحروب.
وقد أدرك بعض ثقات الباحثين الدور السيئ للحركات الباطنية فى التاريخ السياسى للعالم الإسلامى، ومن أهم هؤلاء حسين مجيب المصرى المتخصص فى الدراسات الفارسية؛ إذ يرى أن «أهل البدع من الفرس منهم من شق العصا وخلع الطاعة، ونصب للعرب حربًا، ولا شك أنهم بعقيدتهم أرادوا بعث قوميتهم الفارسية وإحياء كيانهم فى الماضى البعيد». ويرى محمد عبدالله عنان، أحد أهم مؤرخى التاريخ الإسلامى، أن الحركات الباطنية ما هى إلا «جمعيات سرية أُنشِئت لهدم الإسلام».
هكذا تتضح لنا الصورة كاملة عن الدور السياسى السلبى للحركات الباطنية الفارسية على وحدة العالم الإسلامى.