الحشاشون! «2 - 3»
حرص الحشاشون على تصدير صورة أنهم «عُبَّاد الليل وفرسان النهار»، وتحدثوا كثيرًا عن ورع وتقوى أتباعهم. ويرى بعض الباحثين أن الحشاشين دأبوا على تصدير هذه الصورة عن أنفسهم حتى يخفوا حقيقة أمرهم، لا سيما أمور دعاتهم وقادتهم. من هنا يشير البعض إلى حالة التناقض الشديد فى أمور هذه الطائفة الغريبة السرية، فبينما يفرض دعاة الحشاشين على أتباعهم حالة الورع والتقوى، نجد نقيض ذلك بالنسبة لنخبة هذه الطائفة: «كبار الطائفة هم أبعد ما يكونون عن ذلك؛ إذ كانوا يعلمون أن الدين لم يكن إلا وسيلة، ولا يؤمنون بشىء من تعاليمه، ويعتقدون أن كل الوسائل مشروعة لبلوغ المآرب الدنيوية التى يعنون بها دون سواها. كان شعارهم (لا حقيقة فى الوجود، وكل أمر مباح)».
وبالفعل إذا نظرنا إلى ما قام به أتباع الحشاشين من عمليات اغتيال وإرهاب؛ لأدركنا ذلك جليًا؛ إذ تحول شعار الخنجر الذى يحمله الحشاشون إلى مصدر رعب فى الشرق والغرب؛ حتى انتقل اسمهم ودخل إلى اللغات الأوروبية تحت اسم حشاش Assassin ليصبح مرادفًا للإرهاب. يقول برنارد لويس: «لم يحل القرن الثالث عشر حتى كانت كلمة حشاش Assassin قد دخلت بأشكال مختلفة فى الاستخدام الأوروبى بهذا المعنى، أى القاتل المحترف المأجور».
وفى الشرق الإسلامى، تحول «الحشاشون» إلى معول هدم للدول الإسلامية، ولعل خير دليل على ذلك أنهم نجحوا فى اغتيال اثنين من الخلفاء العباسيين، كما حاولوا مرتين اغتيال السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبى. ولم يسلم عامة الناس من إرهابهم؛ إذ أشاعوا الرعب والإرهاب فى كل مكان، من خلال قطع الطرق والاعتداء على القرى المجاورة. كما استولوا على أموال ومتاع الأهالى. وتعرضت قوافل التجارة التى تمر بجوار قلاعهم للاعتداءات المتكررة، حتى شاع أن الرجل إذا تأخر عن الرجوع إلى بيته، اعتقد أهله أنه سقط فى أيدى الحشاشين، وهنا يبدأ أهله فى تقبل العزاء. ولم تسلم حتى قوافل الحجاج من إرهاب الحشاشين؛ ففى عام ٤٩٨هـ تجمعت قوافل الحجاج فيما وراء النهر وخراسان والهند ووصلت إلى نيسابور، فقام الحشاشون بالهجوم على هذه القوافل، وقتلوا مَن قتلوا، واستولوا على كل الأموال والأمتعة، ويلاحظ وجود علماء وأئمة وزهاد من بين الضحايا.
وإذا حاولنا إجراء تقييم لهذه الحركة، أو الحديث عن أثر هذا الإرهاب على العالم الإسلامى، وهل نجح الإرهاب فى نهاية الأمر، فإن آراء المؤرخين الثقات تؤكد فشل إرهاب الحشاشين فى نهاية الأمر؛ إذ يشير المؤرخ محمد عبدالله عنان إلى أن هذه الحركة حاولت «هدم تعاليم الإسلام الأولى»، وحاولت تمزيق «وحدة الإسلام منذ البداية» لكنها فشلت فى نهاية الأمر.
كما يؤكد برنارد لويس فشل إرهاب الحشاشين فى نهاية الأمر: «إن الحشاشين الإسماعيليين فشلوا فشلًا ذريعًا ونهائيًا؛ إذ لم يتمكنوا من قلب النظام القائم، بل لم ينجحوا فى السيطرة على مدينة كبيرة واحدة، حتى ممتلكاتهم التى تحرسها القلاع، لم تكن أكثر من إمارات صغيرة، لم تلبث حين جاء الوقت أن اقتحمها الغزاة».
اهتم الباحثون كثيرًا بدراسة الأثر السلبى للفرق الباطنية على الفقه والفكر الإسلامى، ولم يهتموا كثيرًا بتناول التداعيات السياسية لهذه الفرق الباطنية الخارجة على إجماع الأمة الإسلامية. وبالقطع نحن لا ننكر الهرطقة التى قامت بها هذه الفرق الباطنية فى مجال الفقه الإسلامى بدعوتها إلى هذا المفهوم الغامض والغريب عن الإسلام، مفهوم «الباطن»؛ إذ رفضت هذه الفرق ما أجمع عليه علماء الأمة من تفاسير للنصوص، ونادوا بأن ما قام به علماء الأمة ما هو إلا «الظاهر» من النصوص، وأن علينا فى التعامل مع هذه النصوص بالأخذ بمفهوم «الباطن»، ما فتح الباب على مصراعيه للعديد من الهرطقات فى تفسير النصوص.
لكن ما نريد إلقاء الضوء عليه هنا، هو الآثار السلبية لهذه الفرق الباطنية على التاريخ السياسى فى العالم الإسلامى. فلا جدال أن هذه الفرق أحدثت شرخًا كبيرًا فى وحدة العالم الإسلامى وبثت التجزئة فى أرجائه، كما دفعها حقدها على «الخلافة العربية الإسلامية» الجامعة للأمة إلى تعاملها- بل مناصرتها أحيانًا- مع أعداء الأمة الإسلامية.
بداية تسترت هذه الفرق الباطنية وراء الدعوة إلى مناصرة أهل البيت، وأحقيتهم فى الحكم والخلافة. ونسى هؤلاء أن الدعوة العباسية فى مهدها كانت هى مَن رفع شعار الحكم لآل البيت، وأن الفرس الذين خرجت منهم بعد ذلك معظم الفرق الباطنية، ناصروا الدعوة العباسية. وعندما نجحت الدعوة العباسية وقامت الخلافة العباسية، ظن الفرس أن الفرصة قد حانت لإعادة سلطانهم القديم، لكن الخلفاء العباسيين رفضوا مراكز القوى الفارسية الجديدة. وعلى ذلك أعاد الخلفاء الهيبة من جديد للخلافة العربية الإسلامية. من هنا ازداد نشاط هذه الفرق الباطنية الفارسية لإضعاف الخلافة، وفى ذلك يقول محمد عبدالله عنان: «هكذا كان نظام الجمعيات السرية الباطنية التى نظمها الشيعة لهدم الدولة العباسية، وما تستند إليه من التعاليم الدينية».