وإننى أحب السودان وأهله.. وأحب الطيب صالح أيضًا
فى العدد السادس من جريدة «حرف» الرقمية الصادرة عن مؤسسة «الدستور»، صباح الأربعاء الماضى، كتبت رأيًا فى رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائى السودانى الأشهر الطيب صالح، ولأنه «رأى»، توقعت أن يقابله رأى آخر، مختلف ومعاكس++ تمام الاختلاف، أو مختلف إلى حدٍ ما، ومثلهما فى جهة الاتفاق، كما توقعت ألا يقرأ المقال سوى عدد محدود من الأصدقاء والمهتمين أو المشتغلين بالأدب والنقد والفنون بشكل عام، أو ربما عدم الالتفات إلى ما كتبت من الأصل، كما هى عادة غالبية المثقفين ومحترفى الكلام عن العمل بالكتابة والأدب فى حاضر الأيام، حتى تظن أنه لا أحد يقرأ سوى ما يخصه فقط لا غير «إن وجد».. وهو ما حدث بالفعل، ولكن مع إضافة رد فعل آخر أزعجنى إلى حدٍ ما، رغم وجوده دائمًا فى دائرة التوقعات لكل شىء، وأى شىء، فى مصر، وفى السودان، وفى كل ركن فوق الأرض، خصوصًا مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعى، وامتلاك كل «من هب ودب» لهاتف ذكى يتيح له الكلام والكتابة عن أى شىء، وفى كل شىء.
هاتفنى مثقفون أصدقاء مصريون وسودانيون وعرب، وتحدثنا مطولًا عن الرواية وكاتبها والمناخ الثقافى فى حقبة الستينيات. منهم من أبدى سعادته بما كتبت، واتفاقه التام مع ما ذهبت إليه من حيث إن الرواية أخذت أكثر مما تستحق، ومنهم من ذهب إلى أن للطيب صالح أعمالًا أخرى أكثر إبداعًا، وأهمية، ومنهم من اتهمنى بالتعسف فى قراءتى للرواية، وأنها بالفعل واحدة من أهم ما كتبه جيل الستينيات فى مجال الرواية، فتناقشنا واتفقنا واختلفنا، وأمضيت أيامًا لا حديث لى أو معى إلا عن ذلك المبدع الكبير الراحل وأعماله.. كل هذا طبيعى، بل إننى رأيته مناسبًا جدًا للاحتفال بذكرى الرجل «الطيب» الذى لم أنكر أننى من قراء كتبه، والمعجبين بأسلوبه فى الكتابة، وفى الحياة، وبالكثير من آرائه، خصوصًا فيما يتعلق باتساقه مع نفسه، ومحبته الحياة فى حد ذاتها، أكثر من أى شىء آخر.. بما فيه فعل الكتابة الذى تميز وبرع فيه، لكنه لم يحبه، ولم يرد أن يهبه حياته، وله بالطبع كامل الحق فى اختياراته، وإن اختلفتُ معها.
ما أزعجنى إلى حدٍ ما، وإن كنت قد توقعته، هو دخول عدد ممن لا يعرفوننى، ويبدو أنهم لم يقرأوا حرفًا للطيب صالح على خط الحوار، فاعتبروها مواجهة بين مصر والسودان، أو غيرة وحقدًا وحسدًا، أو محاولة للشهرة، أو للتبخيس من كل ما هو سودانى، بل إن منهم من ذهب إلى أن ذكر ركاكة اللغة أمر مقصود، ويندرج فى إطار التشكيك فى الهوية السودانية، هكذا مرة واحدة.. وكأن «الهوية السودانية» أمر هش، يمكن أن يسقط لمجرد اختلاف فى الرأى حول لغة كُتبت بها رواية لأديب، مهما كان اسم هذا الأديب، ومهما كانت عظمة منجزه.. وكأن هذا الأديب ليس من البشر فيخطئ ويصيب.. ما لا يعرفه صاحب هذا «الرأى»، إن اعتبرناه رأيًا، أننى شخصيًا أرى السودان أكبر من أى شخص، والهوية السودانية شرف لحاملها، كالهوية المصرية تمامًا، لا يعيبها إن كتب نجيب محفوظ رواية سيئة، أو عملًا يراه البعض ضعيفًا، ولن يمسها أن فيلمًا ليوسف شاهين، مثلًا، لم يعجب محمد كردفانى مخرج «وداعًا جوليا»، أو أن محمد عبدالوهاب «اقتبس» جملًا موسيقية فى بعض ألحانه.. لن يحدث أى شىء للهوية اللبنانية إن بات الخلق يقولون إن أعمال الأخوين رحبانى مستمدة من موسيقى موتسارت، أو غيره.
ما لا يعرفه صاحب هذا «الرأى»، إن اعتبرناه رأيًا، أننى شخصيًا، أحب السودان وأهله، وأراهم أهلى وناسى، تجمعنى بكثير منهم صداقات ممتدة، وحوارات لا تنتهى، كالمصريين تمامًا، ولا أرى أى «تبخيس» من شخص الراحل الكبير فى إعادة مناقشة أعماله، وتقييمها، وتحليل عناصرها، والاختلاف حولها، وهو ما أراه ردًا على «رأى آخر» ذهب إلى أن «الأمم تتوه وتسقط عندما نُسفه من رموزنا وإنجازهم».. أو عندما نقول عن رواية «حصدت جوائز عديدة، واعتبرها كبار النقاد واحدة من أهم الروايات العربية» إنها متوسطة.. والحقيقة أننى لا أعرف كيف يكون «رأى» فى رواية هو «تسفيه» لرمز أو لمنجزه!.. ولا كيف تسقط أمة بخلاف فى الرأى حول عمل أدبى! فكل عمل إنسانى يصلح للمراجعة، وإعادة النظر، ويخضع لاختلاف الآراء.. الأمم تسقط لإصرارها على الحياة فى الماضى دون تجاوزه أو البناء عليه، وهو ما أظن أنه يحدث فى السودان الآن من حراك ثقافى واجتماعى، ومن ظهور مدهش، وحضور كبير، لأسماء مهمة فى المشهد الثقافى العربى، أدباء وفنانين، أعرف أسماء معظمهم، وأقرأ لهم، وأحب كتاباتهم، ولن يتأثر السودان إن كتب أحدهم رواية متوسطة، أو حتى سيئة، وأرجو ألا يفعلها أى منهم.
أما هؤلاء الذين انتفضوا للدفاع عن ابن منطقتهم فيما يشبه «خناقات الحوارى»، وراحوا يملأون الفضاء الأزرق سبابًا، فلو كانوا قد قرأوا للرجل أو لغيره، لما انحدر بهم رد الفعل إلى دوائر السباب، أو الاتهامات الساذجة التى قرأتها جميعًا، وأشفقت على أصحابها جميعًا.. وليس لدىّ لهم سوى الدعاء أن يهديهم الله، ويفتحوا يومًا كتابًا، فالقراءة، على اختلاف مسالكها، تهذب النفوس، ولا تسمح لصاحبها أن يكون «شتامًا»، أو لعانًا، وربما كان الأجدر بهم أن يفعلوا ما كان الطيب صالح نفسه يحب أن يفعله، وما قاله فى أكثر من مناسبة، وما أشرت إليه فى مقال «حرف» من أنه كان يحب قراءة الكتب بكل أشكالها، واتجاهاتها، بصورة أكبر كثيرًا من حبه للكتابة.