مصر والتجربة التركية- البرازيلية
فى مقال سابق كنت قد وضعت اقتراحًا على لجان الحوار الوطنى، التى سوف تنعقد قريبًا لمناقشة الأوضاع الاقتصادية فى البلاد وطرح الحلول والبدائل المناسبة لتجاوزها، بأن تقوم بدراسة تجارب حقيقية وأزمات اقتصادية تعرضت لها بعض الدول وتمكنت من عبورها بل وصولها إلى مصاف أكبر اقتصاديات دول العالم.. ومن بين تلك الدول كل من تركيا والبرازيل.. وها هى مصر تستقبل كلًا من رجب طيب أردوغان، رئيس تركيا، ولولا دا سيلفا، رئيس البرازيل.. وعلى الرغم من اختلاف أسباب الزيارتين فإنهما اتفقتا مع الموقف المصرى تجاه العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى، سواء من حيث ضرورة وقف النار هناك أو رفض التهجير القسرى لأبناء فلسطين.. كما كانت هناك اتفاقات أخرى تمثلت فى تطوير التعاون المشترك سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، والارتقاء بتلك العلاقات إلى المستوى الاستراتيجى، الذى يحقق مصالح الدولة المصرية مع كل من تركيا والبرازيل فى جميع المجالات.
كان من الطبيعى أن تتناول جميع وسائل الإعلام فى البلدان الثلاثة أهمية هاتين الزيارتين من كل النواحى، مع التركيز على البُعد السياسى نظرًا لما تمر به منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة والأراضى الفلسطينية بصفة خاصة.. إلا أننى أرى أنه من المهم أيضًا إلقاء الضوء على الأوضاع الاقتصادية فى كل من تركيا والبرازيل وكيفية تجاوز الأزمات التى تعرضتا لها لدرجة كادت أن تصل بهما إلى حافة الهاوية إلى أن أصبحتا من أهم دول العالم اقتصاديًا وصناعيًا.
كانت تركيا قد تعرضت لحالة من التدهور عاشها اقتصادها نتيجة بعض السياسات غير التقليدية التى تم تطبيقها، التى ترتب عليها انهيار الليرة التركية التى فقدت 55% من قيمتها فى عام واحد، وارتفع معدل التضخم بدرجة لم تحدث منذ عام 1998، وقد ساعد فى ذلك أيضًا تأثير الزلازل التى تعرضت لها تركيا خلال عام 2023 وما تم تقديمه من مساعدات نقدية لدعم ضحايا تلك الزلازل.. وعلى الرغم من تلك الأزمات والصعوبات فقد اتخذت الحكومة التركية العديد من الإجراءات التى أدت إلى بداية التعافى من تلك المرحلة والبدء فى دخول مرحلة جديدة تشهد نموًا وتطورًا فى اقتصادها، حيث كان من أهم تلك الخطوات معالجة التضخم من خلال رفع الفائدة بصورة تدريجية، وهو ما يشير إلى الاهتمام باتباع سياسة نقدية جديدة تهدف إلى زيادة السيولة النقدية فى أيدى المواطنين لمواجهة ارتفاع الأسعار.. إطلاق برنامج اقتصادى متوسط الأجل يغطى ثلاث سنوات من 2024- 2026 يستهدف زيادة إمكانات النمو والإنتاج الصناعى والزراعى وجذب الاستثمارات الخارجية والتوسع فى تصدير المنتجات التركية المختلفة، إلى جانب زيادة فرص العمل وتحسين الكفاءة والمهارات فى سوق العمل.. باختصار فإن تلك الخطة ترتكز على 7 ركائز أساسية وتشمل النمو والتجارة والقوى العاملة واستقرار الأسعار وإدارة الكوارث والأزمات والتحول الأخضر والرقمى وتعزيز بيئة الأعمال والاهتمام بالصناعة والاستثمار.. ومن هنا نشير إلى أن خطوات البدء الحقيقية لتجاوز الأزمات الاقتصادية التى تعرضت لها تركيا ترتب عليها استقرار الوضع الاقتصادى هناك، ما أدى إلى جذب كل أنواع الاستثمارات الأجنبية والمحلية وأصبح اقتصادها ينافس أقوى الأنظمة الاقتصادية حول العالم، حيث احتلت المرتبة الثانية بين دول مجموعة العشرين بعد الهند فى مجال تصدير منتجاتها بعد تغلبها على المعوقات الصعبة التى واجهتها خلال الأعوام الماضية.. كما حافظت على المرتبة التاسعة عشرة عالميًا ضمن أكبر اقتصاديات دول العالم.
أما البرازيل فقد واجهت العديد من المشكلات الاقتصادية، ومن بينها انخفاض قيمة الريال البرازيلى أمام الدولار الأمريكى والتضخم فى حجم الديون الخارجية والداخلية وضعف معدلات النمو، وترتب على ذلك أزمة ثقة فى الاقتصاد البرازيلى سواء من الجهات الدولية المانحة أو المستثمرين المحليين والأجانب، بالإضافة إلى تردى الأوضاع الاجتماعية مثل التسرب من التعليم وانتشار الجرائم والبطالة والفقر والتفاوت الكبير بين الطبقات.. ومنذ أن تولى الرئيس البرازيلى دا سيلفا المسئولية هناك انتهج برنامجًا متشددًا للتقشف بهدف سد عجز الموازنة وفرض ضرائب متزايدة على فئة رجال الأعمال والمستثمرين مقابل منحهم تسهيلات كبيرة للقيام بأنشطتهم الاستثمارية فى كل المجالات الصناعية والسياحية، بالإضافة إلى استخدام الأراضى الزراعية هناك بصورة مثلى ترتبت عليها زيادة كل المحاصيل الزراعية غير المتوافرة فى الدول الأخرى مثل البن وأنواع مختلفة من الفواكه، كما استثمرت فى الثروة النفطية وابتكرت أنواعًا جديدة من الأنشطة السياحية، وهو الأمر الذى جعلها تستقبل سنويًا 6 ملايين سائح.. كل هذا بالإضافة إلى الاهتمام بالرعاية الاجتماعية، حيث خصص راتبًا شهريًا للأسر الأكثر احتياجًا وخلق فرص عمل للشباب ورفع الحد الأدنى للأجور.. كل هذا جاء نتيجة حسن الإدارة والاستغلال الأمثل لطاقات وموارد البلاد.. وها نحن نرى البرازيل الآن وقد أصبحت واحدة من أكبر دول صناعات الطائرات والسيارات فى العالم، وهى اليوم تمثل رابع أكبر قوة اقتصادية فى العالم.
وإذا استرجعنا توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى وتوجهاته للحكومة وأيضًا للقطاع الخاص بل لجميع أبناء الشعب المصرى، فإننا سوف نجد أن أغلبها يتطابق تمامًا مع تلك السياسات التى انتهجتها كل من تركيا والبرازيل، منها على سبيل المثال الاهتمام بتوسيع الرقعة الزراعية فى البلاد وتبنى مشروع المليون ونصف المليون فدان، كذلك اهتم بالرعاية الاجتماعية للمواطن المصرى من خلال مشروعات ومبادرات غير مسبوقة وأهمها حياة كريمة، بالإضافة إلى إنشاء شبكات طرق ومواصلات على أعلى مستوى تسهم فى تسهيل حركة نقل البضائع والمنتجات بين المحافظات المختلفة بسهولة ويسر.. ثم جاءت دعوته للنهوض بالصناعة بكل أنواعها والاهتمام بالتصدير والسياحة لما لهما من تأثير كبير على الدخل القومى للبلاد وأيضًا دخل الفرد، كما أن زيادة العوائد البنكية على فترات متلاحقة أدت إلى انخفاض التضخم إلى حد ما.. وفى إطار اهتمام الرئيس بهذا الملف فقد قام بتكليف القائمين على إدارة الحوار الوطنى أن يكون ملف الصناعة والاقتصاد هو الموضوع الرئيسى فيه من خلال طرح رؤى وأفكار واقتراحات جميع المعنيين بالاقتصاد والصناعة دون الركون إلى فئة معينة، وهذا ما يؤكد على إصرار سيادته أن تكون المشاركة الشعبية فى هذا الملف هى القاطرة التى سوف تسير عليها الدولة خلال المرحلة الحالية طالما كانت تلك التصورات والحلول قابلة للتنفيذ دون فرض أعباء إضافية على المواطن المصرى.
إن مصر تمتلك من المقومات ما لا يوجد فى الكثير من دول العالم، يأتى على رأسها قيادة وطنية مخلصة ورشيدة تهدف إلى النهوض بالوطن على الرغم من تلك التحديات التى تحيط به خارجيًا وداخليًا كما تمتلك الموارد البشرية المؤثرة والفعالة التى تحسن العطاء عندما تجد المناخ المناسب لإطلاق طاقاتها فى كل المجالات التى تعمل بها كذلك، فهى تمتلك مقومات غير عادية فى السياحة بمختلف مجالاتها سواء التاريخية أو الشاطئية أو العلاجية أو الثقافية.. يبقى إذن أن نحسن إدارة هذه الموارد واستغلال تلك المقومات الاستغلال الأمثل.. ومن هذا المنطلق فإنه فى إطار توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى قامت الحكومة بوضع توجهات استراتيجية لتحقيق أهداف معتبرة للانتقال بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى الأفضل، وذلك من خلال عدة محاور تشمل تصورًا لسياسات اقتصادية جديدة لدعم واستقرار الاقتصاد من خلال الدراسة والمعرفة، وتمتلك الحكومة كل مقومات ترجمة هذه الأهداف إلى أرض الواقع فى ظل تفعيل أجهزة الدولة أدوارها لتحقيق النجاح.
يحدونى أمل كبير فى أن تحقق توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى للحكومة والقطاع الخاص وأبناء الشعب طفرة كبيرة فى النهوض بالصناعة والاقتصاد والزراعة والاستثمار والتصدير وكلها دعائم تبنى عليها نهضة الوطن وقوته.
وتحيا مصر..