هى دي «عبلة» يا مصر.. كيف تصنع ممثلة عالمية بمقادير محلية؟
منتصف الثمانينيات ذهب يوسف شاهين يمارس عادته الأثيرة فى طرق أبواب المسارح الشبابية التى لا يزورها أحد.. وفى هذا اليوم دخل مسرح الطليعة لمشاهدة عرض ميلودراما تؤديه مجموعة شباب مبدعين خرجوا لتوهم من رحم المسرح الجامعى.. سريعًا استخرجت عين شاهين الخبيرة حينها وجهًَا صبوحًا ينضح بالمصرية والموهبة، وهى بطلة العرض، وقرر أن تنضم لكتيبة فيلمه الذى كان يجهزه حينها «الوداع بونابرت».. عرف أن الفتاة الموهوبة اسمها عبلة كامل مخطوبة لزميلها فى الجامعة والفرقة أحمد كمال، اقتنصها شاهين سريعًا لتدخل عالمه الانتحارى الذى يذوب فيه الممثل داخل الخلطة الشاهينية.. ولا يستطيع الخروج منها غير مَن يملك موهبة متفجرة قادرة على الإبحار مرة أخرى خارج حدود مياه عالم شاهين السحرى الآسر.
ويبدو أن موهبة خريجة الآداب قسم مكتبات كانت ألمع من أن تخطئها العين الخبيرة، حيث اختُطفت عبلة كامل فى نفس الشهور تقريبًا لتدخل بلاتوه ٤ أفلام أخرى، هى فيلم «الطوفان» مع بشير الديك وفيلم «للحب قصة أخيرة» مع رأفت الميهى، ثم داود عبدالسيد فى فيلم قصير اسمه «سكة راوية» وهشام أبوالنصر فى «البنات والمجهول».
بالتوازى مع هذا الفتح السينمائى لتلك الشابة الموهوبة تدخل عبلة عالمًا آخر أكثر رحابة وحميمية للناس وهو عالم التليفزيون.. ولحسن الحظ كان الدخول من البوابة الأم التى لم يدخل منها أحد إلا وأنصفت موهبته وأصقلتها وهى بوابة أسامة أنور عكاشة عن طريق دور صغير فى الجزء الثانى من تحفته «الشهد والدموع»، وهو الدور الذى أهّلها لتنغمس بعد سنتين فى ملحمة التليفزيون العظمى «ليالى الحلمية» بدور محورى مهم وهو دور «رقية إسماعيل البدرى» الفتاة التى أرهقها أسامة من كثرة ما جارت عليها وظلمتها شخوص ملحمته من أول إسماعيل البدرى ثم ابنه سليم ومن بعده حلمى خليف، وغيرهم.
عالم ثالث فتح أبوابه لبنت كلية الآداب الموهوبة وهو عالم المسرح الذى أجادته فى جامعتها.. هذه المرة دخلته من بوابة أخرى لا تقل أهمية عن بوابة شاهين سينمائيًا وبوابة عكاشة تليفزيونيًا.. وهى بوابة لينين الرملى المسرحية، حيث قامت بدور البطولة فى مسرحية «عفريت لكل مواطن» أمام نبيل الحلفاوى، ثم منه قفزت لدور البطولة أمام محمد صبحى فى مسرحية «وجهة نظر».. وبغض النظر عن حقيقة ما ذكره لينين بعد ذلك بسنوات عن معاناة عاشتها عبلة فى ظل ديكتاتورية صبحى الفنية التى أدت إلى انفصال فنى نهائى بين الرفيقين صبحى ولينين بعد تلك المسرحية.. لكنها بالتأكيد كانت إضافة إلى رصيد عبلة الشعبى الذى بدأ يتكون عبر أدوار لامعة حتى لو كانت أصغر من حجم موهبتها فى العوالم الثلاثة.. التليفزيون والمسرح والسينما، خلال حقبة التسعينيات.. إلى أن جاءت سنة ١٩٩٦ بدورها الذهبى الذى وضعها فى أول طريق متفرد إلى قلب الناس حفرته عبلة على مقاسها لكى لا يمشى فيه غيرها وهو دور «فاطمة كشرى» فى مسلسل «لن أعيش فى جلباب أبى» بجوار العملاق نور الشريف. «فاطمة كشرى» كان بداية خيط تلك الخلطة الإنسانية المدهشة فى تمثيل عبلة المتماهى مع الحقيقة ولاغيًا الحد الفاصل بين الواقع والتمثيل.. امتد الخيط عبر أدوار كثيرة لكننا نتوقف عند دور آخر بعد ٥ سنوات كاملة من «فاطمة كشرى»، فى أيقونة أخرى وهو دور «جليلة الطرابيشى» فى مسلسل «حديث الصباح والمساء» بداية الألفية الجديدة، وهو المسلسل الذى تغلغل فى الوجدان الجمعى للمصريين بكل تفاصيله وشخوصه الثرية، وعلى رأسهم جليلة. بعد ذلك بدأت المرحلة الأخيرة فى مقادير أسطورة عبلة كامل وهى مرحلة «اللمبى» عام ٢٠٠٢، حيث دشنت عبلة أو «أم اللمبى» صورة جديدة لم يكن المنتجون يجرأون عليها وهى الاعتماد عليها كنجمة شباك لتقتنص عبلة فى السنوات التالية فرصتها المتأخرة فى البطولة السينمائية المطلقة فى أفلام مثل «كلّم ماما» و«خالتى فرنسا» و«بلطية العايمة» بالتوازى مع التوهج التليفزيونى المعتاد عبر باقى سنوات الألفية حتى وصلنا إلى مسلسلها الأخير «سلسال الدم» الذى مثلته فى ٥ أجزاء آخرها فى ٢٠١٨ لتنزوى بعده عبلة تمامًا عن الأضواء، بعد أن وصلت، على ما يبدو، لقناعة مفادها أنه «آن أوان الراحة».
ولا عزاء للمشتاقين لطلة عبلة الساحرة، الآسرة، الخلابة.
المستغنية.. عبلة والصحافة «دونت ميكس»
هل يمكن أن تصدق أن غول التمثيل هذا التى وقفت أمام أعتى الكاميرات لأكثر المخرجين جبروتًا.. يمنعها خجلها من الوقوف أمام كاميرا صحفية متحدثة عن نفسها أو مشوارها الفنى أو آرائها فى العموم حتى؟
تلك هى عبلة كامل، وهى من أكثر الفنانين ندرة فى الحوارات صحفية كانت أو تليفزيونية.. وإن وجدت يتم التعامل معها على أنها من النوادر وأغلب تلك النوادر فى بدايتها الفنية فى الثمانينيات وأوئل التسعينيات.. وإذا عثرت على موضوع صحفى معها غالبًا لن يكون حوارًا طويلًا مصورًا بل تصريحات سريعة اقتنصها صحفى هنا أو هناك لها على هامش تصوير أو تكريم قبل أن تقاطع حتى التكريمات الممنوحة لها عن أدوارها.
شرحت عبلة بنفسها تلك المفارقة فى حوار قصير جدًا اقتنصته منها مجلة «روزاليوسف» فى أكتوبر ١٩٩٠ وكان عنوانه «أنا خجولة أمام كاميرا التصوير».. وكانت تقصد هنا التصوير الفوتوغرافى، حيث قالت بالنص: «لا يتصور الكثيرون أن تلقائيتى فى الوقوف أمام كاميرات السينما يقابلها خجل شديد من كاميرا التصوير الصحفى».
فى هذا الحوار القصير شرحت عبلة ببساطة خلطتها السحرية فى التمثيل التلقائى، حيث قالت نصًا: «تلقائيتى فى الأداء التمثيلى سر يحيرنى.. كل ما أعلمه أننى أقرأ السيناريوهات بشكل دقيق وأستعرض تكوين جميع شخصياتها، ثم أركز على دورى فيها بشكل خاص، وعندما أدرسه تمامًا أتخيل ملامحه الشكلية بتفاصيلها الدقيقة قبل أن أترجمه إلى شخصية من لحم ودم أثناء التصوير مستعينة بجميع الشخصيات التى أختزنها بداخلى، بوعى أو دون وعى، من خلال التعامل اليومى العادى».
لاحظ أن كلام عبلة حينها وهى لم يتعد عمرها الفنى ٥ سنوات، لكنها تدرك ماذا تفعل وكيف تفعله بدقة وتلقائية، حيث تدرس أولًا كل الشخصيات المحيطة بالشخصية التى تؤديها، ثم تدرس شخصيتها، حينها يتكون داخلها تصور كامل لشخصية من لحم ودم استنادًا إلى مخزونها الإنسانى الذى عاشته.
والمفارقة أن الذين عملوا مع عبلة حتى بعد أن صارت نجمة أولى فى الألفينيات وتباع على اسمها الأفلام تحدثوا عن أسلوب عبلة عندما تدخل عملًا جديدًا، فتجد أنها نفس الاستراتيجية، حيث تصر على عمل جلسات قراءة للسيناريو كاملًا، وتناقش الكاتب والمخرج فى أدق التفاصيل حتى تتشرب العمل وتصبح جاهزة لتقمص الشخصية.
الواثقة.. فنانة تخاصم المساحيق وتكره الافتعال وتعشق الفن بجنون
فى نفس شهر حوار «روزاليوسف» نشرت مجلة «صباح الخير» فى عدد ٢٥ أكتوبر ١٩٩٠ حوارًا آخر فى نفس المساحة تقريبًا، وهو فى مضمونه مكمل للحوار الأول، وكأنه يستكمل وصف شخصية عبلة كامل المتكاملة فنيًا، حيث يصفها كاتب الحوار، اسمه غير مذكور، بأنها كتلة من المشاعر المرهفة تنفجر فوق خشبة المسرح وأمام عدسات السينما لتفرز عوالم من الفن والمتعة والدهشة، ممثلة تخاصم المساحيق وتكره الافتعال وتعشق الفن لحد الجنون.
ثم يتطرق الموضوع إلى آراء الفنانة الشابة نفسها، وهى التى تكشف عن مدى تمكنها من أدواتها وإدراكها المبكر جدًا لدورها كفنانة، حيث تبرر رفضها بعض الأدوار قائلة: «لا أشعر بهذه الأدوار، فلو كانت بطولة وغير محسوسة تبقى نكبة، أى أننى سأظل أمام الناس طوال الفيلم وأنا لا أشعر بالدور، وبالتالى لا يشعر الناس بى، فالأفضل دور صغير ولكنى أعمله ببهجة». إذن هذه هى كلمة سر عبلة كامل، حيث إن التمثيل لديها ليس مجرد مهنة، بل هو وسيلتها للبهجة إن لم يحقق لها الدور البهجة المرجوة فليذهب إلى الجحيم حتى لو كان بطولة مطلقة.. وهذا بالتأكيد لم يكن من قبيل الشعارات لفنانة شابة لم توضع فى اختبارات بعد حتى تختبر واقعية تلك الشعارات، لكنها حقيقة أكدتها مسيرة عبلة كامل فى السنوات التالية حتى صارت نجمة شباك فى الألفية الجديدة.
كانت تستطيع أن تحذو حذو ممثلين كُثر يستغلون طلب السوق لهم، فيتركون أنفسهم بالكلية لها حتى تضيع مواهبهم الحقيقية تحت أقدام أوردرات التصوير المتلاحقة اللاهثة.
تكمل عبلة إزاحة الستار عن حدود موهبتها الشاسعة بقولها: «أنا لست من النوع الذى يعيش الشخصية طوال النهار فقط، أعيشها قبل التصوير بثلاث دقائق فى صمت تام، وبمجرد أن ينتهى التصوير تنتهى معه الشخصية»، وتكمل تفسير الأمر حتى لا يبدو الأمر متناقضًا مع ما قالته فى «روزاليوسف» قبلها بأيام حيث تقول: «أحضر الشخصية قبلها تحضيرًا جيدًا، حيث أقرأ الشخصية قراءة جيدة وأحاول استخراج شخصية مشابهة من مخزونى الإنسانى، لأن كل إنسان يختزن داخله أنماطًا كثيرة من البشر يستدعيها عندما يحتاجها».
الفيلسوفة.. كيف أخرجت عائشة صالح ألطف حوار صحفى فنى مع عبلة كامل؟
قالت إنها تحب أن تمثل حكاية حب مصرية بين ولد وبنت من لحم ودم.. أفضل من روميو وجولييت.
إذا كان لعائشة صالح الصحفية العظيمة فضل على سلسلة «ريحة الورق» لكثرة ما اتخذت أعمالها مرجعية لها، فإنها أيضًا فى تصورى لها فضل كبيرة على صناعة الحوار الصحفى غير التقليدى خاصة الفنى.. حيث تحوّل اسمها على الحوارات فى مجلات الثمانينيات والتسعينيات إلى ضمان لجودة هذا الحوار وأهميته، ولا ننسى أننا ذكرنا مثلًا فى هذا المكان قبل ذلك أن عادل إمام اختار أن يعلن من خلال حواره معها عن موقفه الأسطورى، نهاية الثمانينيات، بالذهاب إلى وكر الإرهاب ذاته فى أسيوط لعرض مسرحية «الواد سيد الشغال» تضامنًا مع فرقة مسرحية صغيرة منعتها الفرق الإرهابية المسيطرة على المحافظة حينها من استكمال عروضها.
إذن عندما تجرى عائشة صالح حوارًا مع عبلة كامل فى عدد «المصور» ٢٢ سبتمبر ١٩٨٩ فلا بد أن يكون حوارًا استثنائيًا.. وأغلب الظن أنه الحوار الصحفى الوحيد لعبلة بهذا الحجم وتلك التفاصيل.
المجلة أفردت الحوار على ٤ صفحات كاملة تحت عنوان جامع «عبلة كامل تتحدث عن بنات جيلها».. ثم عنوان آخر على لسانها «سنظل نجرى ونلهث حتى آخر العمر».
روعة هذا الحوار فى الكيفية التى أجرته معها عائشة صالح، الصحفية المخضرمة، التى قرأت على ما يبدو شخصية عبلة جيدًا فتركتها تسترسل فى أى كلام يأتى على ذهنها دون أن تقاطعها بأسئلة، وتشرح عائشة طبيعة الحوار فى المقدمة قائلة: «اتفقنا أن تحكى عبلة كل ما يخطر ببالها.. بلا ترتيب.. كلمة من هنا وكلمة من هناك.. تتدفق ثم تتوقف.. أنا عايزة أشطب الكلام اللى فات.. حاضر لكنها تعيد نفس الكلام بتلقائية».
لذلك كان طبيعيًا أن نرى حوارًا صادقًا وكأنه خارج من جهاز رسم شخصية دقيق النتائج يعبر عما ستكونه تلك الفنانة الاستثنائية فى موهبتها وصدقها وتلقائيتها، لاحظ أن عبلة فى هذا الحوار لم يكن عمرها الفنى وصل ٥ سنوات.
ومن الممكن أن نحذو حذو الأستاذة عائشة صالح ونقتطف بعض الفقرات من معين حوارها مع عبلة كامل الفنانة الناشئة حينها كما قالته بالنص نهاية الثمانينيات:
««أنا رفضت أمثل فى مسلسل لأنى حسيت أنه مجموعة من الأكاذيب.. فكيف أنطق بما لا يقنعنى.. أبدًا.. أنا لا أنتمى لأى حزب سياسى.. وماعرفش أقول عن اتجاهى السياسى لكنه يظهر من خلال اختياراتى وأسلوبى ومواقفى فى العمل وخارجه. كل منا له اتجاه سياسى سواء كان فنانًا أو طبيبًا ولو كان حتى زبالًا.. فالسياسة تدخل فى كل شىء حتى الحب».
«عندما أضطر لمقابلة رسمية أشيل الهم.. قبل أن ألتقى المسئول، سكرتارية وهيلمان.. أدخل.. كل شىء مرسوم.. فأتكلم بحساب يطلع الكلام جنب بعضه.. جنب بعضه.. مرتب قوى وماشى فى خط محسوب ومرسوم.. أقول إمتى المقابلة تنتهى.. أول ما أخرج أقول هم وانزاح».
ثم فقرة بعنوان «صديقى أهم من جولييت وليلى» تستكمل فيها عبلة خواطرها الذكية وآراءها المتفردة فتقول:
«أنا أحب أمثل الدور اللى من لحم دم.. حكاية تهمنا وتمسنا. مالى أنا ومال التاريخ وحكاياته، أنا عايزة حكاية بتاعة زماننا، سأحكى لك حكاية اثنين أصحابى، الولد مصرى والبنت مش مصرية، ومش هقول من أى بلد، أخاف أهلها يعرفوا وتبقى مصيبة.. أنا باحب الاثنين وفيه قصة حب رقيقة جدًا بينهما، من أرق قصص الحب التى عرفتها فى حياتى. لكن عقبات فظيعة تقف بينهما، ليه الأهالى يقفوا ضد قصة حب جميلة زى دى، أتمنى أن يتزوجا بصرف النظر عن أى أزمات. أو مشكلات ممكن أن تحدث. القصة دى تهمنى أكثر من روميو وجولييت، وقيس وليلى، دى قصص قرأتها على الورق، لكن أصحابى شايفاهم وحسّاهم، أعيش قصتهم حاليًا متأثرة متعاطفة ومتألمة من أجلهم، وأقول يا رب ينتصر حبهم، لو حصل أتمنى أمثل حكايتهم ومتأكدة هتكون فيلم خرافة. ولو ما حصلش بلاش أمثلها أخاف أهل البنت يعرفوا، هكذا أكثر الناس بيحبوكى وأحيانًا يكونوا أكثر ناس يتسببوا فى تعاستك.. تناقض غريب».
الحوار جميل لأبعد حد كنت أود نشره كاملًا كما جاء على لسان عبلة وخطّه قلم عائشة.. لكنه طويل جدًا لكن لا بأس من ذكر قفلة الحوار أو نهايته، حيث قالت عبلة موجهة كلامها لعائشة: «أنا قلت كل اللى أنا حاسة بيه. وهو يعنى أنا كلامى بايخ قوى ولا إيه.. بس هو ده أنا.. وأفضل الناس تعرفنى على حقيقتى أحسن ما أقول كلام متذوق متوضب ويطلعنى فيلسوفة وعظيمة ويرفعنى السما بس مش أنا».
انتهى الحوار الممتع الفريد من نوعه مع عبلة، ولا أعتقد أن عبلة كامل بعد هذا الحوار أجرت حوارًا صحفيًا كبيرًا مع صحفى آخر، بل الأكثر من ذلك أنها عُرف عنها أنها لا تقرأ حتى المدح الموجه لها، تعمل وفقط ثم عندما تدخل بيتها فهى أم لبنتين تحتاجان منها كل اهتمامها.
الله يرحمك يانعمة.. 27 كلمة صنعت أعظم مشهد «جنائزى» فى الدراما
بالتأكيد عندما عُرض مسلسل «حديث الصباح والمساء» فى بداية الألفية الجديدة، وتحديدًا ٢٠٠١، أحدث ضجة فى الشارع المصرى بثراء شخصياته وتفاصيله التى حاكها محسن زايد ببراعة منقطعة النظير من بين سطور رواية نجيب محفوظ البديعة.
انغرس المسلسل بتتراته ومشاهده فى عمق الوجدان المصرى بجوار درر الدراما المصرية الخالدة وكانت عبلة كامل، «جليلة الطرابيشى»، من أكثر شخصيات المسلسل لمعانًا لثراء الشخصية المكتوبة أولًا، ثم لروعة تقمص عبلة، كعادتها، لتصبح هى «جليلة الطرابيشى» ولا أحد غيرها يمكن أن يكون «جليلة الطرابيشى».
على روعة مشاهدها كلها يبقى مشهد وفاة رفيقة عمرها «نعمة المراكيبى» أو دلال عبدالعزيز، الذى حوى حوارًا لم يتعد ٢٧ كلمة هو المشهد الجنائزى الأصدق من وجهة نظرى.
والحقيقة هو لم يكن حوارًا، بل كان كلامًا على لسان «جليلة» فقط بعد أن انفض السامر عن حجرة «نعمة المراكيبى» ولم يبق غير «جليلة» مع جثمان «نعمة»، فأبكت عبلة الملايين عندما جرت على لسانها السبع والعشرون كلمة التى كتبها زايد لتقولها شخصية «جليلة» محدثة روح «نعمة» المحلقة حول جثمانها ليخرج مشهد آية فى الجمال والشاعرية والصدق، وتمر الأيام ويستدعى الناس نفس المشهد بعد وفاة دلال عبدالعزيز صاحبة دور «نعمة»، مستجيرين بصدق عبلة للبكاء على دلال الفنانة الجميلة التى رحلت بعد أشهر قليلة من وفاة زوجها الفنان العظيم سمير غانم.
قالت جليلة بالنص:
الله يرحمك يا نعمة
يا أميرة
يا بنت الناس الطيبين يا نعمة
يا عِشرتى الحلوة
خلاص يا أختى
لا أنيس ولا جليس
عدمت الحبايب من بعدك يا نعمة
يا مقرب البعيد يا رب
أستغفر الله العظيم.