فى حب فنان عملاق اسمه إبراهيم عبدالرازق.. غوايش مش ليك يابرنس.. عن فتوة الموهوبين الذي خذله قلبه.. والدنيا
بداية الخمسينيات وبينما بطن القاهرة يعج باضطرابات كامنة توحى بثورة وشيكة ستغير وجه مصر للأبد.. كان هناك فى عمق الريف المصرى، وتحديدًا فى قرية اسمها «كفر الترعة القديم» تابعة لمدينة شربين بالدقهلية، رجل يمشى بصندوق عجيب يحمله على ظهره فى شوارع القرية حتى استقر به ووضعه فى منتصف الشارع، ونفخ فى مزماره ليجذب أطفال القرية طمعًا فى قروشهم القليلة مقابل النظر عبر الدوائر الزجاجية التى تكشف عن عالم سحرى داخل هذا الصندوق المزخرف، بينما هو يقول كلامًا منغمًا ليحكى خلاله حكايات ساحرة عما يراه هؤلاء الأطفال من خلال فتحة الضوء السحرية.
كان الصبية يدفعون القرش إلى الرجل راضين بالدقائق القليلة التى يمنحها لهم ليطوفوا بخيالهم الخصب داخل صندوق العجائب ثم ينصرفوا إلى ألعاب أخرى.. إلا طفل واحد دفع القرش ووضع عينيه أمام فتحة البيانولا ولم يرفعهما.. وكأن شيئًا ما غامضًا قد جعله يلازم هذا الرجل كظله ويدور معه فى كل شوارع القرية ليختطف مرات ومرات من الرحلة السحرية بخياله داخل الصندوق العجيب وعبثًا يحاول الرجل إفهام الطفل أن القرش الذى دفعه لا ليشترى به الصندوق، ولكن ليشاهد عرضه الخيالى مرة واحدة وكفى.. لكن الطفل كان كمن وجد بغيته ومفتاح حياته وترك كل ألعاب الطفولة ليتفرغ لهذا الصندوق العجيب. الصبى هو إبراهيم عبدالرازق، ابن شيخ البلد لقرية كفر الترعة القديم، وهو ما جعل رجل البيانولا يتقبل «لزقة» إبراهيم له خشية من غضب الأب وقطع رزقه من تلك القرية.
ومرت الأيام واستمر إبراهيم عبدالرازق، بعد أن صار مراهقًا، يطارد حلمه الذى رآه عبر عين البيانولا السحرية التى كشفت له مسرحًا باتساع الدنيا ولم تعد المدرسة هى شغله الشاغل بل رأى مستقبله فى فرقة المنصورة المسرحية التى تقدم لها فور الإعلان عن تكوينها نهاية الخمسينيات ولم يكن حينها يملك من سنوات عمره أكثر من ١٧ عامًا.. ثم مرت السنوات سريعًا بالفتى متفجر الموهبة ليكون حديث المنصورة وشربين كلها بعد أن خرجت طاقاته الفنية الكامنة خلف صدره ليصبح فى وقت قياسى فتى الفرقة الأول وبطل مسرحياتها مثل «أدهم الشرقاوى» و«مأساة جميلة» و«موتى بلا قيود» و«العرضحالجی».. حتى وصلنا للموقف الذى غيّر حياة إبراهيم عندما خرج على المسرح فى بروفات مسرحية «شالله يا أبوزعيزع» ليبهر الحضور كالعادة.. لكن الجديد حينها فى هذا الحضور ضم رجلًا غير عادى هو الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة، بجلالة قدره، حيث وقع فى غرام موهبة هذا الشاب الريفى إبراهيم عبدالرازق لينظر إلى محافظ الدقهلية حينها ويقول جملة واحدة: «خلّى بالك من الراجل ده لأنه خسارة إنكم تسيبوه فى المنصورة». حدث ما وصى به عكاشة سريعًا وانتقل إبراهيم عبدالرازق إلى قاهرة الأحلام ليطوى السنين طيًا ويجوب مسارح الدولة ويقف أمام كاميرات السينما والتليفزيون دون توقف باحثًا عما يستحقه من مكانة تضاهى موهبته الجامحة.. لكن ملامحه الشكلية قد فرضت عليه لونًا من الأدوار التى تتسم بالشر والعنف والفتونة وهى الأدوار التى أداها ببراعة شديدة لا شك.. لكنها حبست عنه أدوارًا أخرى كان يمكن أن يخرج منها كنوزًا غير أنه لم يكن يملك حظ محمود المليجى مثلًا، الذى وجد يوسف شاهين يستخرج كنوزه الدفينة قبل أن ينتهى عمره بدور العمر محمد أبوسويلم. جرت السنون حتى جاءت بالسنة الرابعة والأربعين فى عمر ابن شربين.. وهنا كان إبراهيم عبدالرازق على موعد مع الدور الأخير فى حياته عبر شاشة التليفزيون وهو «البرنس» ذلك العفى الذى يملك جسد وملامح وحش يرهب الجميع فى الموالد، لكنه يتحوّل إلى نسمة طرية تداعب بشرة بنت عمه ورفيقة الشقاء «غوايش» فى المسلسل الأيقونى الذى عُرض سنة ١٩٨٦ فى الفترة الذهبية للدراما المصرية وتعلق الناس بالبرنس وتعاطفوا معه وشعروا بأنه يستحق أن تبادله «غوايش» الحب لما يملكه من نبل كامن خلف قسمات وجهه القاسية.. وبكى المشاهدون عليه عندما أوصل حبيبته بيده إلى حبيبها «حسانين هريدى» أو «فاروق الفيشاوى» ليخرج من الكادر للأبد فى التمثيل وفى الحقيقة أيضًا، لأنه بعد أشهر قليلة فارق إبراهيم عبدالرازق الحياة على مسرحها أثناء ممارسة عشقه الوحيد وهو التمثيل فى يناير ١٩٨٧ ليتعاطف الناس مع الثنائى، البرنس وإبراهيم، اللذين لم يأخذا حقهما من «غوايش».. ومن الدنيا.
الستينيات.. الكواكب ترصد شهادة جماعية لابن شربين بعد وصية ثروت عكاشة
فى عددها الصادر يوم ١١ نوفمبر ١٩٦٣ نشرت مجلة «الكواكب» مقالًا على صفحة كاملة للناقد حلمى سالم بعنوان «خلى بالك من الراجل ده»، وهى نفس الوصية التى قالها وزير الثقافة ثروت عكاشة لمحافظ الدقهلية بعد أن أصابه الانبهار بهذا الشاب الريفى الذى لم يتعد عمره الثالثة والعشرين فى البروفات النهائية لمسرحية «شالله يا أبوزعيزع»، وهى الوصية التى سمعها كاتب المقال حلمى سالم بنفسه، لأنه كان أحد الحضور وخلدها فى سطور «الكواكب».
ويتساءل سالم قائلًا بالنص: «تمنيت أن أسأل السيد الوزير: أليس فى الإمكان ما دام هذا الممثل ممتازًا.. أن ينتقل إلى إحدى الفرق المسرحية الرسمية بالقاهرة.. عن طريق السيد الوزير نفسه؟ ليته يفعل ذلك».
ثم يرصد سالم معلومات كانت تُنشر لأول مرة عن هذا الشاب الموهوب الذى لا يعرفه أحد من أهل القاهرة وهم يظنون أنهم يعرفون كل شىء، فيقول مثلًا إن فرقة المنصورة المسرحية عندما بدأ تشكيلها وتقدم لها ٣٧٥ هاويًا.. اختبرتهم أسماء كبيرة حينها لأن المسرح كان مشروعًا قوميًا.. أسماء بوزن فتوح نشاطى وكمال يس وعبدالمنعم إبراهيم.. وكان صاحب المركز الأول بلا تردد من اللجنة هو فتى صغير عمره لم يتعد السابعة عشرة اسمه إبراهيم عبدالرازق.. ووضعت لجنة الاختبار فى تقريرها وصية أخرى سبقت وصية ثروت عكاشة بست سنوات وكان نصها: «إنه طاقة نادرة، ويجب أن تتبناها المحافظة حتى نهاية تعليمه».
هنا بدأت دلالات قلة الحظ الملازم لإبراهيم تظهر عندما تم حل الفرقة بشكل مفاجئ، لكن المفارقة أنه عندما أُعيد تكوين الفرقة وأعيدت الاختبارات كان هو أيضًا أول الناجحين ومن وقتها صار إبراهيم الطالب الموهوب هو أحد نجوم محافظة الدقهلية، حيث كان رئيس اتحاد طلاب الثانوى فى المحافظة.. وأمين اتحاد طلاب ثانوى على مستوى الجمهورية وعضو اللجنة العليا للشباب وعضو المكتب التنفيذى للفرقة، بالإضافة إلى حصوله على جائزة أحسن ممثل فى مهرجان رأس البر مع الميدالية الذهبية.. وكانت لجنة التحكيم مكونة من: أحمد عبدالحليم وسعدالدين توفيق.
إذن نحن أمام فنان استثنائى هنا ما زال لم يبرح طور المراهقة بعد، لكن عشق المسرح قد ملأ كيانه وكأن النداهة التى ندهته قبل سنوات من فتحة صندوق البيانولا السحرى قد سلبته الإرادة فى فعل شىء غير الفن والتمثيل.
نعود لمقال حلمى سالم النبوءة، حيث يكشف الرجل سرًا آخر فى حياة إبراهيم وهو دور الأخ الأكبر عبدالرازق الذى كان أول من اكتشف موهبة أخيه من العائلة وقام بدوره فى رعاية تلك الموهبة وحرثها منذ بدايتها وظل خلفه فى كل خطواته، على حد قول حلمى سالم.
الجميل فى موضوع «الكواكب» أيضًا أنه رصد رأى ثلاثة من كبار النقاد حينها فى هذا الشاب متفجر الموهبة، حيث كتب سعدالدين توفيق بالنص: «لفت نظرى فى كل هذا المهرجان ممثل شاب موهوب اسمه إبراهيم عبدالرازق.. كان يقوم ببطولة.. (شالله يا أبوزعيزع)، إن متابعة هذا الممثل على المسرح، لا تقل عن متعة متابعة محترفى القاهرة، بل تفوق.. والباهر أن هذا الفتى لا يقلد أحدًا من ممثلى القاهرة. ولقد كنت أستغرب وأنا أتابعه وأتساءل: أين مؤسسة المسرح لالتقاط هذا الشاب؟».
ثم نأتى لرجاء النقاش الناقد العظيم الذى كان يرأس تحرير «الهلال» حينها.. حيث قال النقاش بالنص: «ممثل يتمتع بصوت قوى جذاب، وحساسية فنان موهوب، وحضور مسرحى متدفق، إنه زهرة فى بستان يجب المحافظة عليها».
ثم يكمل رجاء شهادته بنداء عاجل إلى كل المسئولين صاغه بأسلوبه البديع كالعادة: «يا وزارة الثقافة.. يا محافظة الدقهلية.. يا إدارة الثقافة الجماهيرية، أنا أراهن على هذا الممثل أنه قادر أن يعتلى خشبة المسرح وسط محترفى القاهرة. فى نص جيد وفرصة يستحقها.. فى هذه اللحظة.. سوف نصفق لمولد نجم جديد».
نترك رجاء النقاش ونذهب لمحمود سالم، رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون حينها، حيث قال بالنص عن إبراهيم: «فلتة فنية نادرة ومنذ ظهور عبدالله غيث فى السنين العشر الأخيرة لم يظهر ممثل بمستوى إبراهيم عبدالرازق، إن هذا الشاب لو وجد الفرصة أمامه فسيكون أهم ممثلى المسرح».
أما حلمى سالم، كاتب مقال «الكواكب»، فقد أنهاه بصرخة للمسئولين لإنقاذ موهبة إبراهيم عبدالرازق الفذة كما قال بالنص: «إن هذه الموهبة الفذة، تستحق أن تهتم بها مؤسسة المسرح.. وأن تضمه إليها.. بدلًا من الجنيهات العشرة التى يأخذها كإعانة من محافظة الدقهلية.. حرام أن تظل هذه الموهبة مدفونة فى نطاقها الضيق.. ونحن فى حاجة إلى هذه المواهب التى تلدها بلادنا وقد تضيع فى الإهمال أو فى الزحام».
السبعينيات.. زوربا المنصورة الذى لم تخدعه أضواء القاهرة
مرت ١٣ عامًا على مقال حلمى سالم فى «الكواكب» فى ١٩٦٣.. ولم ينسَ سالم نبوءته التى بدا أنها بدأت تتحقق فى السبعينيات بعد أن انتقل إبراهيم عبدالرازق إلى القاهرة سنة ١٩٦٩، حيث نشر نفس الكاتب مقالًا على صفحتين بعنوان جميل «زوربا المنصورة» فى عدد «الكواكب» بتاريخ ٢ مارس ١٩٧٦، يكمل سالم فيه حكايته عن إبراهيم عبدالرازق خلال تلك السنوات بعد أن تحققت وصية ثروت عكاشة وألقى الشاب فى محيط القاهرة لا يملك إلا موهبته مجدافًا وشغفه بالمسرح والفن سفينة، حيث يقول سالم بالنص: «لم يغب إبراهيم عبدالرازق عن عينى لحظة، كنت أرقبه دائمًا.. أرقب خطوته داخل الحياة الفنية وأرقب خطوته خارجها وخفت عليه لأن القاهرة كلها بريق يأكل، وكثيرون أكلهم بريق القاهرة والحياة الفنية لها بريق أشد.. وفلاح المنصورة وقف أمام بريق القاهرة وبريق الحياة الفنية حائرًا يومها خفت عليه أن يأكله البريق ويضيع فى المولد».
ثم شبّه حلمى سالم «إبراهيم عبدالرازق» بـ«زوربا» الشخصية الأسطورية اليونانية التى تتميز بالتلقائية الشديدة والانطلاق بلا حدود وخوض كل التجارب دون خوف فيقول سالم بالنص: «خفت عليه من زوربا المعربد داخله، خفت أن يتوه زوربا فى المولد أيضًا، لكن زوربا أو إبراهيم عبدالرازق كانت عيناه على مستقبله الفنى أكثر».
يكمل سالم فى «الكواكب» هيامه وإعجابه بتلك الموهبة الفطرية ولا يخفى الرجل فرحته العارمة بكسب رهانه القديم فى إبراهيم عبدالرازق، حيث كان ابن شربين قد بدأ يقتنص أدوارًا فى التليفزيون والسينما بعد نجاح ساحق له فى مسرح الدولة فى أكثر من مسرحية كان آخرها، قبل مقال سالم، مسرحية بعنوان «مولد الملك معروف» من إخراج سمير العصفورى وكان إبراهيم هو نجمها الأول.. وبدأ يصبح وجهًا تليفزيونيًا معروفًا بالإضافة إلى أدوار قصيرة فى السينما، لكن بصمته كانت دائمًا لها لمعانها مثل فيلم «فجر الإسلام».
وينهى سالم مقاله البديع فى حب هذا الرجل بجملة آسرة فى حقه حيث يقول: «إن إبراهيم عبدالرازق مادة غالية تثبت دائمًا أصالتها.. وستظل تحتفظ بسعرها الغالى».
الثمانينيات.. عندما كتب خيرى شلبى عنه: فنان من قهوة المجاذيب
خروج البرنس من كادر مشهد النهاية لمسلسل «غوايش» كان يشبه خروجه من مشهد الحياة بعدها بأشهر على خشبة المسرح.
ما أجمل أن تكتب عن شخص يشبهك.. تشعر حينها بأنك تكتب عن قطعة منك دون أن تُتهم بالنرجسية والغرور.. تتحمس لنجاح هذا الشخص وتشجعه لأن نجاحه فى الواقع هو نجاح لك.. هذا هو ما تشعر به وأنت تقرأ مقالًا بديعًا لرجل يحمل قلمًا يقطر ذهبًا لا حبرًا اسمه خيرى شلبى نشره فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون» بتاريخ ٢٦ أبريل ١٩٨٠. تميز خيرى شلبى، هذا الروائى البارع، فى كتابة البورتريهات الإنسانية فى الصحافة بمستوى من الشاعرية لا يمكن أن يقترب منه أحد.. وهذا فى العموم.. فما بالك عندما يكتب خيرى شلبى ابن قرية شباس عمير بمدينة قلين بكفرالشيخ عن ابن قرية أخرى تشبه قريته، لكنها تقع فى شربين بالدقهلية وهو إبراهيم عبدالرازق الذى وجد فيه خيرى على ما يبدو أوجه تشابه وتلاقٍ كثيرة بينهما بعد أن شقا طريقيهما فى أزمنة متقاربة إلى قاهرة الأحلام الكبيرة، فيحكى خيرى عن روعة البدايات بأسلوبه البليغ بالنص: «ملتزم أنا تجاه إبراهيم عبدالرازق بمشاعر حبيبة هى على الدوام ساخنة، يا لتلك الأيام الجميلة، حيث مجلة (المسرح) تنتظرنا شهرًا كاملًا نجوب خلاله محافظات مصر وراء عروض مسرحية غير مقطوعة ولا ممنوعة، لنعود فنلاقى بها القراء، فى فرقة المنصورة المسرحية وضعت يدى عليه فكنت أول من بشّر به ممثلًا من ممثلى المستقبل الكبار، حتى إنه حظى وحده بنصف عمود من أعمدة المقال الثلاثة. كانت المسرحية (ولا العفاريت الزرق) من تأليف على سالم وإخراج محمود العراقى، وكان هو بطلها ولم أكن قد رأيته يمثل من قبل، وكنا على سالم ومحمد بركات وأنا مدعوين لحفل الافتتاح، فرحبنا جميعًا لسبب غريب هو أن على سالم لم يأخذ فلوسًا من فرقة المنصورة ولم يوقع عقدًا، وكان كبار رجال المحافظة فى انتظارنا، وخرج من ميكروفون الصالة من رحب بنا كلُ باسمه وصفته، وتلقينا من التصفيق قدرًا أنعش غرورنا، فما إن كف التصفيق وساد ذلك الصمت المسرحى المهيب حتى صاح (محمد بركات) بصوته الأعلى من صوت الميكروفون- وبفلوحية عريقة: (مش يلا بقى يا على تقول لهم على فلوسك خلينا نمشى؟!).. العجيب أنه راح، كعادته، يبحلق فينا مستنكرًا عندما شيعنا لجنبيه عددًا من اللكزات».
ثم يكمل خيرى شلبى حكايته الممتعة: «إبراهيم عبدالرازق يرتبط فى ذهنى دائمًا بأحلى ما كان فينا فى ذلك الوقت حوالى منتصف الستينيات.. دون ممثلى الأقاليم. كانت قامته تتطاول بعض الشىء لتبارى بعض نجوم القاهرة، لدرجة أن دوره فى مسرحية (ولا العفاريت الزرق) كان ألمع فنيًا وأصدق وأكثر إشعاعًا من نظيره حين قدمت المسرحية فى العاصمة، وكذلك دوره فى مسرحية (شالله يا أبوزعيزع) التى قدمتها فرقة المنصورة على مسرح الجمهورية، دور المجذوب المدّعى الناعم الخطير الثعبان. أقول كان إبراهيم يداعب أحلى ما فينا.. على سالم وبركات وأنا وآخرين من الأصدقاء، ربما لأنه قروى مثلنا أخذ الفن، كما نقول فى قرانا، على ذراعه، وهو تعبير يستخدمه أهلنا كناية عن الرجل الذى تتحمل ذراعه وحدها مسئولية تحقيق كل شىء لنفسه، بمعنى أنه لا يستعين بقوى خارجية تفعل له كذا أو كيت، إنما هو رجل مقطوع من شجرة عليه أن يعلم نفسه ويدرب نفسه ويثقف نفسه، عليه أن يكتشف أن هناك شيئًا يدعى الثقافة المسرحية فيطرطق أذنيه حين يستمع إلى حديثها وبذكاء القروى يسعى وراء مراجعها ويكابر معها وينطح رأسه فى مصطلحاتها فتفتنه أو يفتنها، وهو فى كلتا الحالين كاسب مزيدًا من المعرفة والخبرات، والثقافة خبرة إنسانية مهما كثرت حواجزها وتعقدت لا بد أن تعطيك مفاتيح لغتها». انتهى كلام خيرى شلبى الذى كتبه بداية الثمانينيات، وهى الحقبة التى شهدت نضج إبراهيم الفنى بما يمنحه الحق فى أن يحصد ثمار سنوات الشقاء الفنى الممتع، إن صح التعبير.. لكن الحقيقة أن الثمار لم تكن على مستوى الموهبة ولا الجهد الفنى على الرغم من أن ظهوره فى الأفلام والمسلسلات كان لافتًا ومطبوعًا فى الأذهان حتى لو كان صغيرًا نسبيًا مثل الدكرورى فى فيلم «سعد اليتيم» أمام عمالقة فى حجم محمود مرسى وأحمد زكى، منتصف الثمانينيات.. لكن بقى دور «البرنس» فى مسلسل «غوايش»، الذى عُرض قبل وفاته بأشهر قليلة، دورًا أيقونيًا يبدو معبرًا عن واقع شخصية إبراهيم الطيبة المخلصة المفعمة بالنبل على الرغم من الملامح القاسية المرتسمة على وجهه.. فهو المحب لابنة عمه «غوايش» والمستعد أن يضحى من أجلها بحياته أو على أقل تقدير بحبه لها فى سبيل سعادتها هى مع من اختاره قلبها، بل يوصلها بنفسه دامع العينين إلى حبيبها «حسنين» فى المشهد الأخير لمسلسل «غوايش»، ليخرج من الكادر نهائيًا، تلاحقه أحاسيس التعاطف مع نبله والإحساس العام بأنه كان يستحق من «غوايش» أن تبادله الحب. وفى يوم عرض عادى لمسرحية «كعبلون» يخرج إبراهيم عبدالرازق هو الآخر من كادر الحياة يوم ٢٩ يناير١٩٨٧ بعد أن خذله قلبه تاركًا صورة ناصعة البياض لفنان نبيل كان لا يزال يملك الكثير فى جعبة إبداعه تؤهله ليقف فى مكانة فنية أعلى بكثير توازى موهبته المرعبة.. لكنها إرادة الله.