شارع قديم «1»
يمكنك ببساطة أن تنسى كل هذا الألم، كغيمة أفرغت حملها واستراحت، فقط حين تضع العنوان المناسب لما كنت تسميه الحب، وحين تصافحه كعابر ضل الطريق، وتأخذه من يده إلى رصيف آمن، وحين تودعه كخطيئة ستكررها بكل بساطة، الرغبات مفتوحة عن آخرها وللقصور خيوله، عليك دائمًا أن تهذب أحلامك بما يستقيم والواقع الذى تنغمس فى وحله، وأن تقلم شطحات نظراتك تفاديًا لآلام الفقرات، يمكنك فقط أن تنظر أمامك بقدر ما تيسر، وألا تترك لخيالات مراياك أن ترى ما لا تراه، ليس لك بهذه الأرض غير حقول الرضا، وليست لك بعد أجنحة كى تحملك لسماء المستحيلات، وإياك وأحلام اليقظة فهى أنكى وأضل سبيلًا، ضع قدميك حيث يمكنك أن تقف بثبات، حتى وإن كنت فى آخر الصف، سيمكنك النجاة بالممكن وهذا أضعف الإيمان، مالها شادية، هى تشبهك على الأقل، لها نفس سمرتك ونحافتك وقلة حيلتك، جاءت من نفس الأرض وإليها تعود، هنا ستفتح نافذتها عند تمام الخامسة وينهمر الأمل مع صوت أم كلثوم «عودت عينى على رؤياك» سلم أمرك، هنا يمكنك أن تسترق النظر إلى عينيها الواسعتين وتحلم، هنا على مقعد أمام محل بقالة العم شعبان حيث ينصرف كل مساء قبل الخامسة بقليل تاركًا المكان لابنه عبدالله، صديق طفولتك الذى اقتسمت معه اللقمة والحلم، ليس ملاكًا ولا شيطانًا، مثلك تمامًا وإن كان يتمتع ببعض مزايا ستكتسبها عما قليل، عبدالله الذى يغويه بروسلى لدرجة جعلته يتشبه به فى قصة شعره وثيابه، بل ذهب لأبعد من ذلك حين قرر الالتحاق بنادى التونسى الرياضى ليتدرب على الكاراتيه، وكان أول من يحصل على تذكرة لمشاهدة بطله المفضل كلما سمع عن فيلم جديد، ينام ويصحو على سيرته. عبدالله الذى دللته أمه كثيرًا ولم تدخر جهدًا فى سبيل إرضائه، يعيش فى بيت أبيه مع شقيقه الأصغر سيد وشقيقاته البنات، عفاف وروما وعزة وآخر العنقود سحر. عبدالله الذى سافر مثل أبناء جيله إلى العراق، فقد كان البلد الوحيد الذى قصده كل من لم يستطع الحصول على عقد بإحدى دول الخليج الناشئة، قبل سفره تمنى علىّ أن أصحبه لكنى أجبته: كل أحلامى هنا يا صديقى، ثم إننى لن أكسر حدود هذا البلد أبدًا، واليوم الذى سأقرر فيه ذلك لن أرجع غير جثة فى صندوق.
كثيرة هى الخطابات التى كتبها رحيم لشادية ولم يرسلها، وكثيرة هى الصدف التى اختلقها فى سبيل ملاقاتها وجهًا لوجه وفى كل مرة ينعقد لسانه، تعرف إلى شقيقها فلم يعد يجرؤ على النظر إليها، قضى سنوات إعداديته أمام شباكها دون أن يصارحها لو مرة بمشاعره، حتى عندما صعدت خشبة المسرح عقب عرضه المسرحى الأول وصافحته مهنئة، غطته حمرة الخجل فبدا كما لو كان نسى الكلام، الكلام الذى ظنه مهنته الوحيدة لطالما خانه فى مثل هكذا مواقف، كأنما لا يأتمن رحيم سوى أوراقه، لها وحدها يبوح بمكنوناته ويسر لها بأدق تفاصيله، أوراقه التى كلما مضى به العمر صارت محنة، يقول: أشياء كثيرة لا يتسع لها البياض، البياض الذى نسميه المحنة، تزوجت شادية من شيخ خليجى يكبرها وانقطعت أخبارها تمامًا وأغلقت نافذتها إلى الأبد، صارت تشبه وجهًا عقد حاجبيه على الفقد والأسى، نعمة هى الكتابة أم نقمة تسلب من بيديه كل غالٍ، يقول الأهل: كان بعقله حتى أدركته مهنة الكتابة، والكتابة حلم أبيه الذى وأده الزواج المبكر والوظيفة الحكومية وخمسة أبناء، الأب الحنون الطيب الذى اضطر لأشغال إضافية من بينها عمله كمعلم للغة العربية فى فصول الاتحاد الاشتراكى، لم يكن يعرف يسعده أم يشقيه انشغال ابنه بلعنة الكتابة فى محيط لا يقدسها، همس له ذات محبة: عليك أن تدافع عن خياراتك وأن تتحمل تبعاتها، قال ذلك بعد أن قرأ أول قصيدة نُشرت لرحيم بإحدى الصحف، حين انتصف الليل من ذلك اليوم، استيقظ الحى على صوت عربة شرطة تجوب الشوارع والأزقة، ظل صوتها يقترب حتى استقر أمام بيت أيوب المصرى، ترجل ضابط يتبعه بعض الجنود، دق الباب وهو يصيح: رحيم أيوب المصرى، هرول الأب يتبعه رحيم، فتح الباب مرتجفًا: ما له ابنى؟ ماذا صنع؟ هون عليك سيدى: قال الضابط وأضاف: الحاجة رشيدة جابر أرسلتنا فى طلبه وهى تنتظره بمكتب مأمور القسم، أجابه أيوب: طلب غريب والمكان أكثر غرابة، ولماذا لا تشرفنا هى؟ قال الضابط: لا تخف، ابنك فى عهدتى سأعيده متى ينتهى اللقاء.