الحلم النووى.. خطوة جديدة
ستون سنة، بالتمام والكمال، مرّت على أولى محاولات الدولة المصرية إنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء. وكنا قبلها قد حصلنا، سنة ١٩٥٥، على معمل للنظائر المشعة، وأسسنا «لجنة الطاقة الذرية المصرية»، التى تغير اسمها إلى «مؤسسة الطاقة الذرية»، سنة ١٩٥٧، ثم امتلكنا، سنة ١٩٦١، أول مفاعل نووى فى المنطقة العربية: مفاعل البحث والتدريب التجريبى «أنشاص ١». وبعد فواصل زمنية طويلة، ومتقطعة، قطعنا خطوات عديدة، ومهمة، نحو تحقيق هذا الحلم، كان أحدثها أمس، الثلاثاء.
بجهود ١٦ ألف مصرى يعملون جنبًا إلى جنب مع زملائهم الروس، بدأ فى ٢٠ يوليو ٢٠٢٢، تنفيذ الصبة الخرسانية الأولى للوحدة النووية الأولى بـ«مشروع الضبعة النووى»، تلتها الصبة الأولى للمفاعل الثانى، فى ١٩ نوفمبر ٢٠٢٢، ثم الصبة الأولى للمفاعل الثالث، فى ٢ مايو ٢٠٢٣، وصباح أمس، شارك الرئيس عبدالفتاح السيسى ونظيره الروسى فلاديمير بوتين، عبر الفيديو كونفرانس، فى فعاليات بدء تنفيذ الصبة الخرسانية الأولى للوحدة النووية الرابعة. وبالتوازى، يجرى العمل، على قدم وساق، فى المفاعلات الأربعة، بحسب أليكسى ليخاتشوف، مدير عام شركة «روساتوم»، الذى أكد، أن الشركات المصرية العاملة فى المشروع، التى يزيد عددها على ٩٠ شركة، تقوم بتنفيذ كل التزاماتها، على أكمل وجه. ما يعنى أننا بدأنا مرحلة الإنشاءات الكبرى، لكل وحدات مشروع مصر القومى، أو حلم المصريين القديم.
من مفاعل البحث والتدريب التجريبى، «أنشاص ١»، انطلق حلم إنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر بقدرة ١٥٠ ميجاوات فى «برج العرب»، وطرحت مصر سنة ١٩٦٤ مناقصة دولية لتنفيذه، غير أن نكسة ١٩٦٧ أوقفت المشروع، الذى تجدّد التفكير فيه، بعد نصر ١٩٧٣، وتأسست لتحقيقه «هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء»، سنة ١٩٧٦، بالتزامن مع طرح مناقصة دولية لإنشاء محطة بقدرة ٦٠٠ ميجاوات فى سيدى كرير، لكن قبل توقيع العقد مع شركة «وستنجهاوس» الأمريكية، سنة ١٩٧٨، حاولت الولايات المتحدة فرض شروط جديدة رفضتها مصر وتوقف المشروع.
بعد برج العرب وسيدى كرير، تحولت وجهة المشروع، سنة ١٩٨١، إلى منطقة الضبعة، وطرحت مصر سنة ١٩٨٣ مناقصة دولية لإنشاء مفاعل بقدرة ١٠٠٠ ميجاوات، تلتها مفاوضات مع المتناقصين، ثم توقف كل شىء، سنة ١٩٨٦، إثر كارثة انفجار مفاعل تشرنوبل فى أوكرانيا، التى توقف معها أيضًا مفاعل «أنشاص ١». غير أن الحلم تجدّد، سنة ١٩٩٨، مع تشغيل مفاعل البحث والتدريب الثانى «أنشاص ٢»، ثم سنة ٢٠٠٧، مع إنشاء «المجلس الأعلى للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية»، ثم سنة ٢٠٠٩، و... و... وبعد فاصل زمنى، قصير نسبيًا، تخللته اضطرابات وسنة سوداء، أعيد إحياء المشروع، سنة ٢٠١٥، واختارت مصر العرض الروسى، من بين ثلاثة عروض فنية وتمويلية، وصولًا إلى قيام الرئيسين، السيسى وبوتين، فى ديسمبر ٢٠١٧، بتوقيع الاتفاقات النهائية، خلال زيارة الأخير القاهرة.
أزمة إمدادات الطاقة، التى يعيشها العالم اليوم، كما قال الرئيس السيسى، فى كلمته، وكما يقول الواقع، تؤكد أهمية القرار الاستراتيجى، الذى اتخذته «دولة ٣٠ يونيو»، بإحياء البرنامج النووى السلمى المصرى، لإنتاج الطاقة الكهربائية، الذى سيسهم فى توفير إمدادات طاقة آمنة ورخيصة وطويلة الأجل، وسيقلل الاعتماد على الوقود التقليدى، أو الأحفورى، ويجنبنا تقلبات أسعاره، كما سيحقق الاستدامة البيئية، ويمكننا من تلبية الطلب المتزايد على الطاقة الكهربائية، والتصدى للتغيرات المناخية.
.. وتبقى الإشارة إلى أن القدرة الإجمالية لمحطة الضبعة النووية تبلغ ٤٨٠٠ ميجاوات، أى ٣٢ ضعف ما حاولت «دولة ٢٣ يوليو» تحقيقه، منذ ٦٠ سنة، و٨ أضعاف ما حلمنا به فى سبعينيات القرن الماضى، وحوالى خمسة أضعاف ما لم نتمكن من تحقيقه خلال الثمانينيات والتسعينيات وحتى منتصف العقد الثانى من القرن الحالى. والأهم، هو أن تنفيذ مشروع مصر القومى، أو حلم المصريين القديم، يسير بوتيرة أسرع من المخطط الزمنى المقرر، متجاوزًا كل العقبات أو المصاعب، عاكسًا، ومؤكدًا، الأهمية البالغة التى توليها «دولة ٣٠ يونيو» لقطاع الطاقة، المحرك الأساسى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإحدى ركائز «رؤية مصر ٢٠٣٠»، أو النسخة الوطنية من أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.