فتحى إمبابى: الصراع فى رواية «رقص الإبل» بين الأصولية والدولة الحديثة
المتتبع لمسيرة الأديب «فتحى إمبابى» الإبداعية حتمًا سيجد نفسه إزاء أجمل مكونات الهوية المصرية، وتجلياتها. أحداث فارقة، وشخصيات متعددة الإيحاءات بالسلب والإيجاب، وأماكن مطبوعة بتاريخ متجذر متجدد، وجغرافية تحفظ على الأحداث الكبرى أثرها الممتد، والأشخاص أقدارهم، وما نهضوا به من مهام على قدر هممهم ومسئولياتهم، أو بكل ما فى الخيانة من خزى وهوان.
المصرى العادى يُمعن طوال الوقت بتفعيل قدراته الحضارية الخفيّة، وسط كل ما يحيق به من مخاطر، وبما اكتسبه عبر تجاربه من صمت وحكمة، مُرسِّخًا جوهرية الإنتاج، وجدوى الصبر، وابتكار الحلول، وتلافى الضغوط، وترك المتاعب لساعة بعينها، بلا رضوخ ولا تخاذل، فلأى متعالٍ خريف. يفيض فيها مثل فيضان النيل الكاسح فى خاتمة روايته «نهر السماء»! رابطة العقد فى خماسية الهوية، وقاسمها المشترك فى مختلف تداعياتها.
ولخط الهوية امتدادات فى روايتيه المُقبلتين «عشق»، و«منازل الروح»، لاستكمال أنبل وأوجع صور الزهو الوطنى، ومغالبة الخسارات بجينات التحضر!
■ عنوان روايتك الأخيرة «رقص الإبل» ليس مدهشًا وحسب، بل عميق ومزدوج الدلالة، فقد ذكرت «رقص الإبل» فى حالين مختلفين. فى الحب بين التلب ابن القبيلة الراعى والمقاتل العنيد، وحبيبته «مسك الجنة» حين اعتليا سنام الجمل ورمح بهما فى الصحراء. والثانية فى الحرب، خلال القتل والاضطراب. فكأنك تقول إن رقص الإبل يمثل وجهى الحياة، والحب والحرب صنوان؟ فهل قصدت هذا؟ أم أن بعض المعانى تكون أوسع من مقاصد المبدع بعد اكتمال روايته؟
- الطبيعة البكر التى تجود بمراعى السافانا والغابات الاستوائية، وأمطارها الغزيرة التى ترفد نهر النيل وتهب الجماعات التى تعيش حوله ماء الحياة، وتنعكس على البشر الذين يولدون ويكبرون فى أحضانها، ويتصارعون ويموتون فى أعطافها، أمر مدهش، وفن الرواية هو السحر عينه. وهذا ما تنفرد به خماسية الهويّة، ورواية رقص الإبل. وإذا دقّقت النظر فى رقص بنات ونساء السودان، ستجدهن يخبُّبن ويرقصن كالإبل، كأنهن نوق جميلات تسرن الهوينى فى دروب الحياة. أما الجِمال فهى عِدّة الحرب لدى القبائل، نعم أنت محق فى أن رواية «رقص الإبل» تنطوى على الأمرين معًا، حيث تتقاطع معانى العشق والحرب.
■ يستولى على ذهنى طوال الوقت أن روايتيك «عتبات الجنة» و«رقص الإبل» محض تداعيات لانكسار الثورة العرابية، وخسّة الإنجليز، وريبة الثورة المهدية كانت دوافعك لاستبيان ما جرى. والتنقيب عن مكونات الهوية المصرية وسط هذا الصراع الدامى، فهل لهذا علاقة بالحقيقة؟
- نعم. هذه هى الحقيقة، ودعنى أقول إن الغالبية العظمى من القُرّاء «وأنا منهم»، لم نعلم شيئًا عن ملحمة الضباط الاثنى عشر ومعهم عشرات آلاف المصريين والسودانيين الذين قُتلوا أو بيعوا رقيقًا دفاعًا عن الدولة المدنية الحديثة فى مواجهة الثورة المهدية المستندة على الأصولية الدينية، وما نعلمه كانت أفكارًا مشوّشة وأحداث تم طمسها بعناية. والبداية من رواية «عتبات الجنة»، وفى «رقص الإبل» لم يكن لدى موقف مسبق من الثورة المهدية، لأمانة الكتابة والرغبة فى المعرفة الحقّة. لذا تركت التاريخ والحقائق يقولان كلمتيهما. وكما يكتب الروائى روايته، تكتبه الرواية، فأثناء البحث فى المراجع والمجلدات، ورصد الوقائع، وتفكيكها وإعادة بنائها ببصيرة نزيهة فى سرد الحقائق وتراوح بين التاريخى والمتخيل، تجلّت الرواية فى حقائق مرعبة، أنت ذكرت بعضها فى سؤالك المهم.
■ فى «عتبات الجنّة» عقب الثورة العرابية قضت الأورطة المصرية على تجارة العبيد فى جنوب السودان. ورسّخت الأمان، وحمت مصالحة القبائل، والاندماج الاجتماعى، وإقامة محطات ضمّت مدارس ومستشفيات، ومصالح حكومية، واستقرار بعضهم هناك، وزراعة المحاصيل الزراعية لأول مرة فى المنطقة الاستوائية. والحقائق التى أوردتها تؤكد أنها تصرّفت بتحضر واضح فى مختلف التجليات. أليس كذلك؟
- الأمر الأول رحلة الأورطة المصرية فى رواية عتبات الجنة، بناء متخيل، رحلة على ظهر نهر عملاق، ثعبان هائل يتلوى هابطًا من السماء ويزحف بامتداد ستة آلاف كيلومتر، بين الطبيعة الخلابة، والتنوع النباتى الأخّاذ، جماعات الطيور والحيوانات والزواحف صورة لم يقدمها عمل روائى أو سينمائى من قبل.
إظهار المستوى الإنسانى لجميع من شاركوا بلا تفرقة ولا تمييز، قاتلوا واستشهدوا وكل منهم يدافع عن رفيقه، يجمعهم إيمان بدولة مصرية تمتد إلى البحيرات العظمى.
ابنة الرب إيزيس والنيل أوزوريس، والمرأة المصرية والسودانية، ساندت ودعمت زوجها فى المنفى والحرب، مؤمنة بقضاياه التى حملها على عاتقه.
الأمر الثانى: أن الأورطة المصرية جعلت العلم المصرى يرفرف حتى البحيرات العظمى، وأحد كبار ضباط الجيش فى المديرية الاستوائية «حوّاش منتصر» أخضع قبائل شمال نهر الكونغو، وأنشأ محطة عسكرية. وهذا يوضح المطموس من تاريخنا، فمصر مدّت نفوذها منذ ١٨٢١ إلى المنابع. والاحتلال البريطانى هو من فصل الشمال والجنوب.
والدور المصرى الحضارى امتد من الاندماج الاجتماعى والتزاوج مع القبائل، إلى رفع قياسات نهر النيل توطئة لبناء سد أسوان لاحقًا. وإنشاء المدارس والمستشفيات والمدن ومنها الخرطوم، ومد طرق المواصلات والبريد وخطوط التلجراف، وتفتيش الرى، وزرع محاصيل تقليدية لأول مرة بالمنطقة الاستوائية. وذروة مهامه وملحمته الكبرى كانت فى القضاء على تجارة العبيد وفقًا لهويتنا وحضارتنا الإنسانية.
■ وها أنت تعود فى روايتك الأخيرة «رقص الإبل» مع ما سُمِّى بالثورة المهدية، وخلط المهديين العمدى بين المصرى والتركى؟ فهل هو استيفاء لتداعيات لم تحط بها فى الرواية السابقة؟ ويبدو أنه لم تكف أيضًا. فثمّة جزء رابع يدور أيضًا فى السودان؟ ألهذا الحد كانت الخيبات؟
- معك حق، فى «عتبات الجنة» قمت ببناء مسرح أحداث الصراع فى روايتىّ «رقص الإبل» و«عشق»، بين الأصولية والدولة الحديثة، جمال النيل، علاقات إنسانية بيننا وبين قبائل لا تختلف عقيدتها الأخلاقية عن الإسلام أو المسيحية، وربما تمتد إلى عصر قدماء المصريين. فطرة الحياة بين قبائل تأكل لحوم البشر وجماعات الأقزام. فى «رقص الإبل» يدور الصراع وسط بيئة حاضنة للثورة المهدية، فى مواجهة الجنرال هيكس الذى كان توليه القيادة بمثابة تسليم الحملين لذئب عجوز تساقطت أنيابه، فقدمهم أضحية غروره إلى المهدى ومن يحيط به زعماء قبائل، وقادة عصابات وتجار رقيق، يكشرون عن أنيابهم بحثًا عن أسرى لبيعهم فى أسواق العبيد.
■ يبدو من ثلاثيتك، «نهر السماء»، و«عتبات الجنة»، و«رقص الإبل» أنك وِفق رؤيتك وبراحك الروائى من المؤمنين بأن مصر والسودان كيان واحد ممتد، وجزء أصيل من الهوية المصرية، وكأن النيل العصب الذى يربط شطرى الوادى، من أعاليه إلى مصبه، وبما شهده من أحداث أكدت وحدة المصير منذ عصور سحيقة وإلى الآن؟ فهل هى ميول اتحادية لديك؟ أم تحليقات أدبية حرّة من أى أيديولوجيا؟ وتلك الطموحات باتت فى ذمة التاريخ؟
- أولًا فى سنوات شبابى كنت من المؤمنين بالوحدة العربية، وأن مصر والسودان بلد واحد. الآن أصبح هذا الإيمان جذريًا فى عقلى ووجدانى. وبت أعرف أن هناك هوية جامعة للجماعات والشعوب التى تعيش على وادى النيل أطلق عليها أحد أبطال الخماسية «الهوية الجامعة لوادى النيل»، وهى موجودة بقوة الطبيعة القاهرة التى شكلها النهر عبر آلاف السنين، تجلت عندما رفع الغطاء عنها قائد ألبانى لامع «محمد على» يمتلك طموحات ومفاهيم استراتيجية رفيعة، ثم توطنت بالمشاعر وبحكم اكتشافات الضرورة عبر الأجيال المتلاحقة من أبناء مصر والسودان. ولا ينفى هذا وجود هويات مضمرة متصالحة أو متصارعة ضمن تلك الهوية الجامعة.
ثانيًا: تنتمى الهويات إلى ما قبل الحدود السياسية، وهى عابرة للّإثنيات، والطوائف، عابرة للحدود السياسية والدول.
ثالثًا: لست مهتمًا بوحدة سياسية من عدمها، فثمة عقبات ورؤى وأيديولوجيات متعارضة، وضغوط أجنبية هائلة تفعل المستحيل لتمزيق الأوطان العربية إلى دويلات صغيرة يسهل تدميرها، لذا أعتقد أنها مهمة مستقبلية، على كل وطنى ومثقف غيور أن يسهم فى تأسيس وتطوير البنية التحتية للوحدة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ومد الطرق والسكك الحديدية؛ لتسهيل تنقل المواطنين بين دول وادى النيل، وكذا بين الدول العربية، إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولًا.
■ هل تتغير مكونات الهوية بتغير المفاهيم الكبرى، مثل الوحدة والمصير المشترك، أم أن للجغرافيا الغلبة مهما تبدلت التوجهات؟ فهى فى النهاية تروح وتجىء وتبقى الثوابت. وهل تظن أن الأدب يرى تلك الأبعاد بشكل أعمق من الفكر؟ أليس انشغالك بالهوية يعنى أن الأدب معنى بهذا شأن السياسة؟
- تتحدد هوية الجماعة من العناصر والخصائص المادية والثقافية والمعنوية التى تميزها مثل الأساطير والقيم والتراث الثقافى، وتحتفظ بوجودها وحيويتها، وتجمع الثابت والمتحول، فالهوية تمثل الجانب الثابت الدائم الذى لا يتغير، والذى دونه لا يقوم مجتمع ما وينهار، وليس هناك أقوى وأشد تأثيرًا من «نهر النيل». لكنه لا يكفى وحده لتحديد هوية الجماعة، ولا إيجاد كينونة متمايزة ومنفردة عن الآخرين، ما لم يصاحبه وعى الجماعة بهذه الخصائص والعناصر المكونة لذاتها وإدراكها لها، وهنا يتدخل عنصر الإرادة البشرية فى تحديد هويتها. والحالة المصرية مثال شديد السطوع على ذلك. فلم تكف الهوية المصرية عن الوجود؟ مطلقًا، فى نهاية القرن الثامن عشر شقت الحملة الفرنسية كفن الموات عن الهوية الوطنية المصرية، وبسقوط دولة المماليك، واكتشاف حجر رشيد بزغت من جديد العنقاء من تحت الرماد، وأشرقت الحضارة المصرية العريقة على العالم. وينطبق الأمر على ما أسميه «هوية وادى النيل الجامعة»، فهى موجودة بالضرورة وتعلو فوق الأيديولوجيا، بحكم نهر النيل الذى وهب الحياة للجماعات التى عاشت منذ آلاف السنين على ضفتيه. وإذا كانت تلك الهوية مطموسة فلا يعنى عدم وجودها، فالأمر يتعلق بالوعى بتلك الهوية وإدراكها، وهنا يجىء دور المهمومين بقضايا الوطن، والمعرفة وكل ما هو إنسانى عظيم. وهوية وادى النيل الجامعة؛ بانتظار من يرفع راياتها، ودعنى أقول إننى عبر «خماسية النهر» أحد الحالمين المبشرين بها.
■ فى «عتبات الجنة» و«رقص الإبل» بذلت مجهودًا هائلًا فى فهم الجغرافيا التى تتحرك عليها شخصيات الروايتين وأحداثها؟ فأية مشقة تلك التى يتعرض لها الأديب لضمان دقّة ومصداقية إبداعاته، جغرافيًا، وديموجرافيًا، وأنثروبولوجيًا. فقط من أجل معلومة صحيحة بين يدى القارئ؟
- قضية وجود. عشرات المراجع، والخرائط والصور، مئات التفاصيل للبحث عن صورة واضحة من الجغرافيا الطبيعية ودقة الظواهر الجوية والطقس والمناخ ومعرفة المظهر النباتى والحيوانى، جغرافيا السكان؛ ثقافية، اقتصادية، سياسية. نعم. مزيج من جغرافيا، وديموجرافيا، وأنثروبولوجى. والجغرافيا فى خماسية النهر عنصر جوهرى فى جماليات النص. كنز نفيس عثر عليه شغف الروائى فى تكوين مسرح الأحداث، هى النص الذى يتحرك عليه الأبطال ويعبرون عن مشاعرهم وأحلامهم، ويصارعون مصائرهم، ويلعبون أدوارهم المأساوية.
■ لم تهتم فقط بالتاريخ، والجغرافيا، بل أوليت المجتمع والعادات والتقاليد اهتمامًا كبيرًا، مثل القبائل ومساراتها الرعوية، والقوانين التى تحكم مجتمعها، فهل أنت ممن يعتقدون بأن القارئ يجب أن يبذل مجهودًا موازيًا لاستيعاب هذه التفاصيل والتعرف عليها مثل الأديب؟ أم أنها مسئولية الأديب وحده؟
- ليس للقارئ دخل فيما يتعين على الفنان صياغته، أنا من جيل كبر ونضج على روايات تعرّفتُ فيها على حياة الشعوب، وتشكّلت ثقافتى من معرفة ثمينة تعلمتها من الرواية العالمية، نشأت على روايات تحكى بطولات القوزاق والتتار فى سهوب آسيا، والحب على قمم جبال إسبانيا إبان الحرب الأهلية. أنا ابن عالم تعرّفت عبره على أساطير حضارات المايا والهند والصين. كنت أحلم بكتابة روايات تضارع أعمال تولستوى وشولخوف وهمنجواى والقائمة تطول. فما بالنا بعالم نهر النيل المقدس. لهذا أعتقد أن الخماسية ستُشبع لدى القارئ شغف المعرفة بحياة الجماعات والشعوب التى عاشت على جنبات النيل. هو إذن رد الدَين. وشرف لى أن أكون الروائى الذى جعل من عالم سحرى الجمال، ومن النيل عالمه المقدس.
■ قمت بزيارة السودان للتعرف على الأماكن والأحوال الاجتماعية والتاريخية التى ستكتب عنها، فقدمت لنا مكونات المجتمع السودانى، من القبائل، فمن النادر أن يعلم القارئ المصرى أو العربى شيئًا عن قبائل «الحَمَر، والجوامعة، والجعلين، والدينكا، والبارى، والشير» التى لا تزال تعيش فى السودان. وكنت حانيًا على تلك المجتمعات. أفلا ترى أنها لا تزال تعيش نمطًا إنتاجيًا أصبح خارج الزمان وسط كل ما نراه من لهاث فى أنحاء العالم من إنتاج وتجارة؟ سؤال للمواطن العربى والمثقف اليسارى فتحى إمبابى بجانب الأديب؟
- طالما هدفى هو المعرفة، فثمّة استراتيجيات متعلقة ببناء العمل الروائى، فى البداية التعرف بشفافية وبصيرة على العالم الذى أخوض غماره بعمل أدبى، دون إسقاطات متعلقة بالحاضر، أو ميول الكاتب، فعقيدة الروائى دائمًا وأبدًا هى الإنسانية، ولا ينبغى على الكاتب إطلاق أحكام ما قبل استكشاف العالم المنوط به رصده. علما بأن فن الرواية مهموم بجماليات البشر وروعة الإنسان قبل كل شىء.
أما عن نمط الإنتاج فى المجتمعات الرعوية البدائية فهو المجال الأكثر ثراء وغِنَى، الذى يفيض عند مزجه بالطبيعة البكر بجمال فنى وإنسانى، هى نعمة إلهية لمن يهبه الشغف مغامرة اكتشاف جماعات تعيش بين ظهرانينا فى أماكن وتاريخ غامض مسكوت عنه.
وأخيرًا يا صديقى العزيز أقول: إنه شرف لى أن أكون الروائى الذى جعل من نهر النيل الخالد موضوعًا لمتوالية من خماسية، قد تساعد الناس يومًا على فهم هوية مصر ودورها مثل كتاب «شخصية مصر» للعظيم جمال حمدان.
■ هل كان دافعك لكتابة خماسيتك الروائية هو الدفاع عن ثقافتنا ومكوناتنا الحضارية العريقة فى ظل هجوم الثقافة الغربية بما أسمته العولمة على شعوب العالم الثالث، لمسخ ثقافتنا وتحويلنا إلى مجرد أتباع، أم أن أهدافك وإبداعك بعيدان عن كل ما قلته هذا؟
- من نشأوا فى خضم الحلم الناصرى، وأنا منهم، كان لدينا يقين بأننا سنصعد إلى سقف العالم، وحين اهتز يقيننا، بدأت البحث فى جذور الشخصية المصرية، وإشكالياتها وأزماتها، فاشتبكت مع موضوع الهوية مبكرًا، وأنارت لى رواية «نهر السماء» أثناء كتابتها الكثير، وكانت أكثر الحقائق المفزعة أن مصر حكمها المماليك لمدة تقارب ستة قرون، ورغم ذلك لم يهتز يقينى بعظمة الشعب المصرى للحظة.
ومع بزوغ مفهوم العولمة وتحول العالم إلى قرية، وارتبط بفرض الثقافة الأمريكية على العالم، كنت مسلحًا بروايتى نهر السماء، وبعشقى لمصر، واكتشاف التركيبات والتداخلات فى الوعى واللا وعى الجمعى للجماعة المصرية. وتبين لغالبية المثقفين خطورة الثقافة الأمريكية والغربية على تشويه البشر، ويفيق البعض الآن من غيبوبة الاستسلام لمفهوم العولمة الأمريكية. لأن لدينا ثقافة وحضارة إنسانية عريقة يصعب مسخها.
■ فى الأجزاء الثلاثة التى صدرت من الخماسية تميل لنهايات فيها بشارات وأمل، وربما نبوءات، مثل اكتساح الفيضان للجثث الطافية وتفاصيل العصر المملوكى فى «نهر السماء»، أو انتصار الأورطة فى مهمتها بالمديرية الاستوائية فى «عتبات الجنة» وانتصار الحب لدى السودانيين والمصريين فى «رقص الإبل»؟ فهل تعمدت تلك النهايات أم جاءت بعفوية لحظات الكتابة؟
- هناك نهايات تتشكل أثناء البدايات الأولى للنص، وهذا يسهل عمل الكاتب إذ أنه صار لديه نهاية يتقدم باتجاهها. لكن ثمة نهايات تتشكل بعفوية الإبداع، ومنها روايتا «عتبات الجنة» و«رقص الإبل»، نهايات لم أجهز لها، بل الأحداث والشخصيات تحركت إليها بتطور النص، وقدر من الغائية لدى الكاتب.
■ والمشهد الأسطورى الأخير فى رواية نهر السماء يحمل دلالات كلية. فخلال شبابى كان لدى يقين بمقولات مثل: «الشعب هو المعلم»، وفى رواية «نهر السماء» كان هناك من المماليك. والدراويش والأشقياء، لذا جاء السؤال: ما القوة التى أبقت على الجماعة المصرية عشرات القرون؟ اللغة أم الدين أم الاقتصاد؟ أم القوى الاجتماعية أم السياسة أم العرقية؟
- المصريون غيّروا لغتهم عدّة مرات، وانتقلوا من الوثنية إلى المسيحية ثم الإسلام، واقتصاد أمة مكافحة اعتمد على النيل، وهو من أبقى علينا رغم كل شىء. مصر هبة النيل، وهو الذى يغسل عنها أدرانها وأحزانها.
اكتساح الفيضان للجثث الطافية والعصر المملوكى فى «نهر السماء»، وصعود الفلاحين بعزيمة النمل لترويض ذلك الوحش الخرافى الهائج، سيظل أعظم المشاهد التى كتبتها، هو التفاعل الحى والخلاق والعضوى بين الطبيعة والإنسان، يعبر عن فلسفة الحياة والوجود لدى الفلاحين عبر السنوات والقرون. أشكرك صديقى العزيز لأنك أشرت إلى هذا المشهد الأسطورى.
■ هل تعتقد بأهمية الجوائز للمبدعين كدافع متجدد؟
- يحلم كل فنان ومبدع، كل روائى وموسيقى، وكل عالم وباحث، بالوقوف على منصات التتويج، هذا مشهد مهيب وخاصة عندما يقف الفنان كى يتم تكريمه لسبب وحيد وهو جدارته الفنية والإنسانية.
أذكر مشاهد تكريم فنانين عظام فازوا بجوائز الأوسكار آل باتشينو، وبراد بيت، كيفن كوستنر، أو مارلون براندو، وجين فوندا، والفائزون بنوبل، تولستوى وهيمنجواى وماركيز ومحفوظ، معالم البهجة والفرح والسعادة التى ترتسم على وجوههم، الكلمات القصيرة التى يوجهونها لأحبائهم ولمن ساعدهم على الوصول لتلك اللحظة تلخص باختصار أهمية إثابة المبدع والفنان عن عظمة أعماله، وقيمتها بالنسبة له.
أذكر مشهدًا من فيلم «بيتوفل مايند beautiful mind» لـ راسل كرو، العالم العظيم يقف على المسرح ويشير إلى صديقته وحبيبته وزوجته التى أسميها «جزيرته»، ويقول إنها سبب وجوده ووقوفه على منصة التتويج بجائزة نوبل، هذا لا يتوفر كثيرًا للفنانين والأدباء بشكل عام، نذكر نهايات كافكا المحزنة، وانتحار هيمنجواى، وأخيرًا الأيام الأخيرة لتولستوى التى أصابه قليلًا من الخرف، ويكمن السبب فى أن جزيرة الروائى العظيم هى حريته، والحرية لها رفيق هى الثمن المدفوع من الألم والمعاناة.
حرية الروائى هى جوهر الإبداع العظيم ولهذا يزيد تقديرى الشديد لمؤسسة ساويرس الثقافية لأنى حصلت على الجائزة، وأنا أعيش حريتى فى جزيرتى المنعزلة.
أتقدم بجزيل الشكر لمؤسسة ساويرس الثقافية، ولمجلس الأمناء، والأستاذين نجيب وسميح ساوريس، وللجنة التحكيم الموقرة. هذه مهمة ثقافية كبيرة أتمنى لها دوام النجاح.
ثانيًا: أهدى هذه الجائزة لروح أمى، إلى أعز ما لدى ابناى عمر وجاسر، وإلى زملائى المبدعين فى صالون سحر الرواية، إلى المشاركين فى صالون شريف العصفورى للأدب، أخيرًا إلى أهلنا فى السودان الذين يعيشون حربًا فى الخفاء، إلى أطفال ونساء غزة أنتم دائمًا فى القلب، إلى الآلاف من المحبين لفتحى إمبابى ورواياته ومؤلفاته الفكرية والثقافية. إليهم جميعًا أهدى الجائزة.
■ هل ثمّة أحلام مرتبطة بأعمالك وإبداعاتك؟
إن كان فى العمر بقية لن أتوقف عن الحلم، أحد أحلامى أن يتولى المركز القومى للترجمة ترجمة الخماسية إلى لغات أجنبية، وتوزيعها فى بلاد النيل وإفريقيا.
الحلم الثانى أن تقوم إحدى شركات الإعلام الوطنية بشراء الخماسية وتحويلها إلى دراما تليفزيونية تواجه شرور المفاهيم التى تبثها شركات الإنتاج العالمية بعظمة المصريين والسودانيين، وأنا أؤكد إنهم لن يخسروا فلسًا مما سينفقونه. إنه عمل عملاق سيطلق طاقات إبداعية لدى الفن والفنانين المصريين والسودانيين والأفارقة. وسيكون حجرًا فى بناء علاقات أخوية متينة بين شعوب وادى النيل وإفريقيا.