رفاق الأسطى حراجى.. بُناة السد العالى يفتحون صناديق ذكريات المشروع الهندسى الأعظم
فى عمله البديع «جوابات حراجى القط»، روى الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى حكاية أحد بناة السد العالى من خلال خطاباته التى كان يروى فيها مشاعره وآلامه وطموحاته وآماله لزوجته «فاطمة»، ناقلًا إليها يوميات حياته ولوعة اشتياقه وتفاصيل جهوده مع إخوته وزملائه العاملين فى تنفيذ المشروع العظيم، الذى تتضح أهميته لمصر وأمنها المائى يومًا بعد يوم.
وبين خزائن الذكريات، وفى الذكرى الـ٥٣ لافتتاحه، فى ١٥ يناير ١٩٧١، تبحر «الدستور» مع عدد من العاملين فى بناء السد العالى، المعروف بأنه أعظم مشروع هندسى فى القرن العشرين، ممن بارك الله فى أعمارهم ليرووا للأجيال الجديدة تفاصيل لحظات الأمل والفخر، والتضحيات والجهد، التى حوّلت الرمال والركام إلى «مفتاح حياة»، ظل لعقود يقى مصر من العطش والجوع، وينظم لها تدفق شريان تنميتها جيلًا بعد جيل.
محمد النوبى ابن كبير الفنيين: انضممت للعمل بعد وفاة والدى.. وأسعد ذكرياتى «وصول التوربينة»
«أول ما دلقنا يا فاطنة بابور السد على محطة أسوان
أنا والجدعان
حسيت بالدوخة..
رحنا المكتب طلعنا البطاقات..
ومضينا على الورقات..
أآآآه يا (فطانى) لو شوفتى الرجالة هِنَهْ
قولى.. ميات.. أولوفات.. بحر من ولاد الناس».
عن حياته وحياة أبيه، روى محمد النوبى، أحد أبناء بناة السد العالى الذى كان يعمل كبير فنيين بهيئة السد، قصته وقصة أبيه مع المشروع الكبير، الذى أسهم فى تغيير وجه الحياة فى مصر، وكان ولا يزال رمزًا حيًا على قدرة المصريين على العطاء والإبداع والعزيمة والإرادة القوية لهم نحو حياة أفضل.
وأوضح أن سجلات السد العالى توثق أن هناك ١٣٤ ألف عامل شاركوا فى بنائه، مضيفًا أن والده كان ضمن العمال الذين شاركوا فى بناء السد العالى، وشقيقه، وهو أيضًا، إلى جانب أن اثنين من أشقائه ما زالا يعملان حتى الآن فى السد العالى.
وأشار إلى أنه أثناء عمل والده فى المشروع العظيم كان هو فى المرحلة الابتدائية، وتحديدًا فى الصف السادس الابتدائى، ووالده كان يعمل «فنى تخريم»، وكان من بين العمال الذين يقومون بالتخريم لوضع الديناميت، ثم انتقل بعدها لقسم الحقن.
ولفت محمد النوبى إلى أنه أثناء طفولته كان يذهب برفقة والده إلى عمله بالسد العالى على فترات متباعدة، وكان ينتابه شعور بالسعادة البالغة، حيث كان يرى أعمال إنشاء السد ومواقعها، وكان أبرز ما ظل عالقًا فى ذاكرته هو زرع الديناميت وتفجيره فى أحد الأنفاق، وأشكال المعدات الروسية المستخدمة، قائلًا: «كان شكلها حلو.. كنت بحب أروح مع والدى أتفرج عليها».
وأضاف، لـ«الدستور»، أن من أبرز ذكريات الطفولة المرتبطة ببناء السد العالى، التى ما زالت محفورة فى ذاكرته حتى الآن، هو وقت وصول «ريشة التوربينة» ووظيفتها إنتاج الكهرباء، والتى كانت تصل عبر البحر المتوسط من روسيا وتسافر حتى أسوان، وكانت عند مرورها فى كل بلد تملأ الأجواء حالة من الفرحة.
وقال: «كانوا فرحانين ويقولوا: ريشة السد العالى اللى هتجيب لنا الكهربا، ويعلقوا عليها البلح والدبايح لحد ما توصل أسوان، والعائلات كلها يروحوا يتفرجوا عليها».
ولفت إلى أن من ضمن ذكريات طفولته السعيدة للغاية مشاهدته الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أثناء مروره بسيارته برفقة رؤساء الدول، لتفقد النموذج المجاور لمنزله بمنطقة بناء السد، فى المبنى الذى كان يحتوى على ماكيتات لإنشاء السد العالى، ووضع فيه حجر الأساس للمشروع العظيم.
ونوه ابن كبير فنيى السد العالى إلى أن والده توفى وهو بالصف الأول من المرحلة الإعدادية، ثم التحق هو بالعمل أيضًا فى السد العالى ضمن أبناء العاملين، مع شقيقه الأكبر أيضًا، وكان عمله وقتها فى قسم «التكسية»، الذى كان يشمل تقطيع الأحجار لوضعها على جسم السد، ومن ثم يتم وضع الرمال عليها حتى تتماسك، وذلك خلال المرحلة الأخيرة من بناء المشروع.
وتابع: «كان شقيقى، رحمة الله عليه، يعمل فى قسم الهيدرولوجيا، وهو المسئول عن قياس منسوب المياه، حيث كان يتم قياسها فى كل ساعة، وفى حالة وجود زيادة يخطرون بزيادة التسريب، حتى لا يتسبب فى غرق المراكب، مع الحفاظ على المخزون الاستراتيجى فى بحيرة السد العالى، التى تعد أكبر بحيرة صناعية فى العالم، بطول ٥٠٠ كيلومتر وعرض ١٢ كيلو».
وذكر «النوبى»، خلال حديثه لـ«الدستور»، أنه كانت هناك قطارات مخصصة لتوصيل عمال السد العالى إلى مواقع عملهم، وما زال مسارها حتى الآن فى المنطقة، وكانت نقطة تحركها من منطقة أبوالريش، لتبدأ بتجميع العمال من المناطق المارة بها، حتى يستقلها العمال، موضحًا أنه حتى بعد امتلاء القطار من الداخل كان باقى العمال يصعدون على أسقف القطارات، حتى يستطيعوا الوصول فى مواعيد عملهم، فيما كان عمال آخرون يستقلون سيارات النقل الثقيل.
وبالنسبة لمساكن عمال السد العالى، قال محمد النوبى، إن آلاف العمال توافدوا وقتها من محافظات الجمهورية للعمل فى المشروع، وكانت هناك مساكن مخصصة لهم، ويطلق عليها اسم «بلوكات»، وكانت منقسمة لقسمين، أحدهما لـ«العزاب»، وهى عبارة عن غرفة تضم ٦ أسرّة مع دورة مياه مشتركة فى طرقة المبنى، والقسم الثانى كان للأسر، ويتكون من غرفة وصالة ومطبخ وحمام.
وأكمل: «حاليًا، توارث أبناء وأسر العمال نفس مكان آبائهم، الذين ضحوا بحياتهم ليخرج المشروع العظيم إلى النور، وكنت أنا من ضمن هؤلاء، نظرًا لأن والدى كان من عمال محافظة الأقصر الذين توافدوا للعمل فى المشروع، وكنا ندفع مبالغ مالية مقابل حق الانتفاع بهذه المساكن، أما باقى المساكن التى هجرت وعاد عمالها إلى مناطقهم الأساسية فقد عادت مفاتيحها مرة أخرى إلى المؤسسة».
عامل النجارة محمد عبدالرحيم: عبدالناصر أوصانى فى رسالة لى بالعلم والأخلاق لبناء مصر الخالدة
«فى الراديو يا فاطنة يقولوا بنينا السد.. بنينا السد
لكن ما حدّش قال السد بناه مين..
بنوه كيف.. نايمين ولا قاعدين».
بنظارة قديمة وجلباب أسوانى مميز وعينين تتفحصان ما خطّه الزمن من ذكريات، جلس الحاج محمد عبدالرحيم، ممسكًا بخطاب قديم بخط يد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، يرجع تاريخه إلى الثالث والعشرين من يناير ١٩٥٧، ليتأمل كلماته ويتذكر ما دوّنه هذا اليوم من ذكريات يحفظها عن ظهر قلب، تزامنًا مع ذكرى افتتاح السد العالى فى ١٥ يناير من العام ١٩٧١، حيث كان يعمل وسط العمال ومعهم ويردد أغنية العندليب: «قلنا هنبنى.. وادى إحنا بنينا السد العالى».
وفى حديثه لـ«الدستور»، تذكر الحاج محمد عبدالرحيم كلمات «ناصر»، التى رفعت الكُلفة بينه وبين أحد أبنائه من الشعب، والذى خاطبه قائلًا: «ولدى العزيز محمد.. تلقيت رسالتك الرقيقة المعبرة عن شعورك النبيل فكان لها أجمل الأثر فى نفسى.. وأدعو الله أن يحفظكم لتكونوا عدة الوطن فى مستقبله الزاهر، وأوصيكم بالمثابرة على تحصيل العلم، مسلحين بالأخلاق الكريمة، لتساهموا فى بناء مصر الخالدة فى ظل الحرية والمجد، والله وأكبر والعزة لمصر.. رئيس الجمهورية جمال عبدالناصر».
وأشار الحاج محمد إلى أنه التحق للعمل بمشروع السد العالى بعد مرحلة الدبلوم الفنى مباشرة، نظرًا لحاجتهم لتخصصات معينة، موضحًا أنه تسلم مهام عمله فى نفس يوم التقديم، وبرفقة خاله، فى ورشة النجارة المركزية ذات المساحات الكبيرة التى تقع على نحو ١٠ أفدنة، حيث يتم فيها صنع كل التصميمات الخشبية المطلوبة فى مواقع العمل وكبائن المهندسين وغيرها.
ووصف الورشة بقوله: «كان هيكلها من خوص النخيل ومثبتة بالمسامير المعدنية، وشرب المياه حينها كان من الزير المصنوع من الفخار الملفوف بقطعة من الخيش لتبريد المياه، نظرًا لأن درجة حرارة الطقس كانت مرتفعة للغاية، وتصل إلى ٥٠ درجة فى بعض الأحيان».
ولفت إلى أنه انتقل بعد سنوات قليلة من العمل فى ورش السد العالى إلى مكتب التدريب المهنى للعمال المصريين، الذى كان يرأس مجلس إدارته حينها اللواء حسن شاكر، وكان يشغل منصب مدير النقل البرى من أسوان، وفى المكتب كان يتم تدريب العمال المصريين بواسطة المهندسين الروس على استخدام المعدات التى تم استقدامها من روسيا إلى ميناء الإسكندرية ومنها إلى أسوان للعمل بها فى مشروع السد العالى.
وأوضح أنه ما زال يسكن فى المساكن التى كانت مخصصة للمهندسين الروس، خاصة أنه بعد انتهاء مشروع السد العالى ومغادرة الروس العمارات السكنية أقام فى نفس المكان بناة السد العالى وأسرهم، وكان هو من ضمن العمال الذين حصلوا على شقة سكنية بعد مغادرة الروس وعاش فيها حياته.
حسين إبراهيم مسحراتى السد: عملت فى المشروع فى سن الـ9.. وناصر قبّلنى وأهدانى قلمه
«طب عمرك سمعانة بالدلاميت؟
صوبعين لما يطرشقوا تحت البيت
عايجيبوا عاليه فى واطيه
وأنا حتى كنت حاقرَّب كيف م الدلاميت
لولا ما اختارنى يا فاطنة «الحاج بخيت»؟
إن كان على اسمُه
آهى كل الناس بتقول: دلاميت.. دلاميت»
من ضمن عمال وأبناء بناة السد العالى، كان حسين إبراهيم السيد، مسحراتى السد، الذى أوضح، خلال حديثه لـ«الدستور»، أن والده شارك فى العمل منذ أولى مراحل بناء السد، وكان «عامل تخريم»، وأحد المسئولين عن ماكينات التخريم، التى كانت تستطيع النزول إلى عمق ١٥٠ مترًا تحت الأرض وجبل الجرانيت، ليتم حشوه بالديناميت وتفجيره، حتى يتم إنشاء مدخل الأنفاق، وغيرها من المنشآت ومحطات المشروع.
وقال: «كنت أفضل الذهاب برفقة والدى إلى العمل، وأبرز المواقف التى أتذكرها هى وقوفه بجانب العربات العملاقة التى تعمل فى مشروع السد العالى، وكان حجمها يماثل حجم العمارة بالنسبة لى وقتها».
وتذكر أن من مواقف طفولته المبهجة أنه كان يلهو بالشارع برفقة الأطفال، ويلعبون لعبة «عجل البلى»، وكان مسار لعبتهم من عند «المرشح» وحتى مبنى «النموذج»، الذى يضم عددًا كبيرًا من الماكيتات الخاصة بالمشروع، ووقتها مر موكب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من المنطقة، وكان يقف مع أحد أصدقائه بالقرب من المكان، فحملهم «عبدالناصر» وقبّلهم، قبل أن ينحيهم على جانب الطريق بعيدًا عن السيارات.
وتابع: «لم تكن هذه هى المرة الوحيدة التى رأيت فيها الرئيس (عبدالناصر)، لأن منزلنا كان فى نفس مواقع عمل السد العالى، لذا رأيته مرة ثانية وأهدانى قلمه، ورأيته ثالثة خلال حضورى مع شقيقى لاحتفالية تحويل مجرى النيل، التى تم تنظيمها وقتها فى مبنى النموذج».
ولفت إلى أنه من الذكريات العالقة فى ذهنه منذ الطفولة هى حضور مشاهير السينما من الفنانين والمطربين مثل عبدالحليم حافظ، وخضرة محمد خضر، والفرق الروسية، فى الاحتفالات التى كان يتم تنظيمها تزامنًا مع يوم ٩ يناير من كل عام، موعد انطلاق بناء السد العالى، وكان يطلق عليها «ليلة السمر».
وأكد أنه على الرغم من كونهم أطفالًا فى ذلك الوقت فإن السعادة كانت تغمرهم لرؤية المشاهير عن قرب، موضحًا أن الحفلات استمر تنظيمها حتى وفاة الزعيم الراحل، قبل أن تنقطع.
وأشار إلى أنه التحق أيضًا بالعمل فى مراحل بناء السد العالى المتأخرة، وكان يبلغ من العمر ٩ سنوات فقط، ضمن العمال الذين أطلقوا عليهم وقتها لقب «حديث السن»، حتى يتم صرف مرتبات لهم، وكان فى أول عمله مسئولًا عن «السركى اليومى»، الخاص بالحضور والغياب، وبعدها كان يعمل فى حمل الأسمنت مع العمال وغسيل السيارات، ويحصل على أجر مالى هو «تعريفة» وتبلغ ٥ مليمات وقتها على السيارة الواحدة، وكان راتبه اليومى ٥٠ قرشًا، وإجمالى دخله الشهرى كان أعلى من والده، الذى كان يحصل على راتب ٧ جنيهات فى الشهر، و٩ جنيهات بالزيادات.
وأضاف: «فى سن ٩ سنوات، بدأت أؤدى دور مسحراتى السد خلال شهر رمضان المبارك، وكان يرافقنى شخص آخر يكبرنى فى السن، وكنا نقسم المناطق حتى نستطيع تنبيه جميع عمال السد لتناول وجبة السحور مع قرب موعد صلاة الفجر»، منوهًا إلى أن الشخص الذى كان يعمل معه تركه بعدها بمدة للالتحاق بالجيش، فأصبحت كامل المسئولية تقع عليه.
وتابع: «فى تمام الساعة الواحدة والربع بعد منتصف الليل وبعد تناول السحور كنت أبدأ فى التحرك من منزلى وأنا أمسك فى يدى علبة أو (صفيحة) معدن وعصا للطرق عليها، وتكون مهمتى هى المرور على جميع مستعمرات السد العالى، التى كان يبلغ عددها ٦، ماعدا مستعمرة الشرطة لأن لديهم مسحراتى خاصًا بهم».
ويستطرد: كنت أردد عبارات فكاهية وأنا أنادى على الناس، أبرزها «عم مجلع.. قوم صوم وادلع» و«عبدالرحيم عقره.. قوم واعمل حساب بكره»، وكنت أدق على العلبة المعدن حتى يتنبه الأهالى لتحضير السحور، وأردد كل أسماء أهالى المنطقة التى أمر بها.
وأكد مسحراتى السد حسين إبراهيم أن المنازل والبلوكات كان يسكن فيها عمال السد العالى المقيمون بـ«المستعمرات»، وكانوا من بلدان مختلفة، منهم الصعايدة والفلاحون، وبعض الفلسطينيين، وجميعهم جاءوا من بلدانهم برفقة أسرهم لإنجاز مهمة بناء السد، وكان فيها المسلم إلى جانب أخيه المسيحى، ويضيف: «كنت باقول أسماء الاتنين وأنا بدق على الصفيحة علشان أصحى الناس للسحور». وذكر أنه رغم وجود الذكريات السعيدة فإنه كانت هناك أيضًا ذكريات مؤلمة، لكنها كانت تزيدهم قوة وعزيمة لاستكمال الصرح العظيم، ومن أبرزها حمولة قطار نقل الرمال من مواقع العمل، والتى كان يتم إفراغها بالقرب من منزل أسرته، وفيها كان يرى أعضاء مبتورة، وأقدامًا وأيادى وجثامين تنزل مع الرمال، وكان الأهالى وقتها يستخرجون الهويات الشخصية لهؤلاء ويسلمونهم إلى نقطة الشرطة.
واختتم بالقول: «كان كثير من هؤلاء يرتاحون تحت القطار أو فوقه من التعب، وتنهال عليهم الرمال فيموتون، كما أن هناك وردية كاملة ماتت فى انهيار بالنفق ٦، ولم ينجُ منها سوى اثنين فقط، وكان هذا النفق مسئولًا عن وفاة عدد كبير من بناة السد العالى».
الممرض إبراهيم حامد: كنا نعمل 24 ساعة.. وأسوأ أيامى حين «نجوت من تفجير كشك التمريض»
«مش عاوزين سد..
أهو لسه يومين قاعدة أتباهى بالسد وبيك قدام الناس
لكن والله ما ضيعنا الفاس.
حتضيعنا الغيبة يا حراجى..
الغيبة تخلى الناس تنسى الناس».
كان إبراهيم محمد حامد، أحد عمال السد العالى ضمن طاقم الإسعافات الأولية والممرضين، المسئولين عن صحة العمل، وكان عمله وقتها يعتمد على الخبرة، لأن كثيرًا من الوسائل الطبية المتقدمة لم تكن معروفة أو متوافرة وقتها، وأبرزها الأشعة. وقال، لـ«الدستور»: «بعد انتهاء فترة الجيش تم تعيينى فى السد العالى، وكنت أعمل لمدة ١٢ ساعة يوميًا، فى تقديم الخدمات العلاجية للمصابين من بناة السد العالى، وكنت مسئولًا عن الغيارات على الجروح وإعطاء الحقن والأدوية وعلاج ارتفاع درجة حرارة الجسم وضربات الشمس، بالإضافة إلى التعامل مع حالات الكسر، عبر ربط وتجبير المنطقة المكسورة، ثم التحويل إلى المستشفى».
وأضاف: «كان عدد كبير من الضحايا والمصابين يسقطون إثر التفجيرات التى تتم أثناء بناء السد، لذا لم تكن هناك أيام إجازات نهائيًا طوال فترة البناء إلا فى حالات الضرورة القصوى، وكانت غالبية المستشفيات تعمل لمدة ٢٤ ساعة، طوال الليل والنهار».
وأكد أنه رغم صعوبة تنفيذ مشروع السد العالى فإنه كان من بين المشروعات التى عاد نفعها وفوائدها على جميع المصريين، بعد أن وفر الرى الدائم للأراضى الزراعية، وزاد من مساحتها، وهو ما يرجع الفضل فيه إلى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، مشيرًا إلى أن الروس كانوا يعترفون وقتها بأن السد المصرى الذى ساعدوا فى بنائه أفضل من السدود فى روسيا.
ولفت إلى أنه من بين المواقف التى لم تغب أبدًا عن ذاكرته هو عندما كان يجلس فى الكشك الخاص بعمله، والذى يحتوى على الإسعافات الأولية والأدوية، وجاء إليه من أخبروه بأنه لا بد له من مغادرة المكان لأنهم سيستخدمون التفجيرات حوله، فرد عليهم باستغراب، لأنه لا يمكن أن يصيبه أذى لابتعاد الكشك عن منطقة التفجير بـ٨٠ مترًا، لكنهم أكدوا ضرورة مغادرته فورًا. وتابع: «يادوب بعدنا كيلو عن مكان الكشك بتاعى، وبعد ساعة رجعت ووجدت الكشك اتفجر وادمر وشنط الإسعاف مدمرة بالكامل، فبكيت على العهدة ووظيفتى التى ضاعت منى فى غمضة عين، خاصة أن عملى كان يتبع جهة الأمن الإدارى والصناعى».
واستطرد: «سألنى مدير الأمن وقتها عن سبب بكائى، فأخبرته بأن وظيفتى ضاعت، لأن الكشك تدمر بعد التفجير، وفاجأنى برده: مش تطمن الأول على صحتك، وأخبرنى بأنى يومها فى إجازة لأستريح، وفى الغد سيسلمنى (كشك) جديدًا وشنطة ومعه إسعافات أولية جديدة».