قاضٍ مصري: إسرائيل ستدعي حقها في الدفاع عن النفس لكنها تدمر الفلسطينيين وتهجرهم قسريًا
تتجه أنظار شعوب العالم صباح اليوم الجمعة 12 يناير 2024 إلى مقر محكمة العدل الدولية في قصر السلام بلاهاي لمتابعة إنعقاد جلسة الاستماع الثانية العلنية لدفاع إسرائيل في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، متهمة إياها بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948 في قصفها العسكري المسلح وقتل سكان قطاع غزة وتدمير بنيتها والمنازل والتصفية الجسدية والعرقية والتهجير القسري لسكانها عقب هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023. وقد شغلت هذه القضية بال القانونيين حول العالم برؤاهم حول أهم قضية في القرن الواحد والعشرين، التي شغلت بال شعوب العالم أجمع وقاداتهم، خاصة وأن كلًا من إسرائيل وجنوب أفريقيا قد صادقت على اتفاقية منع الإبادة الجماعية، مما يجعل المحاكمة لا تقل سخونة عن نار الحرب الدائرة حتى الآن.
وفي سبيل الوعي العام العربي، نعرض للجزء الثالث للدراسة الدقيقة والمهمة للمفكر والمؤرخ القضائي، القاضي المصري الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي، نائب رئيس مجلس الدولة، بعنوان: (التدابير المؤقتة في فكر محكمة العدل الدولية عن جرائم الإبادة الجماعية والسيناريوهات المطروحة في قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل). ولأن جزءً منها يخص الأمن القومي المصري فيما يتعلق بالتهجير القسري كجزء من القضية والأمن القومي العربي عامة، يعرض فيها الفقيه المصري للإجراءات الدولية وتوقعاته حول فكر ومنهج المحكمة الدولية من واقع السوابق القضائية للمحكمة في قضايا الإبادة الجماعية والتدابير المؤقتة فيها.
ونعرض قبل جلسة الاستماع لإسرائيل صباح اليوم الجمعة 12 يناير 2024 للجزء الثالث من دراسة الفقيه المصري لقراءة متعمقة في الفكر الإسرائيلي قبل ساعات من دفاعها، حيث يخصص الدراسة الجزء الثالث للرد على مزاعم إسرائيل، ومن أبرزها نفيها لنية الإبادة وحقها في الدفاع من منظمة إرهابية كما وصفتها. ويطرح التساؤل حول مدى مسؤولية أمريكا في جريمة التواطؤ في الإبادة وحكم القانون الأمريكي ذاته، ثم يطرح تساؤلًا عما ستفعله إسرائيل إذا فشلت في الدفاع.
أولًا: إسرائيل ستدعى حقها في الدفاع من إرهاب حماس بإبادة شعبها وهي التي تجاوزت حدود الدفاع إلى تدمير الفلسطينيين وتهجيرهم قسرًا.
يقول الدكتور محمد خفاجي إن إسرائيل ستدافع بشروع حماس كمنظمة إرهابية على حد وصفها لإبادة شعب إسرائيل، ومن حقها الدفاع بحجة أن "إرهابيي حماس تسللوا إلى إسرائيل وقتلوا وأعدموا وذبحوا واغتصبوا واختطفوا مواطنين إسرائيليين، في محاولة لارتكاب إبادة جماعية"، والرأي عندي أن إسرائيل جاوزت نطاق وحدود الدفاع عن النفس إلى تدمير الفلسطينيين وتهجيرهم قسرا، وهو ما أوضحته جنوب إفريقيا من خلال عدد القتلى المروع والتهجير القسري، والحرمان من الطعام، والقيود المفروضة على الولادات، والهجمات على المستشفيات، وهذه أدلة كافية للاستنتاج بنية معقولة للإبادة الجماعية.
ومن أبرز أدلة تخبط الموقف الإسرائيلي من قضية جنوب إفريقيا اتهام إسرائيل لها بأنها "تعمل بمثابة الذراع القانوني لحماس"، وهو ما قاله ليئور حيات المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، ردًا على دعوى الدولة الإفريقية ضد الدولة اليهودية بشأن الإبادة الجماعية.
ثانيًا: إسرائيل ستنكر عنصر نية الإبادة! فكيف يمكن إثبات نية ارتكاب الإبادة الجماعية؟
ويؤكد الدكتور محمد خفاجي أن عنصر النية دائمًا صعب الإثبات لأنه يكشف عن النوايا الدفينة في أعماق النفس وعادة ما يخفيها مرتكبو جريمة الإبادة، فعادة تخفى الدولة نية ارتكاب الإبادة الجماعية. ومع ذلك، يمكن إثبات نية ارتكاب الإبادة الجماعية من خلال الأفعال والترسانة العسكرية التي دمرت المدنيين وعدد القتلى والوحشية في إبادتهم دون رحمة، ومن خلال التصريحات الصريحة التي يدلي بها رؤساء الدول أو مرتكبو الجريمة.
ويضيف أن قضاء محكمة العدل الدولية استقر في أحكامه بأنه يمكن إثبات النية من وراء الجرائم حتى ولو بدون أقوال صريحة، وأنه يمكن استنتاج النية من الأفعال. ووضعت المحكمة مبدأً لمثل هذا الاستنتاج يتمثل في التنفيذ المنهجي للجرائم، الذي يعتمد على وجود خطة منهجية لارتكاب الإبادة الجماعية.
ثالثًا: الدليل اليقيني على توافر نية إسرائيل في الإبادة الجماعية لسكان غزة ثابتة بالأفعال والأقوال المتكررة لنتنياهو ووزرائه وقادة جيشه.
يشير إلى أن تحقيق تنفيذ إبادة شعب يتوقف على توافر النية الخاصة لجريمة الإبادة، وقواعد القانون الدولي تضع عبئًا ثقيلًا للإثبات يصعب الوفاء به من الناحية العملية، بسبب أن الدول والأفراد الذين يخططون لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية يخفون نيتهم سرًا ولا يقدمون على الإعلان عنها علنًا.
ورأيي أن نية الإبادة متوفرة لدى إسرائيل من خلال جميع الأفعال والترسانة العسكرية التي دمرت بها الحياة في قطاع غزة، وأيضًا من التصريحات الخطيرة الصادرة عن كبار المسؤولين الإسرائيليين، بما في ذلك منذ بدء إجراءات المحكمة، تكشف عن نية إسرائيل في ارتكاب الإبادة الجماعية لسكان قطاع غزة.
وأوردت جنوب أفريقيا أمثلة عديدة على "التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية من قبل مسؤولي الدولة الإسرائيلية، بما في ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالتهديدات بجعل غزة غير صالحة للسكن بشكل دائم، والإشارات إلى وصف الفلسطينيين كحيوانات بشرية وهي موثقة في المطالبة.
كما تم الاستشهاد بدعوات الوزيرين اليمينيين المتطرفين تسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير بالتهجير القسري وإعادة توطين الفلسطينيين خارج غزة.
الدليل على توافر نية الإبادة الجماعية من جانب إسرائيل يظهر في تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حيث قال في بيان مطالبة جنوب أفريقيا: "تذكروا ما فعله عماليق بكم... اقطعوهم وامحوهم من على وجه الأرض".
كما صرح وزير الدفاع يوآف غالانت: "نفرض حصارًا كاملًا على مدينة غزة. لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق، نحن نقاتل حيوانات بشرية" وأيضًا، تظهر نية الإبادة من خلال تصريحات وزراء وأعضاء كنيست من الائتلاف مثل (ايتمار بن جابر، يسرائيل كاتس، بتسلئيل سموتريش، عميحاي إلياهو، وآفي ديختر ونسيم فاتوري وتالي غوتليب وجاليت ديستيل أتابريان وآخرون)، حيث يعبرون جميعًا عن نفس النية. بالإضافة إلى تصريحات قادة الجيش الإسرائيلي وقادة متوسطي الرتب وجنود في الميدان، الذين يعبرون عن مشاعر مماثلة أو يتفاخرون بأفعال تعكس نهجها في تدمير الشعب، كل هذه التصريحات يجب أن تكون تحت بصر المحكمة.
وفي داخل إسرائيل نفسها، كتب مسئولون سابقون إلى غالي باهاراف ميارا المدعي العام، يطلبون منه اتخاذ إجراء ضد المسئولين الحكوميين والسياسيين المنتخبين الذين دعوا إلى التطهير العرقي – وهو ما يدحض قول إسرائيل أنهم ليسوا صناع قرار - ومن بين الموقعين على هذه الرسالة، السفير السابق الدكتور ألون ليل، والبروفيسور إيلي بارنافي، وإيلان باروخ، وسوزي بشار. بقولهم: "إن الدعوات الصريحة لارتكاب فظائع ضد ملايين الأشخاص أصبحت، لأول مرة يمكننا أن نتذكرها، جزءًا مشروعًا وعاديًا من الحوار الإسرائيلي".
ويتوقع الدكتور محمد خفاجى أن إسرائيل ستدعي أن الاقتباسات التي ذكرتها جنوب إفريقيا في الدعوى تم إخراجها من سياقها، وأن هؤلاء الأشخاص ليسوا من صناع القرار في إسرائيل، الذي ينحصر في أعضاء مجلس الوزراء الحربي ورئيس الأركان وكبار القادة في الجيش الإسرائيلي، للدلالة على أن إسرائيل تقاتل حماس فقط، وأنها لا تسعى إلى إيذاء المدنيين الفلسطينيين، وهو قول يجافى الحقيقة وممكن دحضه بتصريحات نتنياهو ذاته وهو على قمة مجلس الوزراء ويترأس كافة المجالس الحربية.
والرأي عندي أن إسرائيل ستدافع عن نفسها بأن تدعي أنها اتبعت قوانين الحرب في حربها، وأنها اتخذت تحقيقات داخلية وإجراءات تأديبية وجنائية ضد المخالفين ستصطنعها لنفسها؛ لتثبت أنها تعمل بحزم على منع ومعاقبة كل فعل مدرج على أنه محظور في اتفاقية الإبادة الجماعية، بدءًا من التحريض وانتهاءًا به، ولكن نية الإبادة ثابتة في حقها من خلال الأفعال والأقوال لا فكاك منها بعد أن أقبضت عليها.
رابعًا: لا أستبعد إدانة أمريكا بالتواطؤ في الإبادة الجماعية وفقًا للاتفاقية والقانون الأمريكي يحظر المساعدات العسكرية في انتهاكات الإبادة وهناك دعوى في كاليفورنيا تتهمها بالتواطؤ.
ويذكر الدكتور محمد خفاجي أنه لا أستبعد إدانة أمريكا بالتواطؤ في الإبادة الجماعية وفقًا للمادة الثالثة فقرة ج من اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي تنص على أنه "يعاقب على الأفعال التالية:
(أ) الإبادة الجماعية.
(ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية.
(ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية.
(د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.
(هـ) الاشتراك في الإبادة الجماعية.
ويضيف: “رأينا أنه في 13 نوفمبر الماضي أقام مركز الحقوق الدستورية غير الربحي دعوى قضائية في المحكمة الجزئية الأمريكية للمنطقة الشمالية من كاليفورنيا نيابة عن منظمتين فلسطينيتين لحقوق الإنسان، الحركة الدولية للدفاع عن الأطفال - فلسطين ومؤسسة الحق، والعديد من سكان غزة ضد الرئيس جو بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن، تركز على تواطؤ الولايات المتحدة في أعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، على سند من أن بايدن وبلينكن وأوستن فشلوا في منع الإبادة الجماعية في غزة، وبالتالي انتهكوا اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 طالبين من المحكمة منع أمريكا من تقديم المزيد من الأموال والأسلحة وغيرها من المساعدات العسكرية لإسرائيل ومنعها من عرقلة محاولات المجتمع الدولي لتنفيذ وقف إطلاق النار”.
ويشير إلى أنه لا يستبعد أن تتناول محكمة العدل الدولية شرعية المساعدة المالية والعسكرية المستمرة من أمريكا لإسرائيل التي يحظرها القانون الأمريكي ذاته إذا كانت تستخدم للإبادة في سبيل بحثها الموضوعي عن الفاعل والشريك والمحرض والتآمر والشروع في جريمة الإبادة، علمًا بأن القانون الأمريكي المعروف باسم قانون ليهي يحظر تقديم المساعدة العسكرية لقوات الأمن الأجنبية عندما تتوفر معلومات موثوقة تشير إلى تورط تلك الوحدة في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كما يعتبر القانون الأمريكي الإبادة الجماعية، وكذلك التحريض على الإبادة الجماعية جريمة جنائية خاصة وأن الدعم المالي والعسكري الأمريكي لإسرائيل ينطوي على مجموعة من المحظورات القانونية المحلية الأخرى، الأمر الذي أدى باستقالة جوش بول في أكتوبر 2023 المسؤول بوزارة الخارجية.
وأتوقع في حالة إدانة إسرائيل، أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست الدولة الوحيدة التي ستواجه مشكلة في القضية عند النظر من الناحية الموضوعية، بل ستشمل دولًا أخرى بسبب التشارك في صنع أدوات الإبادة الجماعية بطريق المساعدة.
وأشارت قضية جنوب إفريقيا، بالإضافة إلى انتهاكات إسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية، إلى تواطؤ الحكومات الأخرى، والأهم بالطبع دور الولايات المتحدة في تمويل وتسليح وحماية إسرائيل أثناء قيامها بأعمال الإبادة الجماعية على الرغم من أن أمريكا دولة طرفًا في اتفاقية الإبادة الجماعية، وهي ملزمة بالعمل على منع أو وقف الإبادة الجماعية، إلا أنها فشلت في الوفاء بالتزاماتها بالمنع، بل أقدمت على المنح، بالدعم الاقتصادي والعسكري والاستخباراتي والدبلوماسي لإسرائيل أثناء تورطها في فظائعها الجماعية في غزة. وبالتالي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تقاعست عن مواجهة الإبادة الجماعية، وارتكبت جريمة التواطؤ المباشر وهي جريمة مستقلة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
خامسًا: إذا فشلت إسرائيل في الدفاع، ربما تفكر في إقامة دعوى مضادة ضد جنوب إفريقيا وإيران وحماس، تتهمهم بإبادة إسرائيل
ويذكر أنه في حال فشلت إسرائيل في الدفاع عن نفسها في الرد على القضية التي قدمتها جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي بعد اتهامها بـ"الإبادة الجماعية"، فإن إسرائيل قد تفكر في رفع دعوى مضادة ضد جنوب أفريقيا وإيران وحماس، وفقًا لما أعلنه مصدر سياسي بأن إسرائيل تدرس مقاضاة إيران وحماس بتهمة الإبادة الجماعية أيضًا، أي نفس الاتهام الموجه إليها، وفي الوقت نفسه، تُتهم جنوب أفريقيا بـ"دعم منظمة إرهابية".
وعلى الرغم من أن حماس ليست عضوا في اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي أُنشئت على أساسها محكمة العدل الدولية، ولا تتمتع بوصف الدولة العضو ولا تُعتبر شخصًا من أشخاص القانون الدولي، إلا أن إسرائيل تدرس ما إذا كان من الممكن قانونيًا على مستوى التقاضي الدولي مقاضاتها كمنظمة إرهابية أم لا؟