طه حسين.. أطير بحرية ولا جراح في جسدي (بودكاست)
كان يكره أن ينام مكشوف الوجه، وكان واثقًا أنه إن كشَف وجهه أثناء الليل أو أخرج أحد أطرافه من اللِّحاف، فلا بُدَّ من أن يعبَث به عِفريتٌ من العفاريت الكثيرة التي كانت تعمُر أقطار البيت، وتملأ أرجاءه ونواحيه، والتي كانت تهبط تحت الأرض ما أضاءت الشمسُ واضطرب الناس. فإذا أَوَتِ الشمس إلى كهفها، والناسُ إلى مضاجعهم، وأُطفئت السُّرُج، وهدأت الأصواتُ، صعِدتْ هذه العفاريتُ من تحت الأرض وملأت الفضاء حركةً واضطرابًا وتهامسًا وصياحًا.
وكان يخاف أشدَّ الخوف أشخاصًا يتمثَّلها قد وقفتْ على باب الحجرة فَسَدَّته سدًّا وأخذتْ تأتي بحركاتٍ مختلفةٍ أشبهَ شيءٍ بحركات المتصوِّفة في حلَقات الذِّكْر.
وكان يعتقد أن ليس له حصنٌ من كلِّ هذه الأشباح المَخُوفة والأصوات المُنْكَرة؛ إلَّا أن يلتفَّ في لِحافه من الرأس إلى القدم، دون أن يدع بينه وبين الهواء منفذًا أو ثُغْرةً، وكان واثقًا أنه إن ترك ثغرةً في لحافه فلا بدَّ من أن تمتد منها يدُ عِفريتٍ إلى جسمه فتناله بالغمز والعَبث».
قارئنا الكريم، هذا الكلام الذي قرأتَه أنت بين القوسين في الأعلى، لم يكن إلا طيفا من أطياف عالم القلق، الذي عاشه الطفل المعذب الضرير طه حسين، هذا الطفل الذي كتب هذا الكلام في كتابه الأيام، وكبر سنا ومقاما وحير الدنيا بعلمه وثقافته، وقلب تربة التراث العربي ورمى فيها بذور التجديد، فنبتت فيها أغصان مضيئة، وتدلت منها ثمار تشع بالنور والجمال.
في حلقة اليوم من بودكاست «شخصيات قلقة»، الذي تقدمه «الدستور» نتساءل، ما الذي كان يدور خلف تلك النظارة السوداء التي كان يرتديها العميد، ونتتبع مصدر قلقه الجميل الذي صنع في دنيانا وتاريخنا كل هذا التوهج.
أصحبكم في هذه الرحلة أنا محمد هشام، رفقة اثنين من الباحثين والكتاب، هما عبيد عباس ومحمد هلال، والذين يسترسلان في الحديث حول مصدر القلق في حياة العميد، وأصداء ذلك القلق في حياته وفي منجزه العلمي والإنساني، ونحن نضع بين أيديكم هذه الحلقة، لتكون مسارا للتفاعل بين القراء والمستمعين حول تجربة هذا الرجل العظيم، ونتمنى أن تفتح الحلقة طريقا للتباحث والنقاش المثمر.