إنه وائل الدحدوح..!
(1)
من رحم المأساة تولد الأيقونات ويخلد التاريخ أسماء أبطاله الاستثنائيين!
استشهاد زوجته وابنته وأحد أبنائه وإحدى حفيداته.. لم يستطع أن يلتقط أنفاسه ويحزن عليهم وقرر عدم الصمت والرضوخ للإرهاب الصهيونى واستمر فى رسالته الوطنية فى الدفاع عن أهله ووطنه بسلاحه الذى لا يعرف سواه وهو الكلمة! ثم يتم استهدافه مع رفيقه المصور فيستشهد رفيقه ويصاب هو ولا يمنح نفسه رفاهية الاستسلام للعلاج وكان يمكنه ذلك، لكنه أبى ونهض بجروحه وآلامه مستكملًا جهاده الشريف.. ورأيناه جميعًا يرتدى (شبشب) ويقوم بنقل جرائم العصابة الصهيونية!
واليوم يقومون باستهداف ابنه الصحفى فيرتقى شهيدًا برفقة شهيدٍ آخر من قافلة شهداء الكلمة فى قطاع غزة! يبكى نجله وهو بملابس الميدان!
الكل يتساءل أى صنفٍ من الرجال هو؟!
الإجابة أنه رجلٌ بالمعنى الحقيقى.. وهو مجاهد بصدق عن قضية عادلة.. قضية وطن وشرف! وائل الدحدوح واحدٌ من مئات الآلاف من الأبطال من هذا الشعب المبتلى.. أمهات يودعن فلذات الأكباد بين رضيع وطفل غض، وأطفال وجدوا أنفسهم بلا عائلات.. وائل دحدوح إحدي أيقونات هذه الحرب.. ليست حربًا وإنما مقتلة لم يعلم مَن قُتلوا لماذا قتلوا.. لكنها مثل سابقاتها منذ بدايات القرن الماضى.. بسطاء وجدوا أنفسهم فى مواجهة قتلة محترفين تساندهم قوى الشر على الكرة الأرضية.. لا ذنب لمن قُتلوا سوى أنهم ولدوا كمواطنين فلسطينيين!
إلى هذا الحد يصيبهم نقل الحقيقة بالجنون والهستيريا فيجعلون من رجل لا يملك سوى ميكروفون وخط تليفونى هدفا للقصف العسكرى مرة تلو المرة!
(2)
الإعلام العسكرى من مفردات الحروب الحديثة.. وهو ليس اختراعًا حديثًا، ففى كل الحروب القديمة كان هناك من يقوم بمهمة التسجيل والتوثيق ولكن بشكلٍ رسمى، ومن ذلك عرفنا كثيرًا من تاريخ الحروب السابقة. وفى القرن الماضى تم تدشين الإعلام العسكرى بشكل رسمى وتم منح حصانة خاصة لكل من يرتدى شارة الصحافة والإعلام. اتفقت الجيوش رسميًا على ذلك كميثاق شرف.. ألا يتم استهداف الصحفيين والإعلاميين، وفى أقصى الأحوال كان يتم منعهم من التواجد فى الأماكن الخطرة، أو الأماكن التى لا تريد بعض الجيوش إطلاعهم عليها. قطعًا كان يسقط فى ميدان المعارك صحفيون فى كل الحروب السابقة، لكن ذلك كان يحدث بشكلِ عشوائى. لكن أن يتم السماح لهم بممارسة أعمالهم ثم يتم استهداف أحدهم وعائلته أكثر من مرة، فهذه خسة تاريخية تضاف لقائمة جرائم سفلة بنى صهيون ومن خلفهم ومن صنع أكذوبتهم، ومن يفتح مصانعه العسكرية على مصراعيها لمجرميهم!
أكثر من مائة صحفى وإعلامى فلسطينى تم استهدافهم واغتيالهم فى مقتلة غزة فى ثلاثة أشهر! وهذا الرقم طبقًا لإحصاءات الحروب السابقة وطبقا للمدى الزمنى يُعد هو الأكبر فى تاريخ الصحافة والإعلام! كل الإرهابيين يفكرون بنفس الطريقة.. اغتيال أصحاب الأقلام والكلمة! المنظمات الإرهابية دأبت على ذلك.. والآن يقوم ما يسمى بجيش الاحتلال بتقديم دليل جديد أنه ليس أكثر من منظمة إرهابية عسكرية ولا علاقة له بكلمة جيش دولة، فالجيوش وفى كل الأحوال تحاول التمسك ولو ظاهريًا ببعض مظاهر الشرف العسكرى! وهذه المنظمة الإرهابية المسلحة المسمى كذبًا بجيش الدفاع الإسرائيلى تضيف مشهدًا جديدًا من آلاف المشاهد لتثبت للعالم أنه لا علاقة بينها وبين أى شرف عسكرى!
(3)
قطعًا لا بد من التوقف طويلا أمام ردة الفعل العالمى على الأرض تجاه هذه الجرائم الخسيسة الدموية ضد الصحفيين والإعلاميين، سواء على النطاق السياسى أى المؤسسات الرسمية الحكومية، أو على النطاق الأممى غير السياسى، أى كل المنظمات الأهلية والمدنية ذات الثقل الدولى والمهتمة بكل العبارات المتعلقة بالصحافة والإعلام وحرية التعبير والكلمة!
منذ سنوات طويلة وعلى الأقل فى حقبة الثمانينيات والتسعينيات وحتى أشهر قليلةٍ مضت، كان لمصر تاريخٌ طويل مع هذه القضية تحديدا سواء مع المؤسسات الحكومية أو المنظمات المدنية الأممية! ففى ذروة تعرض مصر لموجات الإرهاب كانت تُشن على الدولة المصرية حروبٌ شرسة من حكومات حين كانت مصر تقوم بإغلاق أو مصادرة مطبوعات إرهابية دموية صريحة، وكان الاتهام الموجه للدولة المصرية واحدًا دائمًا هو الدفاع عن حرية الكلمة وحرية التعبير وحرية الصحافة، رغم أن محتوى ما كانت تحجبه الدولة المصرية لم يكن إلا تحريضًا مباشرًا على القتل أى أن المصادرات كانت تتم جنائيًا! ووصل الأمر بحكومات بعض دول أوربا الغربية بأن تمنح لبعض هؤلاء حق اللجوء ومنحتهم هناك منابر إعلامية مجانية؛ لتستكمل دعواتها التحريضية لإشعال الفوضى الدموية فى مصر!
أما المنظمات المدنية بمختلف مسمياتها حقوقية أو صحفية واعلامية فلم تكن أقل حدة فى توجهها ضد الدولة المصرية فى نفس الحقب التى كانت تراق فيها دماء المصريين على أيدى قتلة، فقد كانت هذه المنظمات تدافع عنهم وتصفهم بالمعارضين الإسلاميين! وكان اسم مصر دائما ما يُزج به فى التقارير السنوية لتلك المنظمات لابتزاز الدولة المصرية!
أما إذا ما تم القبض على أى صحفى ينتمى لنفس تلك الجماعات الإرهابية فى نفس تلك الفترة وبتهم جنائية خالصة، فقد كان يصبح فجأة أيقونة تلتف حولها هذه المنظمات وتحاول أن تتطاول على القوانين المصرية وتطالب فى فجاجة ووقاحة بالإفراج عنه دون التقيد بخطوات التقاضى!
(4)
بعد ثورة يونيو وفض الاعتصامات المسلحة الإرهابية، وما تبع ذلك من القبض على بعض المتورطين فى أعمال عدائية خارج القانون المصرى، اتخذت دولٌ ومنظمات موقفًا عدائيًا صريحًا من الدولة المصرية وكالت لها الاتهامات بالديكتاتورية ومصادرة الحريات وقصف الأقلام! بل إن بعض من ينتمون لنفس القناة التى يعمل لها الدحدوح تم القبض عليهم فى مصر بتهم جنائية فشنت تلك القناة حربًا شرسة على مصر لسنوات فى محاولة لابتزاز الدولة المصرية للتجاوز عن تطبيق القانون المصرى!
أحد المدونين المصريين قام بنشر تدوينات– صوت وصورة– يدعو فيها لاغتيال الضباط المصريين، وهى تهمة جنائية خالصة لا يمكن أن يفلت من مواجهتها أى مواطن فى أى دولة غربية.. تم القبض عليه طبقًا للقانون المصرى.. قامت حكومات دول كبرى وعبر اتحادٍ رسمى يجمع دولها، بخوض حربٍ شرسة ضد مصر لإجبارها على الإفراج عنه دون التقيد بمواد القانون المصرى! اعتبرت تلك الدول أن التحريض على قتل الضباط هو حرية تعبير وحرية رأى! وصلت الوقاحة ساعتها أن طالب رؤساء حكومات دول كبرى من الدولة المصرية الإفراج عن هذا المدون! رئيس وزراء دولة أوروبية كبرى وفى أول زيارة له لمصر بعد توليه الحكم وضع على قائمة موضوعات مباحثاته طلب الإفراج هذا، مما اضطر القيادة المصرية أن تقوم بتلقينه درسًا مقتضبًا عن احترام القانون المصرى!
هذه كانت حالة من عشرات الحالات فى مصر.. رؤساء حكومات ومنظمات مدنية ومؤسسات إعلامية انتفخت عروقها ولم تستحِ ومنحت لنفسها حقا فى تطاولٍ على دولة ذات سيادة بحجة الدفاع عن حرية الرأى، وحرية التعبير، وحرية التحريض على القتل فى مصر!
(5)
والآن.. أين كل هؤلاء من جرائم استهداف واغتيال أكثر من مائة صحفى وإعلامى فى ثلاثة أشهر؟! أين كل هؤلاء من استهداف ترسانة عسكرية لإعلامى فلسطينى اسمه وائل الدحدوح؟! استهداف عائلته واستهدافه بقصف صاروخى وأخيرًا اغتيال ابنه؟! أين الحكومات والمؤسسات التى خاضت حروبًا ضد مصر وضد غيرها من الدول حين كانت مصر أو أى دولة أخرى تطبق قانونها فى حماية استقرارها وحماية أرواح مواطنيها؟! أين رئيس وزراء تلك الدولة الذى جاء منذ أشهر مهرولًا إلى مصر مطالبا بالإفراج عن مدون مصرى قام بالتحريض على القتل؟!
إن هذه المقتلة فى غزة نزعت ورقة التوت الظاهرية الأخيرة عن كثيرٍ من المؤسسات والحكومات.. لقد كشفت كل الوجوه القبيحة وأسقطت كل الأقنعة.. هذه المنظمات ليست إلا مساحيق تجميل رخيصة كانت تجمل وجه الشيطان الاستعمارى منذ الحرب العالمية الثانية، لكنها ذابت وتساقطت ليس من حمرة الخجل وإنما أسقطتها وأذابتها صرخات أطفال غزة وقذائف الصواريخ التى استهدفت هذه الكوكبة من الصحفيين والإعلاميين والتى وضعت لنفسها من عائلة هذا الرجل الصابر هدفًا!
إننى أدعو كل المؤسسات الرسمية فى هذه المنطقة المستهدفة من العالم لتغيير مواقفها من أى منظمة أو مؤسسة كانت تمنح لنفسها حقًا فى تلقيننا دروسا فى الدفاع عن حرية الإعلام والصحافة! حرية التعبير الحقيقية الشريفة موجودة هنا وليست عندكم! الذين يشاهدون جرائم قتل الصحفيين فى صمت لا يحق لهم بعد اليوم أن يرفعوا تلك اللافتات فى وجوهنا مرة أخرى!
حين يحدثكم محدثٌ من دولة غربية عن حرية الصحافة فأرجوكم افعلوا معه كما فعل الصحفى العراقى مع الرئيس المتصهين بوش فى مؤتمره الصحفى الشهير!
لا توجد كلمات عزاء كافية لإطفاء أحزان رجل تعرض لما تعرض له وائل الدحدوح.. فالمصيبة كبرى.. لكن العزاء الحقيقى أنهم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون.. وأنه أصبح أيقونة للرجولة والشرف تلهم الأجيال الجديدة من أهل فلسطين.. وتمنحهم سببًا جديدًا للصمود والتمسك بأرضهم!