هدنة مؤقتة
بوداعة القتلة، تجلس الحرب فى الشرفة، تضع ساقًا على ساق وتدخن، تدخن وتسعل فيهتز صدر المدينة.
تقول طفلة: تجاوزت السابعة عندما استقرت شظية برأس أمى، أنا لا أريد لعبًا، فقد أهدتنا الحرب لعبًا حقيقية. فقط خذونى إلى أمى التى زرعتها هناك عند الشجرة.. كنت تحت القصف فلم أحسن وداعها بما يكفى لتنبت من جديد.
ويقول طفل: كم يكفيكم من جثث لصنع مائدة للتفاوض؟ هاتفونا إذا احتجتم إلى جثث إضافية، والشبح الذى اعتلى طرف البناية لحظة القصف، لم يكن غير طفل يشد أطراف الليل ليغطى عورة النهار، فى جحيم الهدنة، نعصر الغيب بحسرة شمس تنتحر من شرفتها، فما سيتبقى من الفارس بعد الحرب، لن يكفيه كى يروى لنا تفاصيل الإبادة، يقول طفل: نشكر الله ورجال الإسعاف، وتقول مراهقة لحبيبها: سنلتقى فى حياة سابقة بعد تفجيرين من الآن، ونتحسس أعضاءنا بين عبوة ناسفة وأختها، كما يمكننا أن نتدرب كيف نسرق القبلات فى ظلام الأزقة، كى ننجو من القذائف، لا حانات آمنة نلوح فيها بنخب ميلاد جديد، ولا مطارات يمكننا عبورها دون أن نخلع أحذيتنا، ولا قصائد بوسعها أن تسند الوطن حين يسقط من طوله، وما من حيلة تمنحنا هدنة نستطيع خلالها أن نحصى الرصاصات التى اخترقت محبتنا، يقول طفل لأمه: كونى معى فيما تبقى لنا من حياة، ولا تتركينى مثل عصفور فقد تغريدته الأخيرة وهو يسقط من فضاء لا يريده على أرض بلا غصن ولا ذكريات. تقول أم وهى تنزع الرصاص الميت من صدر شهيدها الحى: مات ليمنحنى الكلام، وتقول جارتها وهى تودع أولادها: رأيت الله بالميدان فاذهبوا آمنين، وقبل الفجر كان أحمد يرسم وجه طفلته على جدارية وترك لها ما يكفى من الألوان للتوقيع، لكنه رسم هتافًا يطلق الخيول كى تحرسه فى الطريق، يقول عابر: سأحكى لكم ذات ليل مضى عن البناية المهجورة وسط البنايات المهدمة، التى تطل النباتات من شرفاتها، عن البنت التى تبكى نهاية كل أسبوع لترويها، عن الطيور التى تخلفت عن أسرابها وعششت هناك، عن الملابس التى لم تجف بعد على حبال الغسيل، عن الأطفال الذين يهزون البناية فى غياب الأهل، وينتظرون البرتقال والزيتون، ويقول مجذوب: لا بد أن تشارك فى الجنون الذى حولك كى تنجو بعقلك، أما الكاتب المسرحى فقد وقف فى فناء بناية مهدمة يبحث عن مؤلفه الأخير وهو يصرخ: الرجاء رفع الأنقاض، ويقول شاعر:
مثل سلة فاكهة قديمة
لفظها الدود لفظت حليب الرضاعة
وبدلت ماء الوصايا عند بلوغ الصبا
وفى مراهقتى
لم أعلق قلبى مثل أقرانى بشرفة بنت الجيران
ولا أذكر أن بابًا ردنى حين لم أدخله بيمينى
لم يشغلنى من الوردة لونها
أو استعارة عطرها
أو ادعاء رقتها
كنت أراقبها ﻷعرف
من الذى يحمل الندى على ظهره
كل فجر إليها
لم يخمش النهار نافذتى عن طيب خاطر
ولم تهبه لى ساحرات ما كبث
ولا ساومتنى امرأة عليه
وكنت كلما أرسم شمسًا
أحار أين أضعها
وأشفق على سماء اللوحة من حملها
خمسة وسبعون عامًا
أربى شموسًا صغيرة فى حظيرة الصبر
أغسلها بندى فجر لم يولد
أطعمها حبات روحى
وعند النوم أهدهدها بما تيسر من غضبى وأحلامى
لم أنفق الوقت على عتبات الظلام
ولم أدع ظلى يذوب فى مرايا الرضا
كنت أسرقه لنبدل طقس الصباح
كى أمسك النهار
قبل أن يسقط من النافذة.