صاحبة الجلالة| أم كلثوم والصحافة.. ما محبة إلا بعد عداوة
سأل المذيع الآنسة أم كلثوم فى الثلاثينيات فى حوار نادر سؤالًا عابرًا، فى سياق حديث طويل قبله، عن هجوم الصحافة عليها فى العشرينيات لصالح نجمتى هذا الزمان فتحية أحمد ومنيرة المهدية.
نص السؤال: هل كان هناك اهتمام من جانب حضرتك بالصحافة؟
جاء رد «الست» عنيفًا بشكل غير مبرر، ما دفع المحاور إلى عدم إكمال سؤاله، حيث قالت باستنكار شديد: «وليه أهتم؟.. هى اللى تهتم.. الله!!».
المقطع الصوتى موجود على استحياء على شبكة الإنترنت؛ دون أى توصيف غير أنه حوار نادر مسجل من حقبة الثلاثينيات.
رد أم كلثوم العنيف الحاد كان بيانًا لعلاقة سيئة مع مهنة الصحافة برمتها لا يتناسب مطلقًا مع ما حدث بعد ذلك من تماهى صحفى مع أسطورية تلك البنت الآتية من طماى الزهايرة، حيث كانت الصحافة هى رأس الحربة الحقيقية، بعد فنها طبعًا، التى عززت قيمة «الست» ونصبتها على عرش نساء هذا الوطن عبر تاريخه.. وصارت علاقات «الست» أم كلثوم متشعبة بين الصحفيين، كما كانت الدائرة القريبة من كوكب الشرق مليئة بأبناء صاحبة الجلالة الذين تحولوا تحت وطأة تأثيرها الجارف وجاذبيتها الإنسانية المفرطة إلى «رجال الست» المدافعين عنها ضد أى محاولة تجريف، أو تقليل من قيمتها المتصاعدة مع الزمن.
والحق أن ثومة لم تتعامل مع الصحفيين طوال حياتها من برج عاجٍى أو من موضع النجمة المتلألئة فى السماء، ولم تطبق ما قالته ردًا على المذيع حرفيًا: «هى اللى تهتم»؛ لأنها فى الواقع صادقت الصحفيين وأصبحوا ضيوفًا دائمين فى رحاب «الست».. وأغلب الظن أن انفعالها الزائد فى ذلك التسجيل الإذاعى النادر لم يكن سوى انفعال نتيجة تراكمات نفسية من الحملة العنيفة غير الأخلاقية التى شنتها عليها فى عشرينيات القرن مجلة «المسرح» لمؤسسها ورئيس تحريرها محمد عبدالمجيد حلمى، الذى صنفت مجلته نتيجة تلك الحملة المغرضة، بأنها بداية الصحافة الصفراء الحقيقية.
ووصل الأذى النفسى لتلك الحملة ذروته بترويج شائعات أخلاقية تمس شرفها، الأمر الذى دفع أباها الشيخ إبراهيم البلتاجى لمحاولة الرجوع نهائيًا إلى طماى الزهايرة ومخاصمة الشهرة والنجاح، بعد أن تبين أن الضريبة غالية على أبناء الريف الهائمين فى فضاء القاهرة القاسى.
لكن ما حدث بعد ذلك عبر العقود المتتالية من الثلاثينيات حتى السبعينيات، هو تأصيل لعلاقة من نوع خاص جدًا واستثنائى بين كوكب الشرق والصحافة.. ويبدو أن ثومة امتلكت البصيرة الكافية لكى تعرف أن الصحافة هى وسيلتها الأهم لتسطير تجربتها الفريدة على جدار الزمن، وكانت أحرص الفنانين على أن تغطى الصحافة نشاطها وحفلاتها، خاصة دورها الأسطورى غير المسبوق تاريخيًا فى الوقوف بجوار الوطن المهزوم فى ٦٧، حيث استطاعت عبر سنوات ما بعد النكسة أن تصنع ملحمة مستحيلة عبر رحلات مكوكية فى محافظات مصر ودول العالم، مصطحبة معها موهبة جبارة وتاريخًا ناصع البياض وحضورًا ليس له مثيل.. وكان الغرض هو جمع تبرعات لإعادة بناء الجيش الجريح. كما اصطحبت معها فى كل رحلاتها الصحافة الورقية بمفرداتها «القلم والكاميرا» جنبًا إلى جنب مع كاميرات التليفزيون العربى؛ ليسهم الكل فى التأريخ لما تفعله تلك السيدة الأسطورية.. وتصير التغطيات الصحفية لحفلاتها فى «آخر ساعة» و«الكواكب» و«الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية»، هى زاد الباحثين وزوادهم لتأريخ تلك المرحلة المهمة من تاريخ مصر.. وبالتأكيد كانت «الست» لتسعد لو رأت ذلك الكتاب الموسوعى البديع الذى صدر مؤخرًا عن «دار تنمية» بعنوان «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» لكاتب سكندرى شاب لم يولد إلا بعد وفاة الست بسنوات طويلة اسمه «كريم جمال».. لكنه، وبفضل التغطيات الصحفية المبهرة لكل تفاصيل حفلاتها بعد النكسة، استطاع أن يؤرخ فى كتابه بدقة ودأب يحسد عليهما تلك التجربة الفريدة لسيدة تخطت السبعين من عمرها، لكنها أقامت الدنيا ولم تقعدها نصرة لقضية وطنها الجريح.
إذن علاقة أم كلثوم مع الصحافة والصحفيين أعمق من أن يحددها موضوع أو حتى كتاب، ولكن لا بأس فى قليل من التأمل فى تطور تلك العلاقة التى بدأت بكراهية، وانتهت بحب واحتفاء وصداقة لا تنفك.
محمد عبدالمجيد حلمى.. صاحب مجلة «المسرح» الرجل الذى كاد يُنهى الأسطورة قبل أن تبدأ
جاءت العشرينيات لترسم أول الطريق المحتوم لبنت طماى الزهايرة، التى عاشت سنوات عمرها السابقة تتنقل بين كفور ونجوع الدلتا تغنى للأعيان رفقة تخت رقيق الحال مكون من أبيها وأخيها.. لكن كانت الموهبة أكبر وأعظم من أن تحتويها تلك البيئة البسيطة، فكانت هى القاهرة.. الملجأ والملاذ لكل مبدع يملك بين جنبات صدره موهبة يبغى إخراجها.
انتقلت الأسرة الصغيرة فى عام ١٩٢٣ إلى العاصمة بدعم الشيخ أبوالعلا محمد، الأب الروحى للفتاة الريفية الموهوبة، وبدأت تتلقف أيادى المبدعين ذلك الصوت الساحر القادم من الريف ليعلو صيتها مبكرًا جدًا، وتصير رقمًا فى معادلة الأنس والطرب فى قاهرة العشرينيات وتناطح أباطرة المجال، على رأسهم منيرة المهدية وفتحية أحمد.. وتصبح محط أنظار الصحفيين حينها.. وفى منتصف العشرينيات تقفز صورة الآنسة أم كلثوم على أغلفة المجلات الرائجة مثل مجلة «الحسان».
فى نفس الإطار الزمنى صدرت مجلة «المسرح» على يد صحفى شاب اسمه محمد عبدالمجيد حلمى، تشابهت ظروف بدايته مع بنت طماى الزهايرة، حيث حضر للقاهرة يبحث عن طموحه أيضًا غير أنه أتى من الجنوب.. تحديدًا محافظة أسيوط.
ويبدو أن تلك الظروف المتشابهة جعلت الصحفى الشاب الصعيدى داعمًا للآنسة أم كلثوم، ويفتح باب مجلته الوليدة التى أصدر العدد الأول منها يوم ٩ نوفمبر ١٩٢٥ وتتصدر صورة المطربة غلاف مجلة «المسرح» لأول مرة يوم ٨ فبراير ١٩٢٦.
واحتوت المجلة داخليًا أكثر من موضوع داعم لها، مشيدًا بموهبتها؛ إلى أن تحولت الدفة بشكل كامل وغامض فى سياسة المجلة وصاحبها محمد عبدالمجيد حلمى تجاة الآنسة أم كلثوم، حيث بدأت على شكل نميمة خفيفة تلمح لعلاقة حب بينها وبين أحمد أفندى رامى.. ومع الوقت تحولت إلى حملة صحفية ممنهجة للنيل من سمعة أم كلثوم وتنفير الناس منها.
الحملة التى رصدها بدقة متناهية الكاتب وسيم عفيفى على موقع «الميزان» أكملت مسيرتها فى محاولة هدم بنيان المطربة الجديدة الآخذ فى العلو.. والرواية الأسهل التى تبناها الكثيرون لما تحمله من وقائع درامية جذابة، أن الملكة منيرة المهدية، أكثر المضارين من نجومية الآنسة أم كلثوم، هى التى كانت وراء تلك الحملة الصفراء غير الأخلاقية، والتى كادت تتسبب فى نهاية قصة أم كلثوم فى مهدها؛ بعد أن طالبها أبوها الشيخ إبراهيم البلتاجى بالعودة إلى طماى الزهايرة رحمة بسمعتها.
والرواية الأخرى هى تطوير للأولى ومرتبطة بمنيرة أيضًا، حيث قيل إن صاحب المجلة محمد عبدالمجيد حلمى الشاب الصعيدى كان غارقًا فى حب منيرة، وما كانت حملته ضد ثومة إلا عربون محبة منه لمنيرة.. وهى الرواية التى تبنتها أم كلثوم شخصيًا وآمنت بها كما سنرى. ثم تدخل القدر لتقف تلك الحملة الصفراء برمتها بعد مرض صاحبها فى العام التالى، ثم وفاته نفس العام بمرضه الغامض.. لكنه فى أغلب الظن ترك أثرًا بالغ السوء فى نفس الآنسة أم كلثوم تجاه الصحافة برمتها؛ كانت نتيجته تلك النبرة الحادة التى ردت بها على مذيع الراديو فى الثلاثينيات عندما سألها عن اهتمامها بالصحافة.. لكن ذكاءها دفعها إلى عدم المغالاة فى علاقتها السيئة مع تلك المهنة، بل على العكس تحولت لداعمة لتجارب الصحفيين الشباب طوال حياتها بعد ذلك.
محمود عوض.. عندما فتحت الست «السبعينية» قلبها للصحفى الشاب: هذه حكايتى مع منيرة المهدية وعبدالمجيد حلمى
من الطبيعى أن يأتى الكلام عن محمود عوض، الصحفى الشاب اللامع، نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، فى آخر الموضوع طبقًا للترتيب الزمنى لعلاقة «الست» مع الصحفيين.. ومنطقى أن يكون بعد التابعى والأخوين أمين وهيكل وأنيس منصور وفاروق إبراهيم، لكن ما انفرد به عوض عن الباقين جعلنى أقدمه فى الكلام عن علاقة «الست» بالصحافة والصحفيين، وهو أن «الست» فتحت قلبها وعقلها لهذا الصحفى الشاب، وحكت بالتفاصيل الدقيقة ما حدث داخل بيت الشيخ إبراهيم البلتاجى بعد حملة مجلة «المسرح» الصفراء عليها، والتى حاولت القضاء على حكايتها قبل أن تبدأ.
أم كلثوم حكت لمحمود عوض، الصحفى الشاب، الذى اختارته بنفسها ليكتب عنها، واشترطت على إحسان عبدالقدوس رئيس تحرير «أخبار اليوم» سنة ١٩٦٩ عندما طلب منها أن تصدر الدار كتابًا عنها ضمن سلسلة «كتاب اليوم» الوليدة، أن يكون كاتب مذكراتها هو ذلك الشاب الجديد ذو الأسلوب الساحر فى الكتابة، محمود عوض.
وبالفعل أصبح محمود منذ هذا التاريخ واحدًا من أقرب الصحفيين لـ«الست»، وإن كان لم يتاجر هو بذلك إطلاقًا واكتفى بكتابه البديع «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد»، الذى حقق نجاحًا خرافيًا فى التوزيع، حيث وجد فيه القراء بالفعل حكايات كثيرة لم يعرفوها حكتها له بعد أن تخطت السبعين من عمرها، ومنها تلك الحكاية التى شكلت مفترق طرق فى حياة أهم سيدة فى تاريخ مصر، وهى حكاية ماذا حدث فى الكواليس داخل بيت الآنسة أم كلثوم ردًا على حملة مجلة «المسرح» المستعرة؟، ونترك هنا أم كلثوم تحكيها بنفسها لمحمود عوض صحيث تقول «الست»: «فى خلال السنوات الأربع الأولى التى أمضيتها فى القاهرة.. كانت العاصمة بالنسبة لى هى شارع فؤاد (٢٦ يوليو الآن) وميدان قصر النيل وميدان عابدين وميدان باب الخلق.. وكانت معلوماتى عن القاهرة هى ما أقرؤه فى الصحف والمجلات.
ومع هذا الحصار الذى كنت أعيش فيه، أحببت القاهرة وعشقتها. كنت أحس أننى أعيش فى أجمل بلد فى الدنيا. أحببت أهلها.
وجدت فى هذه المدينة الحلوة ضمانًا واهتمامًا وتشجيعًا. وجدت فيها مجدًا لم يخطر لى على بال.
وفى يوم من الأيام عاد والدى إلى بيتنا وهو متجهم الوجه ودخل حجرته.. ونادى على والدتى، فدخلت وأقفلا الباب. وسمعت همسًا لم أهتم به.. ولكنى رأيت أمى تفتح الباب، وتبدأ فى حزم الحقائب.
وسألت أمى: ماذا جرى؟.. فسكتت ولم ترد.. استمرت تملأ الحقائب بالملابس، وسألت والدى، فقال بحزم: خلاص، إحنا راجعين بلدنا، لن نبقى فى مصر بعد الآن.. ولن نعود إليها.
ودهشت من هذا القرار العجيب.
ورحت ألح على والدتى أن تبرر لى قرار والدى، رحت أقول لها أريد أن أعرف لماذا سنهجر القاهرة؟
وأشارت لى والدتى إلى مجلة ملقاة على الأرض.. والتقطت المجلة.. إنها مجلة «المسرح» التى يصدرها الناقد المسرحى عبدالمجيد حلمى، ورحت أقلب صفحات المجلة فى لهفة.. فلم أجد ردًا على سؤالى.
وعُدت أقرأها سطرًا سطرًا.
ثم سقطت المجلة من يدى.. لقد نشرت المجلة خبرًا عجيبًا عنى، كان خبرًا كاذبًا عن سمعتى، ولكن المرحوم عبدالمجيد حلمى كان يُعجب فى ذلك الوقت بالسيدة منيرة المهدية، وبدلًا من أن يقدم لها باقة ورد.. رمى تحت أقدامها شرف المطربة الجديدة.
ولكن.. هل من العدالة أن يضحى أبى بمستقبلى بسبب خبر كاذب؟
هل من العدالة أن تدفع الضحية ثمن سكينة الجزار؟
ورحت أستنجد بأصدقاء أبى.. أرجو كلًا منهم أن يحضر لإقناع أبى بالعدول عن الهجرة من القاهرة.
وجاء الأصدقاء إلى بيتنا ليحاولوا إقناع أبى بالبقاء فى القاهرة، قالوا له إن ابنته أصبحت مشهورة، وإن للشهرة ضرائب يجب أن يدفعها صاحبها، وأولى هذه الضرائب أن يحتمل نشر الأكاذيب التى تنشرها عنه بعض المجلات الصغيرة.
ورفض أبى وساطة هذه الوفود. أصر على الهجرة إلى قريتنا (طمای).
وعندها استسلمت للأمر الواقع. وجلست فى حجرتى أكتب خطابات وداع صديقاتى ومعارفى. كنت أكتبها بدموعى.
وبين الخطابات التى كتبتها خطاب عصرت فيه قلبى، أرسلته إلى صديقتى التلميذة فى مدرسة (المير دى دييه).. حدثتها عن قرار أبى. ورحت أودعها هذا الخطاب بدموعى وأودع القاهرة الحبيبة وكأننى أودع الدنيا كلها.
وجاءت أسرة المهدى إلى بيتنا.. فوجدت الحقائب معدة.
وتكلمت سيدات الأسرة، ورحن يناقشن والدى فى قراره فى بلاغة وحكمة ومنطق.
ولم يقتنع أبى. ثم ركزن سهامهن على عاطفة أبى وحبه لى. قلن له إن قراره سيقضى على مستقبلى، سيدفن المجد الذى كان ينتظرنى تحت تراب قرية طماى.. ولم يقتنع أبى.
وأخيرًا تكلم أمين المهدى..
قال لأبى: إن معنى مغادرتكم القاهرة أن الخبر الذى نشرته مجلة (المسرح) عن أم كلثوم هو خبر صحيح.. فالناس تهرب من الحقيقة، ولا تهرب من الأكاذيب.
هنا فقط قام أبى من مقعده.. وبدأ يفتح حقائبنا ويخرج منها الملابس، وحتى تلك اللحظة كنت أقيم فى القاهرة فترات متقطعة، ثم أعود إلى الريف.. أما الآن، من هذه السنة، ١٩٢٦، فقد بدأت أقيم فى القاهرة بصفة أساسية».
انتهت رواية «الست» لمحمود عوض عن تلك اللحظة الرهيبة التى كانت ستفقد مصر أهم رموزها الفنية فى لحظة انفعال من الأب الشيخ إبراهيم البلتاجى.
محمد التابعى.. صاحب «آخر ساعة» الصديق والداعم.. والحبيب إذا لزم الأمر
على الرغم من تجربة أم كلثوم السيئة مع الصحافة بعد حملة مجلة «المسرح» الصفراء، والتى كانت كفيلة بتدمير علاقتها بمهنة الصحافة إلى الأبد.. لكن كانت «الست» تدرك أن الصحافة هى حجر زاوية قوى فى تثبيت أركان أسطورتها.. وأصبح أهم صحفيى مصر من الدائرة القريبة جدًا من ثومة بنت طماى الزهايرة.. وكان على رأس هؤلاء أحد محررى مجلة «المسرح» السابقين والناقد المسرحى فى «الأهرام» حينها بتوقيعه الشهير «حندس»، الذى أصبح أميرًا للصحافة وهو محمد التابعى.
لم يكن التابعى صحفيًا عاديًا.. وإنما كان صاحب كاريزما خاصة دفعته لأن يكون صديقًا لكبار المجتمع عبر الصحف والمجلات التى عمل بها.. لكن كان لا بد أن تكون له تجربته الخاصة المربوطة باسمه اللامع.
التابعى أقام علاقة صداقة قوية ومتينة جدًا مع أم كلثوم.. وكانت ثومة من أكثر المشجعين والداعمين له لإصدار مجلته الوليدة «آخر ساعة»، وظلت على تواصل كامل معه، ومتابعة دقيقة لكل خطوة من خطوات إصدارها، وكانت شغوفة لأن ترى أول عدد من المجلة الوليدة.
وبالفعل صدرت «آخر ساعة» يوليو ١٩٣٤، وتصبح أم كلثوم ليس فقط من نجوم تغطياتها بل كانت من كتّابها، حيث نشر لها التابعى كثيرًا من المقالات، والتى زيلت بإمضاء «بقلم الآنسة أم كلثوم»، وكانت «الست» تكتب مقالاتها فعلًا وليس مثل نجوم كثيرين من هذا الزمان ممن اعتادوا أن يكتب الصحفى لهم ما يريدون قوله فى صيغة مقال.
علاقة التابعى وأم كلثوم على ما يبدو كانت تستعد لتأخذ منحى آخر غير الصداقة، حيث عثرت زوجة التابعى بعد وفاته بفترة كبيرة، ضمن أوراقه المهمة التى تركها وراءه، على مظروف مغلق يحمل داخله أربعة خطابات بينه وبين أم كلثوم.. فحوى الخطابات توحى بأن التابعى قد وقع فى حب أم كلثوم فعلًا.. ولكن على ما يبدو فقد فشل الأمر وانضم التابعى إلى طابور طويل على باب قلب «الست» المغلق دائمًا.
وعلى الرغم من ذلك كانت أم كلثوم هى الضيفة الدائمة على أمير الصحافة فى بيته فى الزمالك، أو فى عشته الشهيرة فى رأس البر، والتى زارها كل نجوم الأربعينيات ضيوفًا على التابعى الذى كان يقضى الصيف كاملًا فيها.
علي ومصطفى أمين.. فضل أم كلثوم على «أخبار اليوم» وأصحابها.. كبير
الأخوان أمين: «فضل أم كلثوم على أخبار اليوم»، هذا العنوان ليس من صياغتى وإنما مَنْ صاغه هو مصطفى أمين نفسه عبر شهادة للتاريخ رأى أنه لا بد من قولها فى حق أم كلثوم، نُشرت فى عدد «آخر ساعة» الخاص الصادر يوم ١٢ فبراير ١٩٧٥ بعد وفاة «الست» بأيام، ولأنه مصطفى أمين فلا مناص من أن نترك شهادته كما قالها نصًا مع اختصار بعضها لظروف المساحة، حيث قال:
«لأم كلثوم قصة هامة فى تاريخ أخبار اليوم.. إنها أول من شجعنا على إصدار أخبار اليوم.. أول من وقفت معنا.. وكانت أمنية حياتنا قيام جريدة مصرية كبيرة.. وحدث أن خاضت أخبار اليوم معركة طاحنة مع إحدى الحكومات.. صحفها تصادر كل يوم.. المظاهرات تضربها بالطوب.. مجهولون يلقون عليها القنابل والديناميت.. محرروها يوضعون فى السجون والمعتقلات.. وأصدرت الدولة أمرًا إلى الشركات والمحال التجارية بعدم نشر إعلانات فى أخبار اليوم.. وخضعت بعض الشركات للضغط.. وخافت أن تغضب الدولة فامتنعت عن نشر الإعلانات.. ووقعت أخبار اليوم فى ضائقة مالية.. وبعنا البيت الذى نملكه فى الروضة.. ولكنه لم يكف لسداد المطلوبات.. وبعنا أسهم أبى فى شركة بيع المصنوعات المصرية، وذات يوم دق جرس التليفون فى مكتبى وإذا بها أم كلثوم، وقالت إنها تريد أن تقابلنى أنا وعلى أمين فورًا فى بيتها.. فذهبنا إليها، فقالت إنها علمت أننا فى أزمة خانقة، وأن أخبار اليوم مهددة بالإفلاس، وأنها على استعداد لأن تضع كل مليم تملكه تحت تصرف أخبار اليوم.. وبهتنا!.. قلنا لها: أنت مجنونة! إن هذا المبلغ قد يضيع.
قالت: إن الذى يهمنى هو ألا تموت جريدة مصرية، فقلنا لها: إننا نشك فى أننا نستطيع أن نسدد لك هذا المبلغ قبل سنوات.. قالت: لا أريد أن تسددوه إلا بعد أن تسددوا آخر دين عليكم للآخرين، واكتفينا بمبلغ ١٨ ألف جنيه.. وأردنا أن نكتب إيصالًا باستلامنا المبلغ، فمزقته ورمته فى وجوهنا».
قد يظن البعض من حكاية مصطفى أمين أن «الست» كانت تفعل ذلك بغرض الشهرة أو البروباجندا لكن باقى الحكاية على لسان صاحبها تقول العكس، حيث يكمل شهادته:
«كنا قد سمعنا قبل ذلك ألوف القصص والأكاذيب عن بخل أم كلثوم.. ولكن أم كلثوم فعلت فى ذلك اليوم ما لم تستطعه البنوك.. وفعل هذا المبلغ فعل السحر فى أخبار اليوم.. ولكنها اشترطت علينا شرطًا واحدًا.. وهو أن نخفى هذا الأمر عن كل إنسان.. وأخفينا الأمر سنوات طويلة.. وفى شهر نوفمبر سنة ١٩٦٠ أحسست أننى لن أبقى طويلًا فى أخبار اليوم.. وأحسست أن واجبى أن أذكر أسماء الذين وقفوا بجوارنا فى أزماتنا.. وكتبت القصة فى عدد أخبار اليوم الصادر فى ١٢ نوفمبر سنة ١٩٦٠ وغضبت أم كلثوم.. وخاصمتنى وقلت لها: إننى فعلت ذلك لأنى شعرت أن أيامى معدودة فى أخبار اليوم.. وبعد أسابيع قليلة صدقت نبوءتى.. وصدر قرار بإخراجى أنا وعلى أمين من أخبار اليوم.. وبأن نلزم بيوتنا، واتصلت بى أم كلثوم وصالحتنى.. وقلت لها: إننى لا أعرف سر غضبك الشديد للنشر.. قالت ضاحكة: خشيت أن تطالب منى جريدة الأهرام سلفة هى الأخرى».
والحقيقة أن فضل أم كلثوم لم يكن على «أخبار اليوم» فقط، بل كان على مصطفى أمين نفسه بشهادته، أيضًا، فى نفس العدد، حيث كشف عن موقفين إنسانيين لـ«الست» معه هو شخصيًا أثناء سجنه الطويل؛ الأول عندما أرسلت له رسالة سرية شفهية عبر طبيب السجن؛ مفادها أنها ستغنى اليوم مقطعًا من أغنية موجهًا له، وعندما استمع مصطفى فى المساء لحفل أم كلثوم الشهرى فى راديو السجن، والتى كانت تغنى الأطلال لأول مرة، فعرف أن مقطع «أعطنى حريتى أطلق يدى» هو ما تقصده «الست»، وهو ما ترك أثرًا جارفًا فى نفسه رفع من روحه المعنوية خلف الأسوار.
والموقف الآخر الذى يحكيه أمين، عندما ذهبت ابنتاه رتيبة وصفية إليها، وطلبتا منها أن تتوسط لهما لمقابلة جيهان السادات؛ لتقديم طلب إلى الرئيس بإعادة التحقيق مع والدهما، فما كان من الست إلا أنها حصلت على الموعد فى نفس اليوم، واصطحبت الفتاتين وذهبت معهما لزوجة الرئيس التى بشرتهما بالإفراج عنه بعد المعركة، وهو ما حدث فعلًا فى يناير ١٩٧٤.
محمد حسنين هيكل.. عبدالناصر نقطة وصل بين «الست» والجورنالجى
«أم كلثوم كانت أقوى فرقة فى كتيبة قوة مصر الناعمة»، تلك الجملة التوصيف الأمثل لدور «الست» فى تاريخ هذا الوطن، صاغه وقاله الجورنالجى الأعظم محمد حسنين هيكل، وهو فى ظنى تلخيص حقيقى لما مثلته تلك السيدة العظيمة فى وجدان الأمة المصرية.
علاقة هيكل بأم كلثوم بالطبع جاءت متأخرة كثيرًا عن التابعى ومصطفى أمين بحكم أسبقية العمل بالمهنة بطبيعة الحال، لكن أيضًا هناك عاملًا آخر جوهريًا جمع بين هيكل و«الست» اسمه جمال عبدالناصر، العاشق الأول لصوت أم كلثوم.
«الست» كانت لجمال عبدالناصر رئيس الدولة أكبر من مجرد مطربة مصرية كبيرة المقام، بل كانت سلاحًا حقيقيًا من أسلحة الثورة منذ ولادتها؛ لذلك كان طبيعيًا أن يكون هيكل على مسافة قريبة جدًا من أم كلثوم من أول لحظة.
هذه التفصيلة المهمة كانت هى الأساس التى بنيت عليه العلاقة بين الصحفى الأهم والمطربة الأعظم.. سرعان ما تحولت علاقة الإكبار والتبجيل والاحترام المتبادل إلى صداقة حقيقية بين ثومة وهيكل، ظهرت كثيرًا مدى حميميتها فى تعبيرات الوجوه فى الصور المتداولة وتجمعهما سويًا، خاصة تلك التى التقطت فى زياراتها المتكررة إلى معقل هيكل وموطنه الأصلى «الأهرام».
فى عام ٦٧ بعد النكسة، وبينما كانت أم كلثوم تقوم بدورها العظيم فى دعم المجهود الحربى عبر حفلاتها المكوكية، نشرت مجلة «آخر ساعة» حوارًا عميقًا مع محمد حسنين هيكل، الذى لم يكن مجرد صحفى فى تلك اللحظة، بل كان مشاركًا فى القرار السياسى كما يعلم الجميع؛ لذلك لم تكن المفاجأة فى المحاور- بفتح الواو- بل كان فى المحاور- بكسر الواو- أو مجرية الحوار التى كانت «الست» أم كلثوم بنفسها هى من وقفت موقف الصحفى المتسائل، ووقف هيكل موقف المصدر المجيب.
الحوار كان إذاعيًا فى الأساس للبرنامج العام، وسجلته «آخر ساعة» كانفراد صحفى لها، ولو تأملنا أسئلة أم كلثوم ستجدها أسئلة واعية وصحفية بامتياز، حيث قالت فى بدايته بالنص: «قبل أن أبدأ حديثى أحب أقول إن الصحافة اعتادت دائمًا أن تضعنى فى موقع الجواب وتوجه إلىّ الأسئلة، ولكننى هذه المرة أغير موقعى وأوجه الأسئلة إلى الصحافة».
فى البداية سألت أم كلثوم عن دور الأمم المتحدة تجاه القضايا العربية، فأجابها هيكل بأن فاعلية الأمم المتحدة لا تزيد على الفاعلية الأدبية والسياسية والقانونية فى قضايانا أو قضايا غيرنا من الشعوب، وأكد أن علينا وعلى غيرنا من الشعوب أن نحوّل قضايانا إلى حق له احترامه بالنضال، فإذا كنا سنناضل أدبيًا معتمدين على الحق الأدبى والحق القانونى، فلن نصل إلى أى شىء، والأمر كله يرجع إلى سؤال: نستطيع نقاوم قد إيه؟ ونحارب قد إيه؟
ولم تترك المحاورة الذكية الإجابة تمر دون أن تناقش وتطلب تفسيرًا أكثر، حيث قالت إن الأمم المتحدة لم تفعل شيئًا فى مشكلة اللاجئين، وأبدت دهشتها من أن تكون هناك دولة أو دولتان تتحكمان فى مصير الشعوب، وتساءلت: أليست هناك نهاية لهذا الوضع؟
فقال هيكل: إن هذا الوضع كان موجودًا تقريبًا فى كل فترات التاريخ، وكانت هناك دولة أو إمبراطورية مسيطرة بشكل ما، ولقد رأينا فى التاريخ «السلام الرومانى» يعنى فرض الأمر الواقع للإمبراطورية البريطانية، الآن إحنا موجودون فى عصر فيه دولتان قويتان، لكن هذا العصر بيدى فرصة الحركة للدول الصغيرة عن العصور السابقة، حقيقى إن القوة موجودة عند طرفين فقط، ولكن الطرفين ليس فيهما طرف واحد له الحرية المطلقة فى استعمال قوته؛ لأن القوة الذرية من القوى التى لا يمكن استعمالها بسهولة، وهذا الوضع أعطى المزيد من حرية الحركة للشعوب الصغيرة.
الطريف أن هيكل فى هذا الحوار لم يتحمل كثيرًا أن يظل فى مكان غير مكانه المعتاد، فبادر أم كلثوم فى نهاية الحوار، قائلًا: «طيب تسمحيلى أن أمارس الدور الطبيعى وأعود إلى موقع الصحفى وأسألك: كيف استطعت إلغاء الفارق بين السياسة والفن؟». رد أم كلثوم كان واعيًا ومدركًا لدورها تمامًا، حيث قالت: «فى رأيى الفن والسياسة توءمان، يعنى مثلًا لما مصر أرسلت آثار توت عنخ آمون إلى باريس كان ده عمل سياسى وعمل فنى أيضًا، بمعنى أن الفرنسيين رأوا حضارتنا، وتبادلنا معهم الثقافة فى نفس الوقت، وهذه هى السياسة»، فعقب عليها هيكل قائلًا: «هذا المثال جزء صادق من الجواب عن السؤال، وأنا باعتبر إن السياسة بتستعمل الفن، زى ما السياسة بتستعمل الاقتصاد وأشياء أخرى، لكن إنتِ عملتى حاجة تانية غير كده.. أقصد عملتِ توافق بين العمل السياسى والعمل الفنى.. إزاى؟».
أجابته أم كلثوم بمنتهى التواضع: «لا.. أبدًا ليس لى دور سياسى، لكن يمكن أنا أقوم بدور مواطنة مصرية بتحب بلدها جدًا وبصدق، وبتعبر عن هذا الحب والصدق من خلال فنها»، أمَّنَ هيكل على كلامها وانتهى الحوار الصحفى الجميل، الذى رأينا فيه أم كلثوم تمارس مهنة الصحافة بحذافيرها كأفضل محاور صحفى.
أنيس منصور.. أهديت أم كلثوم مصورًا «عفريت» اسمه فاروق إبراهيم
دائمًا ما يملك أنيس منصور حكاياته الشخصية مع النجوم.. دائمًا لديه تفاصيل مشتركة بينه وبينهم حتى لو شكك البعض فى قليل من رواياته، مثل حكايته الشهيرة عن تذكرة الموت التى أعطاها لكاميليا فى الطائرة المنكوبة أغسطس ١٩٥٠ واحترقت بدلًا منه، لكن تبقى أهمية التجربة الإنسانية التى عاشها أنيس منصور بزخمها وتفاصيلها.. وهو الصحفى اللامع الموهوب الذى امتلك نواصى الكلمة وصار من كبار مهنة الصحافة منذ الخمسينيات.
انضم أنيس سريعًا إلى الدائرة القريبة من «الست»، وأصبح من المدعوين إلى دوارها أو فيلا الزمالك التى تحولت بعد وفاتها إلى برج قبيح يخرج لنا لسانه؛ لذلك كان طبيعيًا أن يكون أنيس منصور صاحب أبلغ عنوان نزل فى الصحف بعد صدمة وفاة «الست» يوم ٣ فبراير ١٩٧٥، حيث كان غلاف «آخر ساعة» عنوانًا وحيدًا على صورة «الست» من ٤ كلمات «الموت لا يُطفئ الشمس».
أما فى العدد التالى لـ«آخر ساعة»، فقد امتلك أنيس وقتًا كافيًا ليفرغ قليلًا ما فى جعبته من حكايات عن «الست» لحوار لم يستأذنها فى نشره، كما قال، وقالت فيه آراءها بصراحة فى بعض الأصوات الموجودة على الساحة، وطلبت من أنيس عدم نشر رأيها هذا حتى لا يُغضب زملاءها والاكتفاء بنشر باقى الحوار.. لكن أنيس الصحفى نشر الحوار كاملًا فى هذا العدد، لأنه رأى أن الحرج انتفى بموت «الست» جسديًا، لكن من حق الناس أن تعرف رأيها مجردًا.
ما يهمنا فى هذا الموضوع الحكاية التى حكاها أنيس فى آخر استرساله البديع، حيث يحكى كيف انضم فاروق إبراهيم، صاحب أهم تاريخ مصور لأم كلثوم، إلى جيش «الست» الصحفى، حيث يقول أنيس بالنص:
«فى يوم من الأيام طلبتنى أم كلثوم وقالت لى أريد منك خدمة
أى شىء
أريد عفريتًا
الدنيا مليئة بالعفاريت
عفريت مصور هذا هو الذى أريده فورًا».
يكمل أنيس حكايته، قائلًا: «وكان العفريت المطلوب هو مصور شاب ممتاز ممتاز يرافق أم كلثوم فى رحلاتها الفنية.. ووجدت العفريت وطلبت إلى فاروق إبراهيم أن يذهب إلى أم كلثوم لأنها تريده.. لكن فاروق ذهب إلى الإسكندرية ليشاهد إحدى حفلاتها، ولعبت الكاميرا فى يده والتقط لها عدة صور أعجبت بها أم كلثوم».
وطبقًا لرواية أنيس أنها سألته عن المصور البارع الذى التقط هذه الصور، فقال لها: «مصور بارع اسمه فاروق إبراهيم شاب عفريت، وسوف يكون شيئًا مهمًا إذا عرفتيه وشجعتيه، وكلمة واحدة منك ترفعه من الأرض إلى السماء، ضحكت أم كلثوم وقالت أنا هرفعه فوق والباقى عليه هو بقى».
وقد كان، وصار فاروق إبراهيم صاحب العدسة الصحفية الأهم فى تاريخ الصحافة بصور أم كلثوم، وغيرها من عظماء هذا الوطن الذى وثقوا فى نظرته، كما وثقت فيه السيدة الأهم فى تاريخ مصر.. أم كلثوم.