«حصاد الكتب»| الذكاء الاصطناعى يقتحم عالم التأليف.. وأزمة الورق تنعش «أبلكيشن» القراءة
تحولات ثقافية عالمية وأخرى سياسية واقتصادية ألقت بظلالها على وضع الكتاب على المستويين العالمى والعربى خلال عام ٢٠٢٣، الذى يطوى أوراقه الأخيرة.
وبينما كانت بعض الأحداث العالمية ذا أثر محدود على العالم العربى، فإن قضايا أخرى عالمية وعربية قادت إلى تحولات بسوق الكتاب العربية عامة والمصرية على وجه التحديد، وأثارت مناقشات تمس الكُتّاب والمبدعين العرب مثلما أثارت قلق الكُتاب الغربيين على مدار العام.
القضية الكبرى التى احتلت جانبًا واسعًا من مناقشات المبدعين والفلاسفة كانت التطورات الأخيرة التى شهدها الذكاء الاصطناعى، والتى صار معها مهددًا حقيقيًا للإبداع البشرى فى مجالات مختلفة، منها التصميم والكتابة والتحرير الأدبى وغير ذلك.
اختلفت التطورات فى مجال الذكاء الاصطناعى عن التغيرات التى شهدتها السنوات السابقة، ففيما مضى لم تهدد التكنولوجيا بشكل واضح البنى الاجتماعية والسياسية، ولم تكن على تلك الدرجة من التطور المتسارع الذى صارت معه قدرة بعض النماذج التوليدية على إنشاء نص متماسك هائلة، بعد تدريبها على كميات كبيرة من البيانات النصية، فصار بإمكانها إنتاج المقالات والقصص والقصائد، إلى حد صار متعذرًا معه فى بعض الأحيان تمييزها عن المحتوى الذى ينشئه الإنسان، بما يقود إلى التساؤل عما إذا كان عالم الإبداع الذى كان يُعتقد سابقًا أنه سمة إنسانية مميزة أصبح الآن فى متناول الذكاء الاصطناعى؟
أثار القلق من هذا التقدم التقنى قلق المصممين والكتّاب والمبدعين بشتى المجالات إلى حد شهدت فيه الساحات الغربية احتجاجات مطالبة بحماية حقوق الملكية الفكرية، بعد أن صارت أعمالهم متاحة ضمن البيانات النصية التى تتدرب عليها النماذج التوليدية دون أى مقابل، وهو ما يهدد بإنتاج تقنى شبيه بأعمالهم يضع جهدهم البشرى فى مهب الريح.
أثارت تلك النقاشات قلقًا على المستوى العربى، فانبرى كُتاب عرب نحو ترجمة الكتابات الفلسفية التى تناقش تهديدات الذكاء الاصطناعى ليس فقط للإبداع البشرى وإنما للوجود الإنسانى نفسه، وكان كتاب «عصر الذكاء الاصطناعى ومستقبلنا البشرى»، الصادر بترجمة عربية عن دار «التنوير»، لمؤلفيه؛ هنرى كيسنجر وإريك شميت ودانييل هوتنلوشر، من أبرز الأعمال المترجمة خلال العام فى هذا الصدد.
وبينما كانت منصات الكتب الإلكترونية الشهيرة مثل «أمازون» تزخر بالكتب التى أنشأها الذكاء الاصطناعى، إلى حد وصل مع أحد كتاب الخيال العلمى لنشر ما يقرب من مائة كتاب خلال عام بمساعدة أدوات الذكاء الاصطناعى، فقد حاول بعض الكتاب العرب تجربة الكتابة بالذكاء الاصطناعى، فخرجت رواية «خيانة فى المغرب» التى أنشأها الكاتب أحمد لطفى بمساعدة «تشات جى بى تى» عن «دار كتوبيا»، وكذلك رواية «ماذا لو أخطأ شامبليون»، من إعداد الروائى محمد عبدالله حمودة بمساعدة روبوت المحادثة ذاته، وهو ما نقل الجدل حول مصير الإبداع البشرى إلى الساحة العربية، وإن لم يكن بالزخم ذاته.
بينما تتشدق دول الغرب بالديمقراطية وحرية التعبير، كان تصاعد الجدل خلال العام فى كل من بريطانيا وكندا وأمريكا ضد حظر الكتب أو إجراءات تعديلها وتقديمها فى نسخ منقحة متصدرًا المشهد الثقافى، الذى جعل المراقبين فى حالة من القلق المتزايد مع كل أزمة تستجد فى هذا الصدد.
فى بريطانيا، بدأ الجدل مع إعلان دار نشر أعمال رولد دال، كاتب الأطفال الشهير، عن عزمها إجراء تعديلات على أعماله المنشورة لإزالة اللغة العنصرية التى تتضمن وصف شخصية ما بكونها «بدينة»، أو «سوداء» أو «قبيحة» والاكتفاء بتوصيفات أكثر حيادية، ثم إعلان آخر لإحدى دور النشر عن عزمها تعديل ما أطلقت عليه اللغة العنصرية والإيحاءات الجنسية فى سلسلة «جيمس بوند» لإيان فليمنج، وإعلان آخر عن إخضاع أعمال كاتبة الغموض والجريمة أجاثا كريستى للتحرير والتعديل.
فى أمريكا اتخذت الحرب ضد حرية التعبير منحى مغايرًا، إذ وصل حظر الكتب خلال العام إلى مستوى غير مسبوق، فحُظِرت أعمال كلاسيكية مثل «العيون الأكثر زرقة» لتونى موريسون، وأخرى حديثة مثل «حكاية الجارية» لمارجريت أتوود.
كانت تلك التوجهات مثار قلق الكثير من المبدعين والمثقفين فى الغرب، الذين رأوا فيما يحدث تعصبًا أعمى وتقييدًا متزايدًا لحرية التعبير فى الغرب. وما بين المقاومة والرضوخ كانت تلك الحالة مدعاة لأن يطلق البعض على العام المنصرم «عام حظر الكتب».
أزمة كبرى لحقت بصناعة النشر عالميًا فى العام المنصرم جراء تردى الأوضاع الاقتصادية عالميًا، وارتفاع أسعار الورق، إذ بدأ العام وقبيل انعقاد الدورة الماضية من معرض القاهرة الدولى للكتاب وسط تخوفات من ارتفاع أسعار الكتب وعجز معظم القراء عن تحملها، بعد ارتفاع أسعار الورق والمواد الخام الخاصة بالطباعة، والتأثر بالظروف الاقتصادية المحلية والعالمية، فى وقت كان ناشرون يعبرون عن تخوفاتهم من إمكانية ارتفاع أسعار الكتب بمعدل الضعف تقريبًا، نظرًا لارتفاع سعر طن الورق خلال ثلاثة أشهر إلى ما يقرب من ثلاثة أضعاف تقريبًا، وهى الأزمة التى حضرت على مستوى العالم خلال العام بأشكال مختلفة.
وبينما قادت الأزمة إلى ارتفاع أسعار الكتب بشكل كبير خلال العام، وإحجام بعض الناشرين عن نشر المزيد من الأعمال أو إصدار عدد أكبر من الطبعات، فإنها أوجدت حلولًا بديلة نجحت فى أن تجد لها مكانًا لدى القراء العرب، الذين اتجهت شريحة غير قليلة منهم نحو الإصدارات الإلكترونية من الكتب الورقية باهظة الثمن، كما دفعت الناشرين لتجربة النشر الإلكترونى جنبًا إلى النشر الورقى، وهى التجربة التى من المنتظر أن تشهد توسعًا وانتشارًا أكبر فى الأعوام المقبلة.
بعد أن اندلعت الحرب الإسرائيلية على غزة منذ شهر أكتوبر الماضى، ومع استمرار القصف العدوانى الذى قاد إلى دمار شامل بالقطاع، كان الوضع الإنسانى المزرى للفلسطينيين سببًا فى إعادة كتب قديمة عن القضية الفلسطينية إلى الواجهة وبروز كتب جديدة من رحم المعاناة والأزمة، فيما بزغت كتابات أخرى جراء محاولات التعتيم على أصحابها فى خضم المعركة المشتعلة.
فى هذا الصدد، بزغت رواية «تفصيل ثانوى» للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلى، التى أُعلن عن فوزها بجائزة فى معرض فرانكفورت الدولى للكتاب، ثم خرجت جمعية LitProm التى سبق ووعدت بالجائزة لتعلن عن قرار إلغاء حفل توزيع الجوائز، مبررة ذلك بأنه «لا أحد يشعر برغبة فى الاحتفال بالوقت الحالى»، إلا أن تصريحات مدير معرض فرانكفورت كشفت عن التحيز ضد الكاتبة وأعمالها حين أعلن إدانته للإرهاب الذى تمارسه حماس ضد إسرائيل، وأن المعرض يرغب فى إبراز الأصوات الإسرائيلية بشكل خاص.
أثار هذا الموقف الجدل ضد معرض فرانكفورت ومديره، فثار أدباء وناشرون من مختلف أنحاء العالم ضد محاولات إسكات الأصوات الفلسطينية، كما أعلن ناشرون عرب انسحابهم من المعرض، غير أن ذلك الجدل كان سببًا فى عودة رواج الرواية من جديد، إذ أعلنت دار الآداب بالتعاون مع مكتبة تنمية عن إصدار طبعة مصرية جديدة من رواية «تفصيل ثانوى»، كما نُشرت الرواية على المنصات الإلكترونية وحظت بمقروئية وانتشار كبيرين.
لم تكن رواية عدنية شبلى هى الوحيدة التى أزالت الأحداث الدامية التراب عنها، فكتاب «عشر خرافات عن إسرائيل» للمؤلف إيلان بابيه قد عاد إلى الواجهة بعد أعوام من نشر نسخته العربية باعتباره أحد أبرز الكتب الكاشفة للأكاذيب الصهيونية، بين الماضى والحاضر والمستقبل، تلك الأكاذيب التى تتكرر فى خطابات النخب السياسية والإعلامية والعسكرية للتلاعب بالرأى العام ولترسيخ الأباطيل.
يتقصى الكتاب نشأة الحركة الصهيونية على جملة من الأكاذيب، منها أن فلسطين كانت أرضًا خالية، وأن اليهود كانوا شعبًا بلا أرض، وأن الصهيونية لم تكن حركة استعمارية، وغير ذلك من الأكاذيب، كما أنه يتطرق إلى المستقبل والحلول التى يراها للأزمة.
وبعيدًا عن الروايات والكتب التى أعيد تداولها على نطاق أوسع لارتباطها بالقضية الفلسطينية، والتى تضم أعمال غسان كنفانى وإبراهيم نصر الله ووليد سيف وسحر خليفة وغيرهم، فقد ولد كتاب شعرى جديد فى أتون تلك الأزمة، وهو كتاب «ما قالته غزة: قصائد وشهادات منها وعنها وإليها»، الصادر عن «دار ميريت»، والذى شارك فيه عدد من الشعراء والكتاب العرب والمصريين ومنهم خالد جمعة، زين العابدين فؤاد، أحمد دومة، مصطفى التركى، تامر عبدالحميد، حافظ محفوظ، فتحى عبدالسميع، غادة نبيل، صلاح اللقانى، ياسر الزيات، أحمد المريخى.
فى تقديم الكتاب، أشار الباحث نبيل عبدالفتاح إلى أن الكتاب يضم مختارات وشهادات أبدعها الكُتّاب فى ظل الجحيم والنيران والموت والألم، لتغدو تعبيرًا عن أهوالها، وجسارة الإنسان الفلسطينى العادى المقاوم للاقتلاع، وأيضًا للتعبير عن بدء لحظة يقظة نسبية للعروبة من بعض الشعراء والكتاب والشعوب العربية.
استطرد عبدالفتاح فى تقديمه للكتاب بقوله: «إن قصائد وشهادات هذا الكتاب- والأحرى ديوان طائر الفينيق الفلسطينى المقاوم الشجاع- هى لغة اللحظة والحدث المقاوم المعمد بالدم وجروح الروح الشاعرة وألم اللحظة ومقاومة النسيان. نحن أمام نبل القصيدة فى مواجهة الوحشية والغطرسة والاستعلاء العنصرى، الطالعة من صلابة وعمق وإرادة المقاومة الباسلة للعدوان».
على الرغم مما يثار عن تراجع معدلات القراءة فى العالم العربى، والذى يحمل بالضرورة وجهًا من الحقيقة، فإن جانبًا آخر يتعلق بالموضوع قد أُثير خلال العام المنصرم بعد أن أعلنت إحدى منصات النشر الرقمى عن مسابقة يفوز بها الأقدر على قراءة الكم الأكبر من الكتب بهدف تشجيع القراءة، لتظهر نتيجة المسابقة أن الفائزة بالمركز الأول قد أعلنت عن قراءتها لمتوسط ٤٠ كتابًا فى اليوم خلال فترة المسابقة، وهو ما أثار السخرية واللغط، لكنه على الجانب الآخر كشف عن أن «الكيف» فى قضية معدلات القراءة يحتاج أيضًا إلى النظر والدراسة، فالكتب الأكثر رواجًا التى تقدم كتابة يسيرة «سريعة الهضم»، والتى يقضى قراؤها سنوات من أعمارهم فى قراءتها ظنًا بأنها تقدم لهم ثقافة حقيقية قضية تستحق التوقف أمامها بعيدًا عن اللغط اللحظى.
من جهة أخرى، أثير الجدل حول إشكاليات الترجمة مع صدور ترجمة جديدة لرواية إرنست همنجواى الشهيرة «العجوز والبحر» بالعامية المصرية، ثم صدور ترجمة لرواية «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل بعنوان «عزبة البهايم»، ومع أن هذين العملين ليسا الوحيدين المترجمين بالعامية، فقد أعادا إثارة الجدل فى صفوف المثقفين الذين رفض معظمهم الاعتماد على العامية فى الترجمة، لكونها متغيرة وغير مستقرة ولتعددها بتعدد اللهجات. ذلك الجدل كان سببًا فى توسيع رقعة المناقشات حول وضع الترجمة الذى صار يعانى أكثر فأكثر من الفوضى وعدم المنهجية.
استمرارًا للأثر الذى تحدثه الجوائز الثقافية فى المشهد الثقافى العربى، شهد عام ٢٠٢٣ زخمًا شكّلته حركة الجوائز الأدبية العربية، فبينما شهدت الأشهر الأولى من العام صعودًا لرواية «أيام الشمس المشرقة» للكاتبة المصرية ميرال الطحاوى إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة إعلاميًا باسم «البوكر»، فإن الشهر الأخير من العام المنصرم شهد وصول روايتين من مصر لقائمة الجائزة الطويلة للعام الجديد ٢٠٢٤، وهما «كل يوم تقريبًا» لمحمد عبدالنبى، الصادرة عن «مركز المحروسة للنشر»، و«مقامرة على شرف الليدى ميتسى» لأحمد المرسى، الصادرة عن «دار دوِّن للنشر والتوزيع».
وبعيدًا عن منافسات الجائزة الأكثر شهرة، والتى ربما صار لها دور فى تحديد مسارات الكتابة والتوجهات الأكثر ذيوعًا فى الكتابة الروائية، فإن جوائز أخرى كان الحضور المصرى بها مؤثرًا ومنها جائزة «كتارا»، التى شهدت فى دورتها التاسعة لعام ٢٠٢٣ فوز ٦ كتّاب من مصر، هم أشرف العشماوى عن روايته «الجمعية السرية للمواطنين»، ورشا عدلى عن روايتها «أنت تشرق أنت تضىء»، ورامى رأفت عن رواية غير منشورة بعنوان «كومالا ابن النار.. ورحلتهُ فى ممالك الجبَّارين»، وأحمد طوسون عن رواية للفتيان بعنوان «بائع المناديل»، وفى فرع الدراسات النقدية فاز كل من محمد زيدان عن كتاب «بلاغة النص الروائى المعاصر»، ونهلة راحيل عن دراستها «هُويّات تتصالح، تقاطعية النوع والعرق فى السيرة الذاتية النسوية».
ومن الجوائز المصرية البارزة، يمكن الحديث عن جائزة نجيب محفوظ التابعة للمجلس الأعلى للثقافة فى مصر، والتى فاز بها هذا العام الروائى إبراهيم فرغلى عن روايته «قارئة القطار»، وكذلك جوائز الدولة التى شهدت تتويجًا لأسماء راسخة فى الثقافة المصرية، إذ فاز بجائزة النيل لهذا العام المترجم والأديب محمد عنانى فى مجال الآداب، وفى مجال العلوم الاجتماعية توج الدكتور علىّ الدين هلال.
أيضًا، فقد فاز بجائزة الدولة التقديرية كل من اسم الراحل الدكتور عبدالرحيم الكردى، أستاذ النقد العربى الحديث، والروائية هالة البدرى، وأستاذ النقد الأدبى أحمد يوسف، فيما فاز بمجال العلوم الاجتماعية المستشار عبدالمجيد محمود، والسيد فليفل، وحسن السعدى، وصلاح سالم.
وتظل نوبل للآداب هى حدث العام الأبرز، والتى فاز بها هذا العام الكاتب النرويجى يون فوسه، فبعد جدل محتدم وتوقعات متضاربة حول المستحق للفوز بالجائزة الأهم عالميًا وعقب تجدد الجدل حول إمكانية فوز اسم عربى بالجائزة، جاء «فوسه» ليوقف سيل التوقعات، غير أن الجدل حول عدالة الاختيار لم يتوقف وسط تشككات لدى مثقفين من جنوح لجنة نوبل نحو أدب لا يعانق القضايا والإشكاليات الكبرى التى يكتوى العالم بنيرانها، لا سيما وأن السنوات الأخيرة قد تثبت تلك الفكرة، إذ فاز بالجائزة كاتب الأغانى بوب ديلان قبل سنوات قليلة، وفى العام الماضى كانت الجائزة من نصيب الكاتبة الفرنسية آنى إرنو، التى تعكس كتاباتها سيرتها الذاتية إلى حد كبير.