المرحلة الثالثة.. كيف تتحرك إسرائيل فى حرب غزة خلال الأيام المقبلة؟
بعد ٨٠ يومًا مرت منذ بدء العدوان الذى شنته إسرائيل على قطاع غزة وحركة «حماس» الفلسطينية، بدأت الحرب تدخل مرحلة جديدة بالنسبة لإسرائيل.
ورغم كل المزاعم التى تتحدث عن إنجازات يحققها جيش الاحتلال فى غزة، فإن الهدف الأول «المعلن»، وهو القضاء على «حماس» نهائيًا، لم يتم تحقيقه، كما لم تنجح حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، فى الإفراج عن المحتجزين فى القطاع، رغم الجرائم والانتهاكات التى ارتكبتها، والتى تضمنت هدم المناطق السكنية والتدمير على نطاق غير مسبوق.
وفى المرحلة المقبلة من الحرب، أو المرحلة الثالثة، من المتوقع أن تتحرك إسرائيل فى مسارات مختلفة، داخليًا وخارجيًا، وعسكريًا وسياسيًا، لمواجهة التحديات التى فرضتها تداعيات حربها على غزة، وعلى رأسها التطورات فى ساحة المعركة، وقضية المحتجزين، والحالة المعنوية للجنود، بالإضافة إلى المناوشات على الجبهة الشمالية مع تنظيم «حزب الله» اللبنانى، الأمر الذى يستدعى التحول إلى مسار سياسى يخفف من وطأة العملية العسكرية ويسمح بالخروج من متاهة «أنفاق غزة»، ويبدأ فى وضع سيناريو «اليوم التالى» للحرب.
نتنياهو يحاول تجنب حجب الثقة.. والضغط الأمريكى يمنع حربًا متعددة الجبهات
منذ بداية الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، يدرك رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، وكل الأوساط فى إسرائيل، أن عملية «طوفان الأقصى» يوم ٧ أكتوبر الماضى وما تلاها هى الفصل الأخير لحياة «نتنياهو» السياسية، كرئيس وزراء لإسرائيل، لكن فى الوقت ذاته يعلم الجميع أن خروجه من المشهد لن يكون سهلًا مطلقًا.
وبالتزامن مع إدارته الحرب، يعمل «نتنياهو» على تأخير حل الكنيست والحيلولة دون إجراء انتخابات مبكرة إلا بعد انتهاء الحرب، مع العمل أيضًا على إنهاء العملية العسكرية بصورة تثبت نجاحه وتزيد من فرص بقائه فى الحياة السياسية.
وفى سبيل ذلك، يدرك «نتنياهو» طبيعة العقبات التى تواجهه، لذا فهو لا ينتظر انتهاء الحرب للنظر فى كيفية التعامل مع اليوم التالى، لكنه يعمل طوال الفترة الماضية على احتواء أعضاء حزبه «الليكود»، وشركائه المتطرفين فى الحكومة، مثل بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، وإيتمار بن غفير، وزير الأمن القومى.
وفى ذلك الإطار، تفكر الدائرة المقربة من «نتنياهو» فى تقصير الدورة الشتوية الحالية للكنيست، بهدف منع خطوة حجب الثقة عن حكومته، الأمر الذى يمكن أن يطيح به من منصب رئيس الوزراء.
وفى حال تحقيق تلك الخطوة، فإن ذلك سيمنح وقتًا إضافيًا لـ«نتنياهو» يسمح له بالعودة بشكل أقوى عبر استطلاعات الرأى، بعد رسم «صورة النصر» فى حرب غزة، ما يقلل من فرص سحب الثقة منه.
ولكن، فى حال بدأ الكنيست مسار سحب الثقة من الحكومة الآن ونجح فى ذلك، فإنه سيكون من الواجب على أعضائه تقديم رئيس وزراء بديل، واستبدال الوزراء أنفسهم وكل تشكيلات الحكومة الحالية، وهو ما يتطلب تصويت الكنيست بأغلبية الأعضاء، بالإضافة إلى التصويت أيضًا على منح الثقة لحكومة بديلة. على جانب آخر، فإن محاولات تحويل الحرب الدائرة فى غزة إلى حرب إقليمية موسعة تواجه رفضًا أمريكيًا واضحًا، ورغم التقارير والتقديرات التى تتناقلها وسائل الإعلام الإسرائيلية حول إمكانية شن حرب كبرى ضد «حزب الله» على الحدود مع لبنان فإن التحركات العملية الجارية تشير بالأساس إلى السير نحو عملية سياسية فى المقام الأول.
وتعمل إسرائيل حاليًا مع الولايات المتحدة من أجل أن تستغل الأخيرة نفوذها فى إبعاد «حزب الله» عن الحدود، خاصةً أن واشنطن ليس لديها أى رغبة ولو قليلة فى فتح جبهة حرب فى الشمال بالتزامن مع حرب غزة فى الجنوب، لكون ذلك ينذر بتوسعة رقعة الصراع وتزايد احتمالات إقحامها فيه.
كما تسعى أمريكا إلى منع اندلاع صراع واسع فى المنطقة تشارك فيه إيران بشكل مباشر، وربما معلن، وتضع فى عين الاعتبار التهديدات التى تمثلها جماعة «الحوثى» فى اليمن، والتى قد تجر واشنطن إلى حرب لن تفيدها، بل بالأحرى ستضر بشدة بحظوظ الرئيس الحالى جو بايدن فى الانتخابات الأمريكية المقبلة. ومن الناحية العملياتية أيضًا، فإنه من الواضح أن المستوى الأمنى فى إسرائيل يفضل عدم التوجه حاليًا لحرب واسعة على الحدود الشمالية، فى ظل استمرار الحرب فى غزة، خاصةً أن الأخيرة تقترب من نهايتها.
ومن المرجح أنه فى حال لجأ أحد المستويات الإسرائيلية إلى التوجه لعملية عسكرية ضد «حزب الله»، خاصة المستوى السياسى، فإن الهدف سيكون تضخيم الترويج لتلك الحرب بينما ستكون لها أهداف محدودة على الأرض. وربما يساعد ذلك الاحتمال، غير القوى حتى الآن، على رسم «صورة النصر» المطلوبة إسرائيليًا، والتى يمكن حينها الادعاء بأن إسرائيل تمكنت من تحقيق الردع على جبهتين فى آن واحد، وأنها تختار متى تدخل الحرب ومتى وكيف تنهيها، وهو ما يساعدها على تسهيل الخروج من «حرب غزة».
تصعيد ملف المحتجزين إلى الواجهة.. والتخلى عن الأهداف غير العملية مثل القضاء على «حماس»
تمثل خطوة الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين فى قطاع غزة خطوة بالغة الأهمية بالنسبة للرأى العام فى إسرائيل، خاصةً أن مستقبل «نتنياهو» وحكومته أصبح على المحك، بعد التأخر فى إطلاق سراح هؤلاء لما يقرب من ٨٠ يومًا.
وينظر الشارع الإسرائيلى، لاسيما أسر المحتجزين، إلى تعامل «نتنياهو» مع الحرب الحالية بأنه عبارة عن «ثأر شخصى» مع قادة حركة «حماس»، بالإضافة إلى أنه بمثابة محاولة لتحصين نفسه من أى محاكمات تتناول الفشل الأمنى لحكومته فى هجمات «٧ أكتوبر»، مع الاعتقاد بأنه لا يضع سلامة أبنائهم أو عودتهم فى المرتبة الأولى لاهتماماته. وفى ظل المتغيرات الحالية، وعلى رأسها الضغط الدولى وتطورات العمليات على الأرض، من المرجح أن يغير «نتنياهو»، وقادة جيش الاحتلال، وعلى رأسهم يوآف جالانت، وزير الجيش، من موقفهم الذى يرى أن مزيدًا من الضغط العسكرى على «حماس» سيجعلها تخفف من مطالبها، الأمر الذى يؤدى إلى عودة المحتجزين بتكلفة أقل، خاصة أن ذلك التقدير أثبت عدم واقعيته خلال الفترة الماضية، كما أن استمرار الحرب لم يأتِ حتى الآن بأى نتيجة بالنسبة للمحتجزين، بل تسبب فى وقف المفاوضات الرامية لإطلاق سراحهم. وفى ذلك السياق، بدأ المستوى السياسى والأمنى فى إسرائيل إدراك حقيقة أن عودة المحتجزين هى الهدف الأسمى للحرب، ولا شىء غير ذلك، وأنه لا يمكن للحكومة التخلى عنهم أكثر، بل يجب عليها العمل على الإفراج عنهم بأى شكل وبأى تكلفة.
من ناحية أخرى، من المتوقع أن تتجه المستويات الأمنية والسياسية فى إسرائيل إلى بدء المرحلة الثالثة من الحرب الحالية فى غزة، فى ظل إدراك عدم قدرتها على تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، وأهمها القضاء على حكم حركة «حماس» داخل القطاع ووجودها بشكل نهائى. وتؤكد تقديرات فى إسرائيل أن العملية العسكرية البرية لن تحقق أهداف الحرب، حتى لو استمرت بضعة أسابيع أخرى، فلا يوجد إنجاز كبير يمكن تحقيقه، فيما يخص هزيمة «حماس» أو إطلاق سراح كل المحتجزين الإسرائيليين لديها.
وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن استمرار القتال فى الإطار الحالى لن يُحدث أى تغير ملموس، كما أن الخسائر البشرية للجنود والمحتجزين ستكون مصحوبة بشعور واسع بانعدام الهدف. وتحذر تلك التقديرات من أن عدم انشغال المستوى السياسى بتلك الحقيقة المتمثلة فى عدم القدرة على تحقيق الأهداف المعلنة يحول دون البدء فى عملية سياسية لإنهائها، ما يعنى أن استمرار القتال سيكون أسوأ على إسرائيل لكونه لن يغير من النتائج، بل سيزيد من الخطورة على حياة المحتجزين فى غزة، بالتزامن مع اشتداد الاشتباكات.
ومن المرجح، فى حال إدراك تلك الحقيقة، أن تنتقل عمليات الجيش الإسرائيلى فى غزة، لا سيما فى شمال القطاع، إلى المرحلة الثالثة من الحرب، والتى يتم خلالها العمل على فرض السيطرة ورسم خطوط استراتيجية واضحة لـ«اليوم التالى» للحرب.
العمل على تنفيذ الحزام الأمنى شمال القطاع.. وبدء التحرك نحو حل سياسى لـ«اليوم التالى»
تنادى تقديرات صادرة عن معهد الأمن القومى الإسرائيلى بالعمل على فرض السيطرة على شمال قطاع غزة، على أن تكتفى العمليات العسكرية فى المناطق الجنوبية بالغارات الجوية، مع سحب القوات البرية من هناك، وإغلاق محور فيلادلفيا الحدودى.
ويتضمن ذلك التقدير أن تعمل إسرائيل، على المستوى العملياتى، على الترويج لفكرة تنفيذ «حزام أمنى» شمال قطاع غزة، بذريعة أن سيطرتها على مناطق شمال القطاع ستضمن عدم اندلاع هجمات مستقبلية مماثلة لما حدث يوم ٧ أكتوبر.
ويكمن التحدى فى تنفيذ ذلك الحزام الأمنى فى مساحته المفترضة داخل قطاع غزة، لكونها ستمنع آلاف الفلسطينيين من العودة إلى مناطقهم التى تم تدميرها فى شمال القطاع، لأن المنطقة الأمنية ستشملها.
ورغم ذلك، فإن تنفيذ الحزام الأمنى يمكن أن يساعد إسرائيل على رسم صورة النصر الخاصة بها فى غزة، وبدء عملية سياسية، بالتزامن مع استمرار عمليات عسكرية ذات وتيرة أخف مما يجرى حاليًا، لحين التوصل إلى صيغة مناسبة حول «اليوم التالى» للحرب فى غزة.
وبالتزامن، ستعمل إسرائيل أيضًا، حسب بعض التقديرات، على الترويج لمقترح ينص على الخطوط التى ستتوقف عندها الحرب، لرسم ملامح الحزام الأمنى المفترض، على أن تنتشر قوات الجيش الإسرائيلى على تلك الخطوط، وتنسحب من أى مناطق أخرى، وذلك فى إطار صفقة موسعة، تتضمن الإفراج عن كل المحتجزين الإسرائيليين الموجودين فى قطاع غزة، مع مناقشة احتمالات خروج يحيى السنوار، قائد «حماس» فى غزة، وعدد آخر من قيادات الحركة، إلى خارج القطاع.
وتتزايد احتمالات تنفيذ تلك الصفقة الموسعة مؤخرًا، رغم تعمد مسئولين إسرائيليين التصريح، خلال الأيام القليلة الماضية، بإمكانية توسيع العمليات البرية داخل القطاع، لعدم تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، واستمرار الاشتباكات مع عناصر «حماس» دون أن تنخفض وتيرتها، خاصة أن تلك التصريحات، سواء فى مضمونها أو توقيتها المتزامن، تأتى وسط تجدد الحديث بين أطراف عدة عن مفاوضات لوقف إطلاق النار.
ومن المرجح أن يعمل الجيش الإسرائيلى، خلال الفترة التى تسبق أى اتفاق لوقف إطلاق النار، على تحقيق بعض النجاحات، وفرض ترتيبات نهائية داخل قطاع غزة، لتسهيل وجود قواته خلال المرحلة السابقة لوقف الحرب.
وفى ذلك السياق، كشفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية عن أنه من المرجح، خلال النصف الأول من شهر يناير المقبل، أن يعود جزء كبير من جنود الاحتياط لدى الجيش الإسرائيلى إلى منازلهم، مع تركيز قوات الاحتلال على البقاء فى شريط أمنى، بعرض كيلومتر واحد تقريبًا، ليفصل القطاع عن المستوطنات المحيطة به.
وبالتزامن مع ذلك، ستحاول إسرائيل الوصول إلى صفقة جديدة لتبادل الأسرى والمحتجزين، ما يتيح الانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة هدوء، تسمح بإعادة هيكلة الأوضاع الأمنية وأماكن وجود الفرق العسكرية وتمركزاتها.
وأكدت الصحيفة الإسرائيلية أن التقديرات الحالية توضح أن الأهداف التى وضعها المستوى السياسى أمام الجيش الإسرائيلى فى بدء الحرب كانت بعيدة المنال، مضيفة: «منذ اليوم الأول، كان الهدف هو التصفية والإبادة والدمار، وهى مجرد أمنيات، خاصة عندما يتعلق الأمر بنوع الضربة التى تلقيناها فى ٧ أكتوبر».
وتابعت: «التمنى ليس خطة عسكرية، وليس استراتيجية، بل إن التوقعات المفرطة تثير خيبة الأمل، وسيكون ذلك مؤلمًا بشكل خاص فى صفوف القوات المقاتلة، وعلى النقيض من ذلك، سيكون أيضًا مؤلمًا فى صفوف العناصر اليمينية المتطرفة، التى كانت تأمل فى حرب متعددة الجبهات، تؤدى إلى تهجير ملايين الفلسطينيين، وتجدد الصراع، وعودة الاستيطان فى قطاع غزة».