انسحاب إسرائيل من غزة.. القرار الصحيح لنتنياهو
بالرغم من معرفتي المُسبقة بانحياز الكاتب، توماس فريدمان، الأعمى لإسرائيل، ودفاعه المستميت عنها وتبرير كل أخطائها، إلا أنني وجدت نفسي مشدودًا لهذا المقال الذي نشره مؤخرًا في صحيفة The New York Times، والذي ينصح فيه إسرائيل بضرورة انسحابها الفوري من غزة، مع ما يمكن أن تُفسره الغالبية على أنه هزيمة لتل أبيب.. هذه النصيحة لا يُوردها فريدمان من أجل عيون حماس والفلسطينيين، ولا تعاطفًا مع الشهداء الذين تساقطوا، ولا يزالون بالآلاف، ولكنه حرصًا على مستقبل الدولة العبرية.. وهو هنا يبدأ النصيحة بأن الانتقام لا يؤدي إلا إلى خسارة المنتقم، سواءً بسواء مع المُنتَقم منه.. يقول: بينما تناقش إسرائيل ما يجب القيام به بعد ذلك في غزة، آمل أن تفكر القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية في القول المأثور، الذي غالبًا ما ينسب إلى الرجل الحكيم كونفوشيوس، (قبل أن تُشرِع في رحلة انتقامك، احفر قبرين.. أحدهما لعدوك والآخر لنفسك).. السبب الذي جعلني حذرًا جدًا من غزو إسرائيل لغزة، بهدف القضاء التام على حماس، لم يكن بالتأكيد بسبب أي تعاطف مع حماس، بل كان بدافع القلق العميق من أن إسرائيل تتصرف بدافع الغضب الأعمى، وتهدف إلى تحقيق هدف بعيد المنال ـ محو حماس من على وجه الأرض ـ وبدون خطة يمكن تنفيذها في الصباح التالي.. وبذلك، يمكن لإسرائيل أن تتعثر في غزة إلى الأبد، وترث كل مشاكلها، وتضطر إلى حكم أكثر من مليوني شخص وسط أزمة إنسانية.. والأسوأ من ذلك، تشويه سمعة الجيش الإسرائيلي نفسه الذي كانت تل أبيب تحاول استعادة ثقة الإسرائيليين فيه.
يسوق فريدمان مقارنة بين ما تُقدِم عليه إسرائيل الآن في غزة، وما قامت به الولايات المتحدة في أعقاب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك.. وتساءل عما كان يتمنى أن يفعله، قبل أن تشن واشنطن حربين انتقاميتين وتحوليتين في أفغانستان والعراق، دفعت ثمنًا باهظًا لهما؟.
ويجيب بأنه كان يتمنى لو ناقش ما تسميه وكالة المخابرات المركزية (الخلية الحمراء) أو (الفريق الأحمر)، وهي مجموعة من ضباط المخابرات، خارج سلسلة القيادة العسكرية أو السياسية المباشرة، مهمتها الرئيسية فحص خطط وأهداف الحرب في العراق وأفغانستان، واختبارها من خلال اقتراح بدائل متناقضة لأهداف قابلة للتحقيق، لاستعادة الأمن والردع الأمريكيين.. وأن يتم نشر توصيات الفريق الأحمر قبل أن الذهاب إلى الحرب.. إن دور الخلية الحمراء (كان مساعدة الحكومة الأمريكية على اتخاذ القرارات بعيون مفتوحة على مصراعيها وشراء المخاطر، وليس القضاء عليها.. إنها ليست علامة ضعف لاتخاذ قرارات مستنيرة تمامًا، وأعتقد أن الخلية الحمراء أداة رائعة لتقييم الخيارات البديلة، والتأثيرات المحتملة من الدرجة الثانية والثالثة.. ويجب أن يكون قادة إسرائيل مُتعقلين وليسوا متحمسين فقط في هذه اللحظة من الزمن)، كما قال له مسئول استخباراتي أمريكي كبير متقاعد.
لذلك، يقول فريدمان أقترح على إسرائيل إنشاء، ليس فقط فريق أحمر لكيفية التعامل مع حماس في غزة، ولكن أيضًا فريق أزرق لنقد الفريق الأحمر.. تحتاج إسرائيل إلى نقاش داخلي أكثر قوة، لأنها اندفعت إلى حرب ذات أهداف متناقضة متعددة.. هدف إسرائيل المُعلن هو استعادة جميع رهائنها المتبقين ـ الآن أكثر من 130 جنديًا ومدنيًا ـ مع تدمير حماس وبنيتها التحتية مرة واحدة وإلى الأبد، بطريقة لا تسبب خسائر في صفوف المدنيين في غزة أكثر مما يمكن لإدارة بايدن الدفاع عنه، ودون ترك إسرائيل مسئولة عن غزة إلى الأبد، والاضطرار إلى دفع فواتير ذلك كل يوم.. هذا ما قد يشير به الفريق الأحمر الإسرائيلي ويدافع عنه.
فبادئ ذي بدء، لأن الجيش ومجلس الوزراء اندفعا إلى غزة في هذه الحرب، ويبدو أنهما لم يخططا أبدًا لأي نهاية.. تجد إسرائيل نفسها الآن في مأزق صعب.. لقد دفعت أكثر من مليون مدني من شمال غزة إلى الجنوب، حيث حاولت القضاء على جميع مقاتلي حماس في مدينة غزة وضواحيها.. ولكن الآن، فإن الطريقة الوحيدة التي يمكن لإسرائيل من خلالها نقل الحرب البرية إلى جنوب غزة ـ حول خان يونس، حيث تعتقد أن القيادة العليا لحماس تختبئ في الأنفاق ـ هي من خلال التحرك عبر هذه الكتلة من النازحين وخلق المزيد.. في مواجهة هذا المأزق، يقترح الفريق الأحمر الإسرائيلي بديلًا جذريًا: يجب على إسرائيل أن تدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار، يتبعه انسحاب إسرائيلي فوري لجميع القوات العسكرية في غزة، بشرط أن تُعيد حماس جميع الرهائن، مدنيين وعسكريين.. لكن حماس لن تحصل على سجناء فلسطينيين في المقابل.. مجرد صفقة نظيفة.. انسحاب إسرائيلي ووقف دائم لإطلاق النار، مقابل أكثر من 130 رهينة إسرائيلية.
وإذا سألت: ما هي مزايا مثل هذه الاستراتيجية بالنسبة لإسرائيل؟.. سيذكر الفريق الأحمر خمسة منها.. أولا، قد تجادل بأن كل الضغوط من أجل وقف إطلاق النار، لتجنيب المدنيين في غزة المزيد من الموت والدمار ستقع على عاتق حماس، وليس على إسرائيل.. دعوا حماس تقول لشعبها الذي يعيش في البرد والمطر ـ والعالم ـ إنها لن توافق على وقف إطلاق النار مقابل هذا الثمن الإنساني، المتمثل في إعادة جميع الرهائن الإسرائيليين.. علاوة على ذلك، كانت إسرائيل ستضمن عدم حصول حماس على انتصار سياسي كبير من هذه الحرب، مثل إجبار إسرائيل على إطلاق سراح أكثر من ستة آلاف فلسطيني في سجونها، مقابل الرهائن الذين تحتجزهم حماس.. لا، لا، سيكون مجرد اتفاق نظيف: وقف دائم لإطلاق النار مقابل الرهائن الإسرائيليين.. ودعونا نرى حماس ترفضها، وتعلن أنها تريد الحرب.
ثانيا، قد يشتكي البعض، وربما الكثيرون، في إسرائيل من أن الجيش لم يحقق هدفه المُعلن، المتمثل في القضاء على حماس، وبالتالي كان انتصارًا لحماس.. سيجيب الفريق الأحمر بأن الهدف غير واقعي بادئ ذي بدء، خصوصًا مع عدم رغبة الحكومة الإسرائيلية اليمينية في العمل مع السلطة الفلسطينية الأكثر اعتدالًا في الضفة الغربية، لبناء بديل لحماس لإدارة غزة.. ما ستحققه، كما يقول الفريق الأحمر، هو إرسال رسالة ردع قوية إلى حماس وحزب الله في لبنان: أنتم تدمرون قرانا، وسوف ندمر قراكم عشر مرات أكثر.. هذه أشياء قبيحة، لكن الشرق الأوسط غابة متشابكة. إنها ليست الدول الاسكندنافية.. وفكروا بذكاء في الأمر: في أعقاب وقف إطلاق النار الدائم هذا، سيتعين على يحيى السنوار، زعيم حماس، أن يخرج من نفقه، ويحدق في الشمس، ويواجه شعبه لأول مرة منذ بدء هذه الحرب. نعم، في صباح اليوم التالي لخروجه، سيحمله العديد من سكان غزة على أكتافهم ويغنون باسمه لتوجيه مثل هذه الضربة القوية لإسرائيل.. لكن في صباح اليوم التالي، يتوقع الفريق الأحمر، أن العديد من أولئك الذين يحملونه سيبدأون في الهمس له: (السنوار، بماذا كنت تفكر؟.. أصبح منزلي الآن كومة من الأنقاض. من سيعيد بناءه؟.. وظيفتي في إسرائيل التي كانت تطعم عائلتي المكونة من عشرة أفراد قد ولت.. كيف سأطعم أطفالي؟.. أنت بحاجة إلى أن تحصل لي على بعض المساعدات الإنسانية الدولية ومنزل ووظيفة جديدين.. وكيف ستفعل ذلك إذا واصلت إطلاق الصواريخ على الإسرائيليين؟).
ثالثا، قد يجادل الفريق الأحمر الإسرائيلي، بأن هذا سيخلق نفس النوع من الردع لحماس، كما فعل القصف الإسرائيلي المدمر للمجتمعات الموالية لحزب الله في الضواحي الجنوبية لبيروت في حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله.. ولم يجرؤ زعيم حزب الله، حسن نصر الله، على إثارة حرب شاملة مع إسرائيل منذ ذلك الحين.. سيضيف الفريق الأحمر، أن الضرر الذي ألحقته إسرائيل بحماس وغزة لن يخلق رادعًا مماثلًا فحسب، بل سيخلق أيضًا حقيقة أن إسرائيل يمكنها الآن إعادة تنظيم وتعزيز دفاعاتها الحدودية.
رابعا، تتمثل إحدى أكبر الفوائد الاستراتيجية لخروج إسرائيل من غزة مقابل وقف إطلاق نار خاضع لمراقبة دولية، في أنها يمكن أن تكرس الاهتمام الكامل لحزب الله في جنوب لبنان.. حزب الله وإيران لن يُعجبا بذلك. إنهم يريدون أن تكون إسرائيل منهكة عسكريًا بشكل دائم، وأن تضطر إلى إبقاء جزء كبير من جنود الاحتياط، الذين يزيد عددهم على ثلاثمائة ألف ـ الذين يقودون اقتصادها ـ معبئين بشكل دائم في غزة.. كما يريدون أن يضغط الاقتصاد الإسرائيلي بشكل دائم لدفع ثمنه.. وهم يريدون أن تكون إسرائيل مُشوهة أخلاقيًا، من خلال امتلاكها الأزمة الإنسانية بشكل دائم، بحيث لا تشرق الشمس كل يوم في غزة، ولا يسقط المطر، ولا تتدفق الكهرباء، ويقول العالم إن هذا خطأ إسرائيل.. لم يستطع أسوأ أعداء إسرائيل أن يخططوا لمصير أسوأ لها، وهذا ما يصلي حزب الله وإيران من أجله.
وأخيرًا، يجادل الفريق الأحمر الإسرائيلي بأن إسرائيل لديها مهمة للقيام بها في الداخل.. حدث هذا الهجوم المفاجئ لأن إسرائيل كان لديها رئيس وزراء، بنيامين نتنياهو، الذي قسَّم البلاد، من خلال محاولة القيام بانقلاب قضائي مجنون، والذي حكم إسرائيل لما مجموعه ستة عشر عامًا، مع استراتيجية تقسيم الجميع ـ المتدينين من العلمانيين، اليسار من اليمين، الأشكناز من السفارديم، العرب الإسرائيليين من اليهود الإسرائيليين ـ لإضعاف جهاز المناعة في البلاد.. ولا يمكن لإسرائيل أن تتعافى داخليًا، وأن تستأنف مشروعها المتمثل في تطبيع العلاقات مع جيرانها العرب، وإقامة علاقة مستقرة مع القيادة الفلسطينية الأكثر اعتدالًا في الضفة الغربية، إلا إذا تمت الإطاحة بنتنياهو.. وإذا استمرت الحرب إلى الأبد، فلن يحدث ذلك أبدًا.. وهذا بالضبط ما يريده نتنياهو.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين