حكايات التقسيم.. المؤامرة مستمرة
يغضب منى بعض الأصدقاء كلما أفلتت من بين حروفى جملة تفيد باستهداف مصر ومحيطها من أعداء مستمرين ومحتملين إن لم نجدهم أمامنا جهارًا نهارًا.. وأكاد من حماسهم وانحيازهم لمنطق المصلحة والقوة، باعتباره الحاكم الأول والأخير فى علاقات البشر والدول، أن أستجيب وأتهمنى بالوقوع فى أسر خيالات لا وجود لها إلا فى ظنى.. أقول أصدق أنه لا توجد مؤامرة وأن ما يحدث لنا على الأقل فى السنوات العشر الأخيرة ليس إلا من قبيل أعمالنا وسوء إدراكنا وإدارتنا لأنفسنا.. وما أكاد أستريح لذلك حتى تعيدنى لسيرتى الأولى واقعة ما.
بالأمس قرأت فيما أقرأ من سيرة الرئيس الراحل محمد نجيب.. رسالة تخص السودان.. أطلقها عام ١٩٥٣.. يعنى من سبعين سنة بالتمام والكمال.. يحذر فيها من مؤامرة لتقسيم السودان.. ليس لدولتين فقط.. كما حدث من سنوات بسيطة.. ولكن تشير خريطة مفسرة لرسالته إلى مواضع فى الغرب والجنوب يجرى فيها القتال الآن.. هل هذا الأمر مجرد صدفة.. أم هى الهلاوس التى تطاردنى منذ جاء ما يسمى بالربيع العربى؟
فى نفس الوقت الذى كنت أقرأ فيه رسالة الرئيس نجيب.. وجدت رواد مواقع التواصل الاجتماعى يتحدثون مجددًا عن مناقشات تجرى فى الكونجرس الأمريكى عن خطة جديدة لتهجير أهل غزة.. وضغوط جديدة على مصر باسم المعونات وغيرها.. وحديث متواتر عن خريطة جديدة لاستيعاب أهل غزة المرجح خروجهم.. ولكن اختياريًا هذه المرة فى حال قبول مصر وتركيا واليمن استقبال هؤلاء النازحين.. يا الله.. هل اختلف تفكير هؤلاء شيئًا عن أولئك الذين خططوا لتقسيم السودان منذ ما يزيد عن مائة عام؟ وكيف تكون المؤامرة إذن إذا لم يكن ما نواجهه الآن فى العراق واليمن وليبيا والسودان هو المؤامرة؟
منذ سنوات بعيدة قرأت كتابًا اسمه «اليهود والماسونية فى ثورات الربيع العربى».. ورغم تخاريف كثيرة يتضمنها إلا أن بعض ما جاء به حقيقى وثابت ويعتمد على وثائق دولية لم ينكرها اليهود أنفسهم.. وضمنيًا يحاول الكتاب أن يسند كل ما يجرى فى العالم من سوء إلى رغبة اليهود فى الثأر لأجدادهم.. نفس الفكرة دفعت الراحل زكريا الحجاوى إلى أن يجرى دراسة مهمة أصدرها فى كتاب منذ سنوات بعيدة وقد أعيد طبعه مطلع تسعينيات القرن الماضى اسمه «حكاية اليهود».. يؤكد أنه لا يوجد فرق بين اليهود والصهاينة.. وأن اختراع منظمة بنى صهيون جاء لإلصاق أى تهمة بهم لإبعادها عن اليهود وكأنهما جنسان مختلفان.
الآن.. وفى ظل سيطرة اللوبى اليهودى.. الصهيونى.. سَمّه كما تشاء.. على اقتصاد ومراكز النفوذ فى العالم، هل يتوقع أحدكم أن تتنازل تلك العصبة التى خططت منذ سنين لإقامة وطن قومى لها عن حلمها القديم؟ لا أظن.. ولا أعتقد أن أحدًا منكم يحلم بذلك.. إذن لن يتوقف الصراع فى هذه المنطقة عما قريب.. وعلينا دومًا أن ننام مفتوحى الأعين.
السيد ماكرون.. الآن يبدو عقلانيًا وهو يحذر إسرائيل من أن فكرة القضاء على حماس تحتاج إلى عشر سنوات على الأقل.. فهل هو يرغب حقًا فى تخويف تل أبيب من حرب قد تطول، أم أنه ضمنيًا يخيف العالم من قوة حماس، وكأن إسرائيل تحارب حماس فعلًا، وكأن آلاف القتلى الشهداء الذين ارتقوا طيلة الشهر الماضى خارج المعادلة؟.. قصة غزة قد تطول فعلًا.. لكن ينبغى أن نفهم أن الضغوط هذه المرة ستكون أكبر وأكثر تأثيرًا على منطقتنا وبيوتنا وأعصابنا فهل نحن مستعدون؟.. فليذهب حديث المؤامرة إلى الجحيم.. فماذا عما يحدث الآن؟
خلال الحرب العالمية الأولى.. وقبل أن تكون هناك وعود بوطن لهم فى أرضنا.. أخذ الاحتلال ما يقرب من مليون مصرى غصبًا للحرب.. خارج ديارنا.. وحصل المحتل على قرض من حكومتنا لدفع تكاليف سفرهم ومعيشتهم وأجورهم كما جاء فى روايات مختلفة.. لم يعد نصف مليون منهم وعرفنا فيما بعد أنهم شهداء السُّخرة.. بعضهم دُفن فى مقابر جماعية فى بلاد الثلج ولم نعرف شيئًا عنهم حتى الآن.. فهل يصعب على الاحتلال الجديد أن يموّت عشرة أمثالهم الآن؟
سلسلة من الجور والظلم لا تنتهى.. هو سباق لم ندخله نحن سكان هذا العالم الثالث بإرادتنا فى أى يوم من الأيام.. فهل نستطيع الآن أن نفكر مجرد التفكير فى طرق نجاة نملكها بإرادتنا؟
الآن.. عاد بعض شبابنا يبحثون عما أسميناه اتفاقيات الدفاع المشترك.. يسألون عن حدودنا القديمة قبل أن يداهمنا الاستعمار.. عن ثروات إفريقيا.. عن حلم قومى بالوحدة فى مواجهة القادم.. هل هى أوهام اللحظة.. حلم يقظة جديد.. أم هى لحظة هروب مما لا نستطيع أن نواجه أنفسنا به من أن تلك المؤامرات المتلاحقة قد حققت أهدافها فعلًا.. بأن أصبحنا بعيدين تمامًا عن فكرة لم شتاتنا وتوحيد صفوفنا؟
ما أعرفه.. أن الأيام القادمة هى أيام اللعب على المكشوف.. وأن الناجين هم من يعتصمون بثوابتهم.. فى غزة كانوا أو فى أى بقعة من بلاد العرب.