مظلوم ليلى.. عن منير الذى لم ينل مراده
هل ظلمت ليلى مراد شقيقها الأصغر منير صاحب الـ7 صنايع؟
أخو ليلى مراد.. لا يمكن أن يكون أقسى على فنان بقيمة منير مراد من أن يقرأ هذا التوصيف بجوار اسمه فى خبر أو موضوع صحفى ذكر فيه لسبب أو لآخر.. مرة واحدة فقط نشر فيها هذا التعريف ولم يهتم به الموسيقار العبقرى أو يضايقه.. وهى المرة التى جاءت فى سياق خبر صغير نُشر فى جريدة «الأهرام» صباح يوم ١٨ أكتوبر ١٩٨١ بعنوان «وفاة منير مراد» وفى توصيفه داخل الخبر ذكر المحرر أن المرحوم هو شقيق الفنانة الكبيرة ليلى مراد بعد أن ذكّر الناس ببعض من أعماله.. وكأن أهم إنجاز يجب أن يُذكر لذلك الراحل أنه ولد فى نفس البيت الذى ولدت فيه قيثارة الفن ليلى مراد.
فى فبراير سنة ١٩١٨، وبينما كانت مصر حبلى بأعظم ثورة شعبية فى تاريخها وهى ثورة ١٩١٩ التى خاضها الشعب المصرى ضد الاحتلال الإنجليزى دفاعًا عن حريته ودفاعًا عن رمز الأمة حينها سعد باشا زغلول.. كانت هناك صرخة مولودة جديدة تدوى فى منزل المطرب والملحن السكندرى الأصل زكى مراد الكائن بالعباسية.. سماها والدها ليلى، سوف تصبح بعد أقل من ٢٠ عامًا نجمة زاهرة فى عالم السينما وتستمر فى الصعود إلى القمة حتى تصير أعلى فنانات الأربعينيات أجرًا وقيمة.
بعد ميلاد ليلى بـ٤ سنوات كان منزل زكى مراد على موعد مع صرخة جديدة لمولود ذكر سماه موريس.. وسينجذب الطفل سريعًا إلى عالم الأضواء الذى دخلته أخته ليلى من أوسع أبوابه وسيصير له اسم فنى جديد وهو منير مراد.
ليلى ومنير كانا هما الأكثر نجومية من بين عائلة زكى مراد الفنية برمتها.. لكن أبواب المجد الفنى التى فتحت على مصراعيها لليلى عاندت منير تمامًا على الأقل فى البداية، رغم أنه حاول بكل ما يملك من مهارات أن يقبض على أطراف النجومية التى تجرى باتجاه أخته ليلى مسرعة لكنها تأتى عند منير وتبطئ فى مشيتها، حتى تمر السنون وتضيع مواهب منير المتفجرة فى طرقات العمر وتضيع معها أحلام ثقال تخمرت داخل الفتى منذ الصغر فى أن يكون أهم فنان شامل فى مصر، وهى أحلام كانت تستند على مواهب جبارة يحس بها موريس، أو منير، تختلج داخل نفسه وتريد التعبير عن نفسها بكل طريقة.
وعلى الرغم من ذلك كله فقد استطاع منير مراد أن يصير رقمًا لا يُستهان به فى معادلة الموسيقى فى مصر.. بل إنه كان قادرًا على أن يؤسس لنفسه مدرسة فى التلحين خاصة به نابعة من خفة دمه وحضوره على القلب غير المسبوق، وهى مدرسة متفردة لم يزاحمه فيها أحد غير عفريت آخر فى دنيا الموهوبين اسمه محمد فوزى الذى اقترب منها كثيرًا.. ليتقاسم فوزى مع منير خفة الدم والموهبة الربانية وسوء الحظ أيضًا.
الخمسينيات المقلد المدهش منير مراد.. مولد نجم
سنة ١٩٥٣ بعد أشهر قليلة من ثورة يوليو نشرت المجلات الفنية حينها وغير الفنية إعلانًا لفيلم جديد للنجمة الصاعدة بسرعة الصاروخ شادية، يشاركها البطولة وجه جديد على جمهور السينما ذُكر اسمه على الأفيش بهذا الشكل «المقلد المدهش منير مراد».. والفيلم هو «أنا وحبيبى» الذى كتب قصته نفس هذا المقلد المدهش.
كان صعبًا أن يتحمس أحد لإنتاج فيلم يقوم على وجه جديد لا يعرفه أحد وسيعتمد بالكلية فى تسويقه على اسم شادية الفنانة الشابة أيضًا دون بطولة رجالية ثقيلة.. لكن إذا عرفت الشركة المنتجة وصاحبها ستعرف سبب التحمس.. كانت شركة «أفلام الكواكب الجديدة» التى يعد هذا الفيلم هو أول إنتاجها.. لصاحبها إبراهيم زكى مراد.. نعم هو بعينه الأخ الأكبر لمنير الذى رأى فى نفسه منتجًا سينمائيًا مليئًا بالطموح ورأى فى أخيه ربما ما لم تكن أخته ليلى رأته بعد.. وقرر أن يكون باكورة إنتاجه السينمائى فيلمًا لأخيه الصغير صاحب السبع صنايع الذى طالما أبهرهم فى أروقة منزلهم وهم صغار بما يستطيع فعله من مواهب الغناء والتقليد والتمثيل.
لم يكن وصول منير مراد لتلك اللحظة، التى يوضع فيها اسمه على أفيش فيلم بطلًا أول، سهلًا على الإطلاق على الرغم من أن المنطق يقول إن العكس هو المفترض أن يحدث ولا بد أن يكون الطريق مفروشًا بالورود، حيث كان منير يمتلك لحظة دخوله إلى عالم الفن أدوات لم يكن يمتلكها غيره من الشباب الذين ندهتهم نداهة السينما فى الأربعينيات، وكانت أولى أدواته المفترضة هى الأخت الكبيرة ليلى مراد، التى كانت ملء السمع والبصر فى تلك الحقبة وحاجزة دائمة كرسى البطلة الأعلى أجرًا خاصة بعدما بدا أن التمثيل لم يكن على أولويات كوكب الشرق الآنسة أم كلثوم التى تعاملت مع السينما معاملة الدرجة الثانية بعد الطرب والغناء.
بخلاف ليلى امتلك منير شخصًا آخر هو الذى فتح له أول أبواب المجد وهو زوج الأخت، أنور وجدى المخرج والمنتج والبطل السينمائى الأول حينها.. والواقع أن منير عانى كثيرًا فى البداية من تجاهل أنور لمواهبه أو عدم التفاته لها أثناء عمله معه مساعدًا للمخرج، والدليل على ذلك ما نشرته مجلة «الكواكب» فى عدد ٢٤ ديسمبر ١٩٥٧ بعنوان «قصة موسيقى لحن أخبار الوفيات»، حيث كشف التقرير عن بداية الطريق الذى فتحه له أنور وجدى عبر أول أغنية من ألحان منير مراد وقالت بالنص: «قاسى منير من تجاهل أنور كثيرًا، وكان فى سبيل إقناعه بمواهبه الموسيقية يلحن ويغنى لأنور أى شىء.. أخبار الحوادث.. الوفيات.. أرقام حسابية.. إلى آخره.. وقاسى أنور من إلحاح منير كثيرًا، كان يخشى أن يصدمه بكلمة (لا) وكان فى الوقت نفسه غير واثق من أن منير يستطيع أن يلحن شيئًا.. وذات يوم قال أنور لمنير محاولًا التخلص من إلحاحه: اسمع أنا هديك غنوة لشادية من فيلم (ليلة الحنة) خدها لحنها إما أشوف رح تطلع إيه.. وفرح منير كثيرًا، لكنه لم يكن يعلم أن أنور كان قد أعطى الأغنية لملحن آخر شهير، لأنه يعرف أن منير لن يمنحه لحنًا جيدًا بالضرورة».
لكن المفاجأة التى أذهلت أنور وجدى، منتج ومخرج الفيلم، أن أغنية هذا الشاب الذى يعمل معه مساعد مخرج، وأخو زوجته ليلى مراد، هى الأجمل والأروع من اللحن الآخر الذى صنعه ملحن له اسمه حينها، والأكثر مفاجأة أن الأغنية نجحت نجاحًا مبهرًا وارتبطت بشادية فى ذهن الجمهور ورسخت صورة الدلوعة الجميلة، وهو ما دفعها إلى أن تكون رأس الحربة الرئيسية فى مدرسة منير مراد الموسيقية، ومن حينها لم يخلُ فيلم لشادية من لحن أو أكثر لمنير مراد حتى أطلق عليه بعض نقاد الخمسينيات لقب «ملحن شادية».
الستينيات حينما قال منير «ليلى أخوها جراح وبتعمل عمليات برة»
جليل البندارى، الكاتب والصحفى والمؤلف والسيناريست صاحب السبع صنايع هو الآخر.. أجرى تحقيقًا فى بداية الستينيات فى عدد «آخر ساعة» الصادر يوم ٢٣ أغسطس ١٩٦١ من داخل بيت منير مراد وزوجته سهير البابلى، حيث أجرى حوارًا معهما تحدثا فى كل شىء من أول أدوار سهير فى المسرح وحتى رأى منير فى عمل سهير على خشبة المسرح على حساب السينما، حيث قال منير إن هذا الأمر الذى يجعل وصول زميلاتها إلى الشهرة والنجاح أسرع لأنهن اعتمدن على السينما والإذاعة والتليفزيون، وقال إن «مرتب زوجتى لا يكفيها حتى فى الانتقالات اليومية بين بيتها والمسرح» ويضطر هو إلى الدفع لها من جيبه الخاص، لذلك أعرب منير عن رغبته فى أن تعتزل زوجته سهير المسرح نهائيًا وتتجه إلى السينما والتليفزيون والإذاعة. ولم يكن منطقيًا بالطبع لصحفى بحجم جليل البندارى أن يفلت فرصة كهذه ويترك الموضوع يسير فى اتجاه يوم أسرى وفضفضة فقط بين زوج وزوجة فنانين وبينهما صحفى يكتب.. لذلك كان لا بد لجليل أن يطرق على الحديد وهو ساخن ويسأل منير عن ليلى مراد، حيث يقول جليل بالنص: «إن ألحان منير مراد التى قدمها لشادية وعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وصباح وغيرهم من المطربين والمطربات قد نجحت جميعها ورغم هذا فإن شقيقته ليلى مراد لم تغن له سوى أغنية واحدة هى أغنية (أنا زى ما أنا وإنت بتتغير) فقلت له، والكلام على لسان جليل البندارى: «هل أفهم من هذا أن ليلى لم تعترف بك قبل أن تقدم لها هذا اللحن؟». انتهى سؤال جليل البندارى الماكر.. وجاء رد منير مراد عليه كاشفًا، ولاحظ أن منير كان قد مر على أول أغنية رسمية يلحنها أكثر من ١٠ سنوات أى أنه أصبح ملحنًا معتبرًا له وضعه ونجاحاته الكاشفة عن موهبة خرافية، ولكنه مع ذلك لم يتعاون حتى لحظة إجراء هذا الحوار مع أخته التى كانت لا يشق لها غبار فى النجومية إلا مرة واحدة.. لذلك كان سؤال جليل البندارى ذكيًا، وعلى ما يبدو لمس شيئًا داخل منير مراد، الأخ الأصغر، لذلك جاءت إجابته أقرب ما يكون لعتاب مغلف بروح الدعابة لأخته الكبيرة ليلى، حيث رد منير نصًا كما نشر فى «الكواكب»: «أبدًا هى بتعترف بيا وكل حاجة، إنما بتعاملنى زى واحد أخوها جراح وهى بتعمل عمليات برة».
السبعينيات شعور متأخر بقلة التقدير وخروج من جنة الست
لم تكن السبعينيات حقبة سعيدة فى حياة منير مراد.. فقد دخلها فاقدًا حب عمره بعد أن طلّق سهير البابلى نهاية الستينيات وعاش وحيدًا فى منزله، حيث ابنه الوحيد زكى يعيش فى أمريكا مع والدته.. ويبدو أن منير مراد فى تلك الأثناء، وبفعل الوحدة، نظر إلى إنتاجه الوفير ومقدار النجاح والرسوخ الذى حققته أغانيه الملحنة لكل مطربى مصر حينها ما عدا الست أم كلثوم.. وبعدها أدرك أنه كان يستحق أن يكون فى مكانة أكبر من تلك التى كان عليها.. وكأن الجميع اتفق على أن يضع غشاوة جماعية على الأعين تخبئ نصف القيمة الفنية التى يستحقها منير بإنتاجه الهائل العظيم.
ما يؤكد هذا الاستنتاج الحوار الذى أجرته «الكواكب» مع منير مراد المنشور فى عدد ٢١ أغسطس ١٩٧٣، والذى أفردت له المجلة صفحتين توسطتهما صورة حديثة لمنير الغائب منذ فترة عن الصحافة، ويبدو على الصورة أن منير مراد، الذى كانت تسبق روحه الحلوة عدسة المصور، قد اختفى لتظهر بدلًا منه صورة رجل خمسينى تسلل الشيب إلى رأسه واختفت ابتسامته الزاهية وحل محلها نظرة عابسة حقيقية وليست تقليدًا ساخرًا كعادته لأحد فنانى التراجيديا.. وعنوان الحوار أكد المعنى تمامًا وهو بالنص: «منير مراد يتحدث بعد سنوات الصمت»، ثم استكملت باقى العناوين الصورة الغائبة عن الملحن العبقرى وسبب رجوعه وهى كالتالى «يمثل فى السينما ويتبنى الأصوات الشابة ويغنى من ألحانه ويفكر فى الزواج».
وأهم جملة جديرة بالتأمل فقد جاءت فى نهاية الحوار حيث يقول منير: «مع احترامى لكل الأصوات، جديدها وقديمها، سأغنى ألحانى بنفسى وكل وقت وله أذان».. وهنا لو تأملنا مقولة منير نلاحظ فيها قدرًا لا يُستهان به من المرارة التى أحسها.. بالتأكيد شعر بأن ألحانه أسهمت فى سطوع نجومية كل مطربى مصر لكن هو كمبدع لتلك النغمات الفريدة والاستثنائية لم ينل غير الفتات من النجومية، خاصة أنه فى تلك الحقبة كان واحد مثل بليغ حمدى قد قبض على تلابيب دنيا الطرب فى مصر بعد أن صار الملحن المفضل للست أم كلثوم منذ الستينيات.. ولا يخفى على أحد أن حلم التلحين للست لم يفارق خيال أى ملحن فى مصر، ومنهم بالطبع منير مراد الذى كانت الست تعشقه وترى موسيقاه جديدة أشبه بـ«سندوتشات طعمية» على حد تعبيرها.. وحصل على وعد صريح منها بالتلحين سنة ١٩٦٥، طبقًا لما ذكرته مجلة «الشبكة» فى إطار تأبينها لمنير بعد وفاته لكن هذا الوعد لم يُنفذ للأسف.. وينضم لكتيبة الخارجين من جنة التلحين للست التى تضم فريد الأطرش ومحمد فوزى منافسه الأول فى كتيبة أصحاب السبع صنايع.
شعر فى أواخر حياته بأنه لم ينل المكانة التى يستحقها لذا أخد قرارًا لم ينفذه بالتلحين لنفسه فقط
الثمانينيات قليل الحظ يلاقى السادات فى «الموتة»
استيقظ المصريون يوم ١٨ أكتوبر ١٩٨١ ليقلبوا فى جرائدهم الصباحية ليعرفوا آخر ما جرى فى الحادث الجسيم الذى وقع قبل أسبوعين يوم ٦ أكتوبر، الذى أودى برئيس الدولة المنتصر الزعيم أنور السادات بعد أن راح غدرًا فى يوم احتفاله برجاله الذى أذاقوا العدو الصهيونى مرارة الهزيمة قبل هذا الاحتفال بثمانى سنوات. كانت الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية غارقة فى تغطية تبعات ذلك الحادث المأساوى غير المسبوق فى تاريخ الوطن، وأفردت الصفحات لمتابعة تفاصيل الحادث الإجرامى وخيوطه التى ظلت تتكشف يومًا بعد يوم بكل أطرافها، لكن فى ذلك اليوم تحديدًا حيث ١٨ أكتوبر لاحظ محبو الصفحة الأخيرة فى «الأهرام»، التى بنى مكانتها كمال الملاخ، أن هناك خبرًا غير اعتيادى بعنوان «وفاة منير مراد بأزمة قلبية».
بالطبع الخبر كان روتينيًا بحتًا لم يزد على ٢٥٠ كلمة، فيه سرد سريع ومختزل لمعلومات عنه وعن إنتاجه الفنى الوفير الذى وصل إلى ٣٠٠٠ أغنية، وفقًا لكثير من التقديرات.. وتناول خبره بهذا الشكل مفهوم، إذا أخذ فى السياق التاريخى الذى أشرنا إليه لكنه يؤكد حقيقة الحظ السيئ الذى رافق منير حتى القبر وما تبع ذلك من جنازة هشة لم تسجل حتى إعلاميًا ولا صحفيًا على ما يبدو.. كما لم ينتبه أغلب أهل الفن لها، حيث حضرها أبناء أخته ليلى مراد فقط، وهو شىء يدعو للأسى على هذا الفنان الذى عاش ٥٩ عامًا بالطول والعرض ولم يترك بابًا يظهر فيه مواهبه الكثيرة إلا وطرقه، لكن على الرغم من ذلك لم ينل من تقدير ربع ما يستحقه وظل تعريفه كـ«أخو ليلى مراد» هو التعريف الأهم الملازم له على الرغم من كل هذا الزخم الذى صنعه فى عالم الموسيقى والفن المصرى عبر سنوات عمره. وتنهى مجلة «الشبكة» اللبنانية التى انتبهت بعد وفاة منير مراد بأسبوعين لقيمة أن ينال تأبينًا صحفيًا مناسبًا، فأفردت له صفحتين كاملتين فى عددها الصادر يوم ٢ نوفمبر ١٩٨١ والذى أنهته بجملة أخذها محرر «الشبكة» من فم منير قبل وفاته وهذا نص ما كتب:
«رحم الله منير مراد.. الذى قالوا له: الطريق إلى الخارج مفتوح فهل تذهب؟
فقال: مصر بلادى.. فيها ولدت وفيها أموت وفى ترابها أُدفن».