مصر وسيط على قدر المسئولية
أخيرًا، وبعد سبعة وأربعين يومًا من القتل والتدمير والتشريد فى قطاع غزة وأهله، دخل اتفاق هدنة إنسانية «وقف إطلاق نار مؤقت» لمدة أربعة أيام، بجهود مصرية وقطرية حثيثة، حيز التنفيذ، وأصبحت واقعًا، يتمّ بموجبها وقف إطلاق النار من الطرفين، ووقف كل الأعمال العسكرية للجيش الإسرائيلى فى كل مناطق قطاع غزة، ووقف حركة آلياته العسكرية المتوغلة فى القطاع.. كذلك الاتفاق على إطلاق سراح خمسين من محتجزى إسرائيل لدى حماس، من النساء والأطفال دون سن 19 عامًا، مقابل الإفراج عن مائة وخمسين من النساء والأطفال من أبناء الشعب الفلسطينى من سجون إسرائيل دون سن 19 عامًا، بالإضافة الى وقف حركة الطيران فى الجنوب على مدار الأربعة أيام، ووقف حركة الطيران فى الشمال لمدة ست ساعات يوميًا، من الساعة العاشرة صباحًا حتى الساعة الرابعة بعد الظهر.. وأيضًا، إدخال مئات الشاحنات الخاصة بالمساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية والوقود إلى كل مناطق قطاع غزة بلا استثناء، شمالًا وجنوبًا.
نتيجة، لم تكن تتحقق، لولا ومنذ اللحظة الأولى لانفجار شرارة هذه الحرب إدارة الدولة المصرية للموقف بمزيج من الحسم فى القرار، والمرونة فى التحرك والمتابعة الدقيقة لمجريات الأمور، وتحديث المعلومات بشكل موقوت، والتواصل المستمر مع كل الأطراف الفاعلة، وتشكيل خلية إدارة أزمة، من كل مؤسسات الدولة المعنية، تابع عملها الرئيس عبدالفتاح السيسى بنفسه، وعلى مدار الساعة.. وقد كان قراره حاسمًا، وهو ذاته قرار مصر دولة وشعبًا بأن نكون فى طليعة المساندين للأشقاء فى فلسطين، وفى ريادة العمل من أجلهم، ذلك القرار الراسخ فى وجدان أمتنا وضميرها، فمصر قد كُتِبَ تاريخ كفاحها، مقرونا بالتضحيات من أجل القضية الفلسطينية، وامتزج الدم المصرى بالدم الفلسطينى على مدار سبعة عقود، وقد كان حكم التاريخ والجغرافيا، أن تظل مصر هى الأساس، فى دعم نضال الشعب الفلسطينى الشقيق.
فى علوم السياسة، يختلف مفهوم «الوساطة» عن مفهوم «المساعى الحميدة» فى العلاقات الدولية؛ من حيث أن الوسيط يستطيع عادة أن يأخذ زمام المبادرة فى اقتراح شروط التسوية أثناء ممارسته تخفيض حدة الصراع.. وترى الأطراف المتصارعة فى الوسيط أنه القادر على أخذ إجراءات التيسير مثل: وضع جدول زمنى، وتبسيط الاتصال، وتوضيح المواقف المعنية، ومسألة «إعادة صياغة المفاهيم»، وتسهيل المساومة، ودعم الاتفاق.. ولا تقبل الأطراف المتصارعة دخول وسيط محدد كطرف ثالث فى الصراع، إلا فى حالة اقتناعهم بالخدمات التى يستطيع أن يوفرها ذلك الوسيط.. لذلك يستقر البحث على إجابة السؤال، لماذا مصر؟، وكيف تدير مصر بنجاح عملية الوساطة فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى؟.
لدى مصر التزام تاريخى فى القضية الفلسطينية، سواء على الصعيدين الإنسانى والسياسى، ويشمل هذا مواصلة جهودها الحثيثة لدعم حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.. وقد أكد الرئيس عبد الفتاح السيسى دعم صمود القدس، التى تشكل عمق القضية الفلسطينية وروحها، إذ تسعى مصر لتحقيق تسوية عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية، الأمر الذى يُسهم فى استقرار المنطقة والحد من التوترات فى الشرق الأوسط، وتشدِّد مصر دائمًا على أن الفلسطينيين يخوضون معركة وجود للدفاع عن حقوقهم وأراضيهم، ومنازلهم التى وُلدوا فيها، خصوصًا فى مواجهة اعتداءات الاحتلال المتكررة ضد حقوقهم، ومنها المسجد الأقصى.. وكانت مصر وتظل، المساند الأكبر لقضية العرب الأولى، بصفتها أكبر دولة عربية، وهى لم ولن تتخلى عن دورها كقوة إقليمية تقود وتتفاعل وتناصر القضية الفلسطينية.. لذا اتخذت تدابير وقرارات لمساندة القضية الفلسطينية منذ نشأتها، وتمثَّل ذلك فى مواقف رؤسائها والمسئولين بها فى المحافل والمؤتمرات الإقليمية والدولية، وكذلك فى مواجهة العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسيطينى خلال السبعين عامًا الأخيرة.
أما ورقة التأثير المصرية على إسرائيل، إلى جانب أن مصر قوة إقليمية فاعلة، فتتمثل فى نجاح القاهرة فى عقد علاقات جيدة مع الحكومة الإسرائيلية فى عدة ملفات حيوية، على رأسها ملف الطاقة؛ إذ تنامى لدى الحكومة الإسرائيلية إدراك شبه كامل أنها غير قادرة على أن تجد بديلًا آخر عن مصر من أجل توريد غازها الطبيعى إلى الأسواق الأوروبية.. ورتبت مصر لهذا التشبيك فى المصالح فى إطار مؤسسى إقليمى جامع، يضم إسرائيل ودولًا عربية وأوروبية أخرى، جنبًا إلى جنب مع السلطة الفلسطينية صاحبة الشرعية الوحيدة على المقدرات الفلسطينية الوطنية.. ويدخل ملف الطاقة كمتغير جديد فى حسابات القاهرة السياسية، التى تشكل لها معادلة جيوسياسية جديدة فى الإقليم، فبات لمصر ورقة تضعها على وزنها الإقليمى المتطور، خصوصًا بعد الحرب الروسية فى أوكرانيا.
وفور وقوع هجوم حماس على إسرائيل، صباح السابع من أكتوبر الماضى، بدأ وزير الخارجية، سامح شكرى، إجراء اتصالات مكثفة مع نظرائه وعدد من المسئولين الدوليين، للعمل على وقف التصعيد الجارى بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. وقد تركزت الاتصالات التى أجراها وزير الخارجية فى هذا الشأن على الأطراف الدولية ذات التأثير، لضمان توحيد الجهود واتساقها، وتجنيب المنطقة المزيد من عوامل التوتر وعدم الاستقرار، والحيلولة دون خروج الوضع عن السيطرة، وكانت مصر حذرت من «مخاطر وخيمة»للتصعيد الجارى بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، فى أعقاب سلسلة من الاعتداءات ضد المدن الفلسطينية.. ودعت مصر إلى «ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، وتجنب تعريض المدنيين للمزيد من المخاطر».. وحذرت من «تداعيات خطيرة نتيجة تصاعد حدة العنف، الأمر الذى من شأنه أن يؤثر سلبًا على مستقبل جهود التهدئة»، ودعت مصر الأطراف الفاعلة دوليًا، المنخرطة فى دعم جهود استئناف عملية السلام، إلى التدخل الفورى لوقف التصعيد الجارى، وحث إسرائيل على وقف الاعتداءات والأعمال الاستفزازية ضد الشعب الفلسطينى، والالتزام بقواعد القانون الدولى الإنسانى، فيما يتعلق بمسئوليات الدولة القائمة بالاحتلال.. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، وبعد أسابيع من الاتصالات المكثفة والتشاورات، نجحت الجهود المصرية والقطرية فى التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار مؤقت لمدة أربعة أيام، كما بذلت مصر جهودًا سياسية ودبلوماسية وأمنية مكثفة، لمنع تفاقم الصراع والقيام بدور الوساطة للتوصل لاتفاق هدنة وصفقة تبادل أسرى، تهدف مصر من خلالها أن تُسهم فى خفض حدة التصعيد، يعقبها هدن أخرى، ثم وقف دائم لإطلاق النار، مثلما لعبت القاهرة دورًا رئيسيًا ومحوريًا خلال الحروب السابقة على غزة فى الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار بوساطة مصرية.. وخلال إنجاز الصفقة، نسقت مصر مع الولايات المتحدة الأمريكية وبمشاركة قطر، لإنجاح هذه الصفقة التى يعد الجانب الأمريكى هو الضامن لها، كونه يمتلك أدوات الضغط اللازمة على الجانب الإسرائيلى للالتزام ببنود الاتفاق التى جرى الاتفاق عليها.
وقد حظيت الوساطة المصرية فى وقف إطلاق بين حماس وإسرائيل بإشادة وترحيب عربى وعالمى، حيث نجحت فى وقف تصعيد العدوان الإسرائيلى الغاشم والقصف المتواصل منذ السابع من أكتوبر الماضى.. رحب الرئيس الفلسطينى، محمود عباس، والقيادة الفلسطينية باتفاق الهدنة الإنسانية، وجددوا الدعوة للوقف الشامل للعدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى.. وأعربت الولايات المتحدة الأمريكية عن ترحيبها بالاتفاق، معربة عن تقديرها لدور مصر.. بدوره، قدّم الرئيس الأمريكى، جو بايدن، الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسى، على جهود الوساطة التى قادتها مصر وقطر فى سبيل التوصل إلى اتفاق التهدئة الذى أفضى إلى «إطلاق سراح الأسرى فى قطاع غزة».. وثمّن الرئيس الأمريكى فى بيان صادر عن البيت الأبيض «القيادة والشراكة الحاسمة» للرئيس السيسى والأمير تميم بن حمد، فى التوصل إلى هذا الاتفاق.. ورحبت روسيا باتفاق الهدنة، كما رحبت الخارجية الصينية بالهدنة، معربة عن أملها فى أن تساعد على تخفيف الأزمة الإنسانية بالقطاع.
ولأن ما تم التوصل إليه، يحتاج إلى إجراءات لبناء الثقة ودعم إيقاف إطلاق النار ليتحول إلى حالة هدوء كامل على الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، فإن مصر، التزامًا بواجباتها تجاه الشعب الفلسطينى وتجاه الحفاظ على السلام والاستقرار، سيتعين عليها مواصلة اتصالاتها مع كل الأطراف فى الأيام القليلة المقبلة، لإطالة أمد الهدوء بين الطرفين المتحاربين.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين..