"المزايدون.. وآباء النجاح"
بدأت الهدنة المؤقتة بين إسرائيل وحركة حماس بعد جهود مضنية قامت بها مصر وساندتها فى ذلك دولة قطر والولايات المتحدة الأمريكية، حيث شهدت الأسابيع الماضية تحركات مكثفة أدت إلى التوصل إلى اتفاق يحد من تصعيد القتال وتوقفه لمدة أربعة أيام قابلة للتمديد، ويسمح بإدخال المساعدات الغذائية والإنسانية والطبية العاجلة إلى قطاع غزة، بالإضافة إلى الاتفاق على تبادل 50 من الأسرى الإسرائيليين، الذين تحتجزهم حركة حماس مقابل 150 أسيرًا فلسطينيًا من السجون الإسرائيلية، جميعهم من الأطفال والنساء من كلا الجانبين، وذلك كخطوة أولى فعلية من خطوات التهدئة.
دائمًا ما نقول إن الفشل له أب واحد فى حين أن النجاح له مائة أب، وقد سارع الإعلام فى بعض الدول المحيطة إلى الإعلان عن تلك الهدنة من منطلق إنها جاءت نتيجة الضغوط التى مارسها زعماء تلك الدول فى مغالطة تاريخية ليس لها أى محل من الإعراب.. وكم جاء طريفًا ونحن نشاهد بعض الإعلاميين من خلال قنواتهم الفضائية يروجون لتلك الادعاءات والأكاذيب ويمجدون قيادات دولهم الغائبين عن المشهد من السابع من أكتوبر إلا من بعض التصريحات والبيانات التى لا تسمن ولا تغنى، علمًا بأن لديهم القدرة الحقيقية على ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على إسرائيل كانت كفيلة مع ما تمارسه مصر من تقليل عدد أيام تلك الحرب الهمجية التى راح ضحيتها حتى الآن قرابة 15 ألف شهيد فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال.
تحملت مصر والرئيس عبد الفتاح السيسى ضغوطًا غير مسبوقة بأشكال مختلفة، حيث قامت الطائرات الإسرائيلية بضرب معبر رفح من الجانب الفلسطينى أربع مرات؛ لمنع دخول المساعدات الإغاثية للشعب الفلسطينى من خلال هذا المعبر.. وهنا نشير إلى أن 70% من هذه المساعدات كانت مصرية خالصة، وعلى الرغم من ذلك خرجت أبواق الضلال فى الداخل والخارج تزايد على الموقف المصرى، وتدعو إلى دخول السيارات التى تحمل المعونات، على الرغم من الضربات الجوية الإسرائيلية.. هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى ما قامت به إسرائيل من تدمير كامل لما يقارب من 50% من مبانى قطاع غزة، بالإضافة إلى البنية التحتية لأحياء بكاملها وإجبار حوالى 1٫2 مليون فلسطينى للنزوح إلى جنوب القطاع المتآخم للحدود المصرية، تمهيدًا لتهجيرهم إلى محافظة شمال سيناء كخطوة أولى من خطوات تصفية القضية الفلسطينية.. وهنا أيضًا خرجت ذات الأصوات تتساءل بكل الخسة والخيانة وعدم الانتماء لماذا لا تستضيف مصر أبناء قطاع غزة أسوة بالضيوف الذين يقيمون فى مصر، والذين يبلغ عددهم 9 ملايين لاجئ، وهو ما أجاب عنه الرئيس عبد الفتاح السيسى بكل الحسم والوضوح أن اللاجئين الموجودين فى مصر لديهم دولهم وأرضهم، ولكن هذه الدول تمر ببعض المشاكل والصراعات الداخلية، ومن الممكن عودتهم مرة أخرى إلى دولهم بعد الانتهاء من تلك الأزمات والمشاكل أما بالنسبة للفلسطينيين فإن معنى قبولهم فى مصر أو الأردن يعنى إسقاط عنصر الدولة أساسًا من قاموس الجغرافيا، وبالتالى لن تتم عودتهم مرة أخرى إلى قطاع غزة، وهو ما حدث قبل ذلك فى أعوام 1948 و1967.
لم تكن الجهود المضنية التى بذلتها مصر خاصة خلال الأيام القليلة السابقة للتوصل إلى وقف إطلاق النار فى غزة تحمل جديدًا فى الدور المصرى المناصر والمؤيد والداعم للقضية الفلسطينية منذ عشرات السنين، فهى دائمًا كانت وسوف تظل تحمل هموم الشعب الفلسطينى ومعاناته فى قلبها وعقلها فهى الدولة الأولى فى العالم التى دافعت عن الحق الفلسطينى، وكل من قرأ التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط وللقضية الفلسطينية يعرف تلك الحقيقة جيدًا.. فلا مجال إذن للمزايدات واصطناع البطولات الوهمية من خلال إعلام مأجور وموجه فى محاولات فاشلة لمشاركة مصر فى دورها التاريخى فى القضية الفلسطينية.
ومن هذا المنطلق جاءت الإشادات الدولية بالجهود التى بذلها الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ بداية الأحداث فى غزة وصولًا إلى اتفاق الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى على الهدنة وكم كان سيادته منصفًا وواضحًا عندما لم ينسب هذا النجاح لمصر فقط، بل إنه أصدر بيانًا يشكر فيه دولة قطر والولايات المتحدة الأمريكية على دورهما الداعم لتحقيق تلك الهدنة التى أعتبرها- من وجهه نظرى- إنجازًا تاريخيًا يحسب للمشاركين فى تحقيقه، لما ترتب عليها من حقن للدماء والشهداء، الذين سقطوا فى العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة.
ومما لاشك فيه أيضًا أنه من الإنصاف القول إن صمود الشعب الفلسطينى حتى الآن، بالإضافة إلى الضغوط الدولية والداخلية التى تتعرض لها الحكومة الإسرائيلية حاليًا قد ساعدت إلى حد كبير فى قبول إسرائيل تلك الهدنة بعد أن ضاقت أمام بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية الخيارات لتحرير المحتجزين من خلال العمليات العسكرية البرية التى تقوم بها القوات الإسرائيلية، وهو ما استثمرته حركة حماس بشكل مباشر عندما أعلنت عن أنها فقدت الاتصال مع المسئولين عن الأسرى، وكأنها أرادت بذلك ممارسة المزيد من الضغوط السياسية عليه، وإظهاره بأنه قد أصبح مهتمًا بتحقيق مكاسب شخصية وغير عابئ بمصير المحتجزين لدى حركة حماس.
وهنا أيضًا نشير إلى أن الإدارة المصرية لعبت دورًا مهمًا فى تحريك الإدارة الأمريكية نحو اتخاذ موقف أكثر حزمًا مع الحكومة الإسرائيلية بعدما استشعرت خطورة الموقف وتزايد احتمال اندلاع صراع إقليمى بالمنطقة، وهو ما جعلها توجه النصح إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى لإبداء قدر أكبر من المرونة فى المباحثات مع حركة حماس بشأن الأعداد المطلوب الإفراج عنها من الجانبين والقبول بهدنة إنسانية لعدة أيام، وتسهيل وصول المساعدات، ورفع الحظر عن دخول الوقود إلى قطاع غزة، وهو ما تحقق بالفعل على ضوء فشل إسرائيل فى تحقيق أهدافها من خلال العمليات العسكرية أو من خلال وضع العراقيل نحو السماح بدخول المعونات والوقود إلى قطاع غزة.
لن ينسى التاريخ المنصف ما قام به الرئيس عبد الفتاح السيسى من جهود مضنية؛ من أجل الوصول إلى هذه النتيجة، فى وقت ارتبكت فيه القوى الدولية وأيضًا الإقليمية من اتخاذ مواقف متشددة تجاه العدوان الإسرائيلى ما بين مؤيد أو معارض لما تقوم به، مبررين أن ذلك يأتى فى إطار الدفاع عن النفس فى إشارة واضحة إلى ازدواجية الرؤى بين ما تقوم به إسرائيل وما تقوم به الفصائل الفلسطينية التى تدافع عن أرضها المحتلة.. ولعل ما ينادى به الرئيس من ضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية هو المفتاح للاستقرار والسلام للشعبين الفلسطينى والإسرائيلى، وما دون ذلك حلول مؤقتة سوف تعقبها مجازر ومآس متكررة فى المنطقة.. وقد كان الرئيس واضحًا منذ بداية الأزمة، بل إنه حذر منها كثيرًا قبل وقوعها مطالبًا إسرائيل بقبول مبادئ السلام الشامل والعادل.. وأنه لابد من تغيير العقيدة الإسرائيلية بأن العدوان على الشعب الفلسطينى الصامد والتوسع فى بناء المستوطنات واحتلال أراضى الغير هو الوسيلة للقضاء على المقاومة الفلسطينية وإجهاض القضية الفلسطينية برمتها، وهو المفهوم الذى نجحت المقاومة الفلسطينية فى تغييره فى الأحداث الأخيرة.
لقد تأكدت إسرائيل أنه من الصعب أن تحقق نصرًا على حماس أو أن تنجح فى تركيع الشعب الفلسطينى بعد أن استخدمت كل وسائل القتل والإبادة والتدمير، ولم يعد لديها ما تقوم به أكثر من ذلك، ومن هنا فإن الرؤية المصرية والتوجه المصرى العاقل والرشيد أصبح مرجعًا لحل القضية الفلسطينية فى ظل قيادتها السياسية الحكيمة وأنها سوف تبقى دائمًا هى الطرف الأهم فى القضية الفلسطينية بصفة خاصة وقضايا المنطقة بصفة عامة.. وتحيا مصر.