سيناء والأطماع الصهيونية
مع بداية تصاعد الأحداث الجارية فى قطاع غزة، استرعى انتباه الجميع الدعوات الوقحة من جانب بعض المسئولين الإسرائيليين بترحيل أهالى غزة إلى سيناء. وسواء صدقت دعاوى هؤلاء المسئولين بأن عملية الترحيل مؤقتة، أو فى الحقيقة عملية توطين دائم، فإن الرفض المصرى كان صارمًا من أجل عدم تصفية القضية الفلسطينية.
لكن ما يسترعى الانتباه هو هذه الجرأة الإسرائيلية فى الحديث عن مستقبل سيناء، وترحيل أهالى غزة إليها، وكأن سيناء ليست جزءًا من مصر. فى الحقيقة تتماشى هذه النظرة الاستعمارية مع الرؤية الصهيونية لسيناء الغالية؛ إذ دأبت الأدبيات الصهيونية على الإشارة إلى سيناء بأنها «فلسطين المصرية» فى محاولة لتمييع الهوية المصرية لسيناء، وربط سيناء بفلسطين التوراتية، وبالتالى ربطها بإسرائيل.
وإذا عُدنا إلى التاريخ الصهيونى وتعامله مع سيناء، سنجد أن سيناء كانت هى المشروع الصهيونى الأول لإقامة دولة إسرائيل، قبل التفكير فى فلسطين نفسها. وترجع بدايات المشروع الصهيونى فى سيناء إلى نهايات القرن التاسع عشر، حيث بدأ مشروع بول فريدمان للاستيطان فى سيناء بين عامى ١٨٩١ و١٨٩٢؛ إذ طرح «فريدمان» بناء مستوطنة يهودية فى سيناء ضمن مشروع كبير أطلق عليه اسمًا توراتيًا وهو «أرض مدين»، فى محاولة لإعادة إحياء هذا المصطلح التاريخى الذى ورد فى العهد القديم عن أرض مدين التى فر إليها النبى موسى. والخطير فى المشروع الاستيطانى هو طرح «فريدمان» فى هذا الوقت المبكر إنشاء قناة جديدة فى أرض مدين تربط بين البحرين المتوسط والأحمر لكى تنافس قناة السويس التى كان قد تم افتتاحها منذ عقود. ويشير «فريدمان» إلى أن القناة الجديدة ستصبح أهم من قناة السويس، كما أنها ستضعف من الأهمية الاستراتيجية لمصر، لصالح الدولة الصهيونية الجديدة. وعلينا أن نتذكر جيدًا أن هذا المشروع، مشروع إنشاء قناة بديلة لقناة السويس، ما زال مطروحًا فى إسرائيل حتى الآن.
ومع انعقاد المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة بازل فى عام ١٨٩٧، يُعاد طرح فكرة الدولة اليهودية من جديد. ومن المثير أن الزعيم الصهيونى «هرتزل» سيختار فى البداية سيناء لتكون أساس قيام الدولة اليهودية؛ حيث تم البدء فى اتصالات مع بريطانيا المحتلة لمصر، آنذاك، من أجل الموافقة على مشروع إنشاء دولة صهيونية فى سيناء. ومن أجل تشجيع بريطانيا على الموافقة قال «هرتزل» لـ«كرومر» إن هذه الدولة الصهيونية ستكون خير حامية لقناة السويس من أى مطالب مصرية فى هذه القناة، وإن الدولة الصهيونية ستكون ذراع بريطانيا فى منطقة شرق السويس. كما قام «هرتزل» بإرسال العديد من اللجان والبعثات إلى سيناء لدراسة إمكانات الزراعة بها، وأماكن التعدين، والثروة السمكية والبحيرات، والمياه الجوفية، كل ذلك كتمهيد لاختيار المناطق الصالحة لإقامة المستوطنات. ورُفِعَت هذه التقارير إلى «هرتزل» الذى رأى أن سيناء هى المكان المفضل لإقامة الدولة الصهيونية لأنها أرض توراتية مقدسة، ولقلة سكانها، فضلًا عن الدعم البريطانى للفكرة. وطرح «هرتزل» فكرة أن تكون سيناء هى النواة الأولى من أجل التوسع بعد ذلك لإنشاء دولة إسرائيل الكبرى.
لحسن الحظ رفض الخديو عباس حلمى الثانى، خديو مصر، ومعه الحركة الوطنية، هذا المشروع المريب، وضغط الجميع على بريطانيا، حتى اضطرت الأخيرة إلى التخلى عن هذا المشروع. لكن الأطماع الصهيونية فى سيناء لن تقف عند هذا الحد كما سنرى فى المقال المقبل.