لماذا الآن.. وماذا بعد؟
كثر الحديث هذه الأيام عن سيناريوهات ما بعد انتهاء الحرب بين إسرائيل وحركة حماس كما وكأنها قد أوشكت على الانتهاء بالفعل، ويبدو أنهم تناسوا أن عمليات القتل والإبادة الجماعية والتهجير المستمر إلى جنوب غزة ما زالت قائمة، وما زال الشهداء الفلسطينيون يرتقون يوميًا وأيضًا القتلى من الجانب الإسرائيلى يسقطون، خاصة بعد المداهمات البرية التى بدأتها القوات الإسرائيلية إلى داخل قطاع غزة، والتى فشلت فى تحقيق الهدف منها بشكل كبير خاصة فيما يتعلق بالقضاء على عناصر وكوادر حركة حماس الذين نجحوا فى تكبيد عدوهم خسائر كبيرة فى العتاد والمعدات.
ولكننا على يقين أن ما يحدث حاليًا لا بد له من نهاية، وفى قناعتى أن كل طرف من طرفى النزاع سوف يعلن عن انتصاره على الطرف الآخر، وكلاهما من وجهة نظرى لن يكون صادقًا بل إنه من المحتمل أن نسمع قريبًا عن وقف للقتال لأن كلا الطرفين أصبح فى حاجة إلى تلك الهدنة، وإن اختلفت الأسباب خاصة أن الضغط الدولى على إسرائيل من الدول المساندة لها قد بدأ فى التزايد نتيجة الاحتجاجات الشعبية العارمة التى تهدد مستقبل حكومات تلك الدول، وهو الأمر الذى جعل بعضها يؤيد تمامًا فكرة إيقاف العمليات العسكرية، والعودة إلى مائدة المفاوضات، وبحث إمكانية حل الدولتين، حتى ولو كانت إسرائيل رافضة تمامًا هذه الفكرة.
كان السيناريو الأول الذى حاولت إسرائيل تحقيقه منذ أحداث السابع من أكتوبر هو القضاء على حركة حماس من جذورها مع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن، وبذلك تتم تصفية القضية الفلسطينية وهو ما تصدت له مصر بكل قوة وعنف، واتخذ الأردن بعدها ذات الموقف، وسرعان ما أعلنت الدول العربية تأييدها المطلق لكلتا الدولتين.. وعندما استشعرت الولايات المتحدة الأمريكية والدول التى تدور فى فلكها صلابة الموقف المصرى والعربى اعتدلت واستبعدت هذا الحل، ورغم محاولتها إقناع وإغراء للدولة المصرية بتقديم العديد من التسهيلات والمساعدات الاقتصادية إلا أن الرئيس عبد الفتاح السيسى كان حاسمًا وحازمًا فى رفضه تلك المحاولات، وأعلن الشعب المصرى كله مساندته وتأييده الكامل له فى جميع الخطوات والقرارات التى يتخذها فى هذا الشأن.
وبناءً على ذلك تم طرح السيناريو الثانى والذى يتمثل فى أن تتولى مصر الإشراف على قطاع غزة مثلما كان متبعًا منذ حرب عام 1948 حتى حرب يونيو 1967 وقد رفضت مصر والسلطة الفلسطينية هذا المقترح رفضًا باتًا- تم تطوير هذا المقترح بحيث من الممكن أن تعود السيطرة على قطاع غزة للسلطة الفلسطينية كما كان فى السابق، قبل أن تتولى حركة حماس زمام الأمور هناك، وقد وافقت السلطة ومصر والدول العربية على هذا المقترح إلا أن إسرائيل اعترضت عليه بدعوى ضعف الإرادة السياسية للسطة الفلسطينية الحالية وعدم وجود ضمانات بعدم ظهور كيانات جديدة مثل حركة حماس أو الجهاد تهدد أمن واستقرار إسرائيل مستقبلًا.
ومن هنا تم طرح سيناريو ثالث يتمثل فى وضع قطاع غزة تحت إدارة وسيطرة الأمم المتحدة ووضع قوات دولية على الحدود بين القطاع والأراضى الإسرائيلية المحتلة، إلا أن مصر والدول العربية رفضت هذا العرض لما سوف يترتب عليه من تفريغ للقضية الفلسطينية من مضمونها، وهو نفس السبب الذى بمقتضاه تم إدخال تعديل على هذا المقترح بأن يخضع قطاع غزة لإدارة دولية تضم الولايات المتحدة الأمريكية وعددًا من دول حلف الناتو وبعض الدول العربية ومن بينها مصر.
هكذا نرى أن القيادة المصرية منذ الأيام الأولى لتلك المعركة قد كشفت عن رفضها التام أى مخطط قد يترتب عليه تصفية القضية الفلسطينية بأى شكل من الأشكال، وتجاهد لمنع تنفيذه ولا تدخر جهدًا فى دعم أبناء الشعب الفلسطينى بكل الوسائل الممكنة، وعلى الرغم من تعنت تلك الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة والرافضة لأى دعم يتم تقديمه للشعب الفلسطينى إلا أن الجهود والضغوط المصرية والدولية نجحت فى إجبار تلك الحكومة على القبول بدخول الإعانات ومواد الإغاثة، بالإضافة إلى ما تم مؤخرًا من إدخال بعض حافلات الوقود لتشغيل المستشفيات والمرافق الحيوية، وهو الأمر الذى كانت إسرائيل ترفضه تمامًا.
هناك العديد من المعطيات التى نشير إليها للوقوف على إمكانية الإجابة عن تساؤلنا الرئيسى.... وماذا بعد؟.
- أولًا: إن المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلى لن تتوقف طالما لم يتم إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية...كما أن الجيش الإسرائيلى لن يتمكن من سحق إرادة الشعب الفلسطينى مهما قام بعمليات عسكرية واستخباراتية داخل قطاع غزة طالما كان فيها هذا الشباب الذى رأى أهله يستشهدون أمام عينيه وهم يقاومون هذا المحتل أو حتى أهله من الشعب المسالم الذى يعيش فى القطاع، ولا ينتمى لأى تيار أو فصيل من فصائل المقاومة... وأن الأرض التى أنجبت هؤلاء الشهداء قادرة على أن تطرح مثلهم الآلاف بل والملايين منهم مرة أخرى.
- ثانيًا: إن المجتمع الإسرائيلى الحالى لم يعد أكثر استعدادًا للسلام بعد نهاية هذه الحرب حيث تحول هذا المجتمع ناحية اليمين القومى والدينى المتشدد، وتراجعت قوى الوسط واليسار وحركات السلام بسبب مشاعر الكراهية والغضب التى تسببت فيها معركة «طوفان الأقصى»، خاصة بعد النجاح الذى حققته المقاومة الفلسطينية من خسائر كبيرة بين الجنود والمدنيين والأسرى والمعدات العسكرية الإسرائيلية، وأظهرت الحكومة الحالية بالعجز أمام شعبها على الرغم مما تقوم به من أعمال تخريبية وتدميرية أدت إلى تدمير ما يقارب من 50% من البنية السكنية والأساسية لقطاع غزة وإلى مقتل الآلاف من الشعب الفلسطينى... وفى هذا الإطار فقد أظهر آخر استطلاع لرأى الشعب الإسرائيلى أن هناك 58% منهم يرون أن الجيش الإسرائيلى لا يستخدم القوة بشكل كاف فى حربهم ضد قطاع غزة... بينما تراجعت نسبة الإسرائيليين الذين ينادون بفكرة حل الدولتين من 38% إلى 19%، كما انخفضت نسبة المؤيدين للتفاوض مع السلطة الفلسطينية من 47% قبل الحرب إلى 24% حاليًا.
وعلى الرغم من موقف طرفى النزاع على ضوء المعطيات المشار إليها، فإن هناك اتجاهًا إيجابيًا قد نتج عنه مؤخرًا وهو ذات الاتجاه الذى أعلن عنه الرئيس عبد الفتاح السيسى مرارًا وتكرارًا، وهو شيوع الإدراك بالضرورة الملحة لوضع حل الدولتين موضع التطبيق كحل أساسى لوضع حدًا للصراع الفلسطينى الإسرائيلى ولكن هل سوف تسمح الحكومة اليمينية الحالية فى إسرائيل بهذا الحل؟.
نرى حاليًا الولايات المتحدة تحاول أن تنشر هذه الفكرة وتبشر بها، بل وتلح عليها فى أعقاب ما تعرض له الأمن الإسرائيلى من خسائر بشرية ونفسية على الرغم من كافة وسائل وأساليب الدعم العسكرى والسياسى الذى قدمته وما زالت تقدمه لإسرائيل بشكل يومى.... ويبدو أن هناك بعض الدلائل التى تشير إلى أن هناك مباحثات تدور حاليًا فى هذا الإطار مع الدول ذات الصلة، وفى مقدمتها مصر والأردن وقطر وتركيا، وهو ما يمثل تطورًا إيجابيًا نرجو أن يستمر مع العمل على تذليل أى عقبات تعترض هذا التوجه خاصة من جانب الحكومة الإسرائيلية الحالية، والتى طالبت بقصف الفلسطينين بالسلاح النووى وتهجيرهم من بلادهم واقتلاع بذور المقاومة من جذورها حتى ولو كان الضحايا معظمهم من الأطفال والنساء.... هذا فى الوقت الذى سبق أن فشلت في تحقيقه اتفاقيات أوسلو وحكومات حزب العمل الإسرائيلى السابقة.
أعتقد أن الطريق طويل، وأننا يجب أن نكون على استعداد لأى سيناريوهات قد نشهدها خلال الأيام القادمة، وأن يكون لدينا التصور والاستعداد الكامل للتعاون معاها لأننا كما رأينا لا نعرف حتى الآن.... وماذا بعد؟.
وتحيا مصر.