من القاهرة إلى الرياض
انتهت القمة العربية والإسلامية المشتركة التى عقدت فى الرياض الأسبوع الماضى والتى كنا جميعًا فى انتظار ما سوف تسفر عنه من قرارات إزاء ذلك التصعيد العسكرى الهمجى الإسرائيلى فى قطاع غزة وباقى الأراضى الفلسطينية، وإيقاف نزيف الدم الذى راح ضحيته حتى الآن 12 ألف شهيد، منهم 70% من النساء والأطفال، بينما يعانى من هو على قيد الحياة من تلك الوحشية التى وصلت إلى مستوى غير مسبوق فى التنكيل بهم، وفى عدم السماح بدخول الوقود وقطع الكهرباء عن المستشفيات لتتهاوى أرواح أطفال حديثى الولادة على مرأى من والديهم، وتحولت المناطق المحيطة بتلك المستشفيات إلى مقابر جماعية لهم وللعديد من الأطباء والمصابين الموجودين بها.
جاءت القمة الاستثنائية بعد خمسة أسابيع من العدوان الإسرائيلى على شعبنا الفلسطينى فى قطاع غزة على أمل التصدى لهذا العدوان من خلال اتخاذ قرارات حاسمة يترتب عليها إيقاف هذا العدوان دون شروط أو قيود، وإدانة العقاب الجماعى، ورفض سردية إسرائيل التى تقدم الحرب على غزة بأنها تأتى فى إطار الدفاع عن النفس، والدعوة إلى دفع مسار عملية السلام بهدف تنفيذ حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية وفقًا لمقررات الشرعية الدولية.
ولن أكون متحيزًا عندما أقول إن هذه القمة الاستثنائية جاءت امتدادًا لقمة «القاهرة للسلام» التى عقدت فى ظروف أشد تعقيدًا، حيث جاء انعقادها فور اندلاع الأزمة مباشرة حيث حاولت مصر أن تصنع نواة حقيقية لموقف عربى موحد يؤكد ضرورة وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية إلى الأراضى الفلسطينية، وتأكيد الرفض التام لمخطط تهجير الفلسطينيين قسريًا ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية.. إلا أن مشاركة العديد من ممثلى الدول الداعمة للكيان الصهيونى حال دون صدور بيان رسمى من تلك القمة حيث أعتبر هؤلاء أن ما تقوم به إسرائيل حينئذ يأتى فى إطار الدفاع عن النفس.. وعلى الرغم من ذلك استمرت التحركات المصرية على جميع المحاور وكافة الأصعدة للتواصل مع العديد من الأطراف المتقاطعة والمتشابكة وتوافد عليها زعماء العالم لإقناع الرئيس عبد الفتاح السيسى بفكرة استضافة أعداد من الفلسطينيين فى محافظة سيناء كحل مؤقت لحين انتهاء العمليات العسكرية، والقضاء على مقاتلى حركة حماس والجهاد والقسام، وهو ما كشفه الرئيس علنًا على الرأى العام الدولى معلنًا رفضه لتلك الفكرة الشيطانية، والتى من الممكن أن تكون الخطوة الأولى لتصفية القضية الفلسطينية من خلال تهجير أهلها من أراضيهم، حيث تعامل مع هذا الطرح بكل الحسم من خلال اعتبار أن ذلك يتعارض مع الأمن القومى المصرى، مؤكدًا أن القضية الفلسطينية هى قضية مصر الأولى، وأن مصر لن تتخلى عن فلسطين ولا بديل عن حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، مع تحميل المجتمع الدولى المسئولية تجاه تفاقم الوضع فى المنطقة واتساع رقعة النزاع.
جاء البيان الصادر عن القمة العربية الإسلامية فى الرياض مؤكدًا ثوابت مصر فى دعم القضية الفلسطينية طبقًا لرؤيتها المعلنة فى قمة القاهرة للسلام، مضافًا إليها التأكيد على دعم كل ما تتخذه مصر من خطوات لمواجهة تبعات العدوان الإسرائيلى الغاشم على غزة، وإسناد جهود القاهرة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع بشكل فورى، ومستدام وهو ما يؤكد الإيمان الكامل من جميع القادة والزعماء المشاركين فى قمة الرياض بالدور المصرى المحورى تجاه الأشقاء والقضية الفلسطينية.
يأتى كل هذا فى الوقت الذى نجحت فيه مصر أيضًا ومن خلال الدبلوماسية المصرية بتغيير النظرة الأحادية تجاه الشعب الفلسطينى الذى نجحت الآلة الإعلامية الإسرائيلية الأمريكية فى تصدير صورته للمجتمع الدولى بأنه شعب إرهابى قاطع لرءوس الأطفال، إلا أن مصر أكدت عدم صحة تلك الرؤية، وأن هذا الشعب اغتصبت أرضه، وفقد الحد الأدنى من العيش بسلام وأمان مثله مثل شعوب العالم الأخرى.. كما كانت صور القتل والدمار الشامل الذى قامت به إسرائيل والتى نجحت وسائل الإعلام العربية والمصرية فى نقلها بكل وضوح وشفافية إلى العالم- سببًا فى التعاطف الدولى الذى نشهده حاليًا فى جميع دول العالم، بما فيها تلك الدول الداعمة لإسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا.
كان خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى فى قمة الرياض واضحًا ومحددًا.. ففى الوقت الذى انتهجت فيه أغلب كلمات القادة والزعماء المشاركين فى تلك القمة مسارًا عاطفيًا بين السخونة والتباكى قدمت مصر تسلسلًا ناضجًا للحل يبدأ بمعالجة جذور الصراع مع تقديم الأولوية للتهدئة والإغاثة وتأمين المدنيين ثم إدانة سلبية المجتمع الدولى والسياسات الأحادية مع التأكيد على ثوابتها الراسخة تجاه رفض التهجير ونهائية خيار الدولتين.. وقد تطابقت معها فى هذا الاتجاه بعض الدول العربية.. وعلى الرغم من أن قمة الرياض جاءت امتدادًا إلى قمة القاهرة للسلام فإنها حققت نجاحًا ملموسًا فى لم الشمل العربى والإسلامى نحو اتخاذ مواقف متقاربة إلى حد كبير تجاه القضية الفلسطينية وداعمة للتحركات المصرية بحسبانها الدولة الأقرب جغرافيًا وتاريخيًا إلى قطاع غزة، خاصة أن هناك العديد من الدول المشاركة يرتبط بعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الأساسى لإسرائيل، ولكنها أيضًا ترتبط بمصالح مع تلك الدول تستدعى التوازن فى المواقف، ولعل أبرز مثال على ذلك نجاح مصر فى تغيير الخطاب الأمريكى على مدى عدة أسابيع من دعم كامل لإسرائيل إلى رفض تصفية القضية الفلسطينية وأهمية الاتجاه إلى مسار السلام والنظر فى موضوع حل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، بغض النظر عن كيفية تنفيذ هذا الحل ولكن يكفى إنها بدأت بالفعل تفكر فى هذا الاتجاه.
ما زالت مصر هى المفتاح الذى يستطيع أن يفتح عدة أبواب لحل القضية الفلسطينية، فهى تتواصل مع كل الأطراف فى فلسطين وفى المنطقة العربية، وفى العالم كله تدفع دائمًا نحو موقف عربى قوى ينطلق من الفعل وليس الخطابات الحنجورية، وتسعى إلى إحياء مبادرة السلام ومن هنا فقد كان تحذير الرئيس عبد الفتاح السيسى من أن التخاذل عن وقف الحرب على غزة ينذر بتوسع المواجهات العسكرية فى المنطقة، وإنه مهما كانت محاولات ضبط النفس فإن طول أمد الاعتداءات وقسوتها غير المسبوقة كفيلان بتغيير المعادلة وحساباتها.. كان هذا التحذير محل اهتمام واحترام لجميع القوى الداعمة للاعتداءات الإسرائيلية والتى بدأت بالفعل فى تغيير سياساتها وأسلوب تعاملها مع الأزمة بناء على تلك التحذيرات.
ويبقى السؤال: هل سوف تنجح القمة العربية الإسلامية المشتركة فى تحقيق أهدافها فعلًا؟ وهنا نقول إن انعقاد القمة فى حد ذاته يعطى أملًا كبيرًا فى إيجاد رغبة حقيقية فى تنفيذ التوصيات الصادرة عنه والبناء عليها فى تدشين موقف عربى وإسلامى قوى تجاه القضية الفلسطينية وإعادة إحيائها من جديد، بعد أن نجحت إسرائيل والغرب فى اختزالها وتهميشها لسنوات طويلة فهى على الأقل تضع العالم أمام موقف موحد بضرورة حل القضية ومن ثم اكتساب رأى عام عربى وإسلامى قوى يدعم القضية مستقبلًا.
وتحيا مصر.