شوية.. وكله ينسى
أمس الأول فى لندن.. عاصمة الاحتلال القديم.. خرجت مليونية مبهرة تندد بالاحتلال الجديد.. ربما لا يدرك من تقدم الصفوف لنصرة أهلنا فى غزة أن من نفس المنطقة ومنذ ما لا يزيد على مائتى عام خرجت جيوشهم لتدك حصون الآمنين فى الشرق وتسلب خيراتهم وأرواحهم وأمانهم.. لا أخلط قطعًا بين الشعوب وتجار الحروب والسياسة.. لكن الذين طمعوا فى أراضٍ ليست لهم وزرع ليس لهم وماء ليس لهم هم أنفسهم مَن علموا بنى صهيون أن يحلموا بما ليس لهم.. وأن يستولوا على ما ليس لهم.. شكرًا لكل من تعاطف.. وشجب وندد.. وهتف ضد جريمة نكراء فى حق الإنسانية.. لكن هل قرأ هؤلاء تاريخ أجدادهم.. هل اعتذروا عنه حتى فى خيالاتهم؟
أعرف أن الإنسانية واحدة فى كل مكان من أرض الله.. وأعرف أن كثيرين من أهل الغرب.. أهل الاحتلال القديم فى إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وإنجلترا كانوا ضد العدوان.. وأن الكثيرين منهم أدركوا عبر البحث والقراءة أن حكامًا من بين أبناء جلدتهم دمروا بلدانًا بكاملها.. هم أنفسهم احترقوا بنيران بعض هؤلاء فى زمن ما.. وأعرف أيضًا أن جيلًا جديدًا فى أوروبا والغرب الأمريكى ضد مفاهيم التسلط والقتل والإبادة.. وأن ذلك التغير حدث بفضل وسائل الإعلام الحديثة.. ورغم انحياز معظم صحف أوروبا وتليفزيوناتها لبنى صهيون واتخاذها نفس مواقف حكامها وحكوماتها فإن ما يمكن تسميته بالإعلام الشعبى كان له الفضل فى نقل صورة مغايرة وتغيير أدمغة الشباب الجديد فى تلك البلاد.. لكن ماذا فعلت لنا تلك المظاهرات؟.. لا يزال المعتدون يواصلون جرائمهم.. بصلف وغرور شديدين.. ماذا فعلت لهم تلك الصيحات المليونية؟.. الخطة تمشى مثلما رسم وقدر لها أصحابها ولأطفال فلسطين الموت والحرق ودعوات المستضعفين من العرب والمسلمين.. حسنًا تظاهر الملايين ليس فى لندن وحدها ولكن إلى متى؟
الذين تفحصوا التاريخ جيدًا.. ومن قرأ كتب البشرية الحمقاء يدركون أنها أيام فقط.. نغضب.. نثور.. نلعن.. نسب.. ثم نهدأ وننسى.. نعم.. هناك من يراهن أنها شوية أيام.. والعالم سينسى.. ستتحول مشاهد أرجل الأطفال المبتورة التى تطير فى سماء غزة إلى مجرد صورة.. ربما يحصل مَن التقطها على بعض الجوائز فى فن التصوير.. وبعدها سننسى.. العرب هم أول من سينسى.. وإلا ما الذى فعلوه فى المجازر السابقة؟.. بعد كل مجزرة نكتب الأشعار الحماسية الغاضبة ونعزف موسيقى غاضبة أيضًا ثم نذهب إلى فراشنا منتصرين، أو هكذا نشعر، ثم ننسى.
فى مثل هذه الأيام من مائة سنة ويزيد.. أمر جمال باشا التركى العثمانى بإعدام عشرين وطنيًا من رجال الشام.. ساسة ومفكرون ومبدعون كانوا يطلبون الاستقلال.. كان هذا فى الشرق.. وفى مصر كانوا قد أعدموا الفلاحين الذين ضايقوا أصحاب الخدود الحمر وهم يتجولون فى ريف المنوفية يصطادون الحمام والنساء.. هل تذكر يا سيدى كم مرة غضبنا؟.. كم قصيدة حزينة ثائرة كتبنا؟... كم مليونًا من الجرحى؟... وكم رجلًا وطفلًا وصبية احتسبناهم شهداء؟.. أراهن أننا نسينا.. ولولا بعض كتب متعبة فى رفوف خشبية منهكة ما تذكرنا.. وهل نفعت الذكرى؟
كتب أمل دنقل فى خريف ما قصيدته الشهيرة لا تصالح.. وإن منحوك الذهب.. وأكد أنهم لم ولن يمنحوننا ذهبًا.. لكننا مرغمون تصالحنا.. كلنا.. ورضينا.. وبلعنا ريقنا ونحن نبرر خيباتنا.. وقبل أيام من عملية طوفان الأقصى كان هناك مَن يرتب آخر أوراق المصالحات البغيضة ليوقع من لم يوقعوا علنًا بعد.. لكن ما جرى فى فلسطين أوقف المهزلة الأخيرة.. هكذا كتب أحدهم فهل يعتقد هو أو غيره أن سلامًا كان سيأتى أم أن مرحلة جديدة من السطو والاغتصاب والهيمنة والفجور كانت سنبدأ؟
سننسى.. هكذا يراهن الكل.. على ذاكرة العرب.. يعرفون أن الأحوال ضاغطة على الجميع.. وأن مجرد الدعاء فى صلوات الجمعة ربما سيكون آخر ما سيذكرنا بما حدث.. وربما تتوقف تلك الصلوات أيضًا عن ذكر فلسطين وما جرى لها ولنا.. ألم يحدث ذلك من قبل؟
الذين ينتظرون أحداثًا عظيمة عليهم ألا ينتظروا.. الأحداث العظيمة لن تأتى صدفة.. الضعفاء لا يملكون كتابة الأحداث.. كبرت أو صغرت.. والواقع يقول إننا كذلك.. من يراهنون على وحدة عربية متخيلة فليعرفوا أن مصر حاولت وسعت وبذلت فى ذلك الطريق لكن هناك من لا يريد.. نحن ممزقون.. ومرتبكون.. ومشوشون.. ربما تدفعنا الظروف إلى مواجهة كبرى.. تدفع بنا تلك المواجهة لوحدة إجبارية.. ربما.. تلك المسرحية التى تجرى على أرض الشرق الأوسط لا بد لها من نهاية.. المهم أنه وحتى يحدث ذلك.. علينا أن نتذكر.. ألا ننسى.