رسائل لمَن لا يفهمون الموقف المصرى
فى الحرب الدائرة بفلسطين الحبيبة الآن.. تغرد مصر وحدها خارج السرب.. تتحدى العالم وتتصدى لمخططات بنى صهيون وتتخذ موقفًا هو الأقوى لصالح غزة والفلسطينيين، سواء على مستوى الشعب المصرى أو القيادة السياسية.. لا أحد يستطيع قول عكس ذلك، بل إن مصر تقف وحيدة منذ اللحظة الأولى تدافع بكل ما لديها عن حق أهل غزة ضد المجازر الإسرائيلية التى لا ترحم، وتحشد العالم كله قدر المستطاع ضد جرائم إسرائيل فى غزة، رغم خطورة الموقف وموقع مصر الاستراتيجى الذى يجعلها دائمًا تقف على حدود النار، وعلى حافة الدمار، الذى يحدث على بعد خطوات من أرضها.
ولكن البعض من المصريين والعرب ينتقدون الموقف المصرى.. وأصبحت جملة «افتحوا المعبر» تتردد دون إدراك أو منطق.. وكأن مصر تتحكم وحدها فى ذلك، على الرغم من أن المعبر المصرى مفتوح طوال الوقت.
وفى هذا السياق تجد ثلاث فئات لا تفهم الموقف المصرى بشكل صحيح، الفئة الأولى «المتعمدون»، أى الذين لا يفهمون بمزاجهم تمامًا، من أجل الانتقاد والانتقاص من دور مصر، وهؤلاء مغرضون بالدرجة الأولى، ولا أبالغ حين أقول إنه لو تحرك الجيش المصرى نفسه وحارب خارج حدوده فى غزه لقاموا بمهاجمة الجيش والقيادة السياسية؛ لأنه يحارب فى غير أرضه، فهم ضد البلد فى كل الأحوال، وطبعًا هم معروفون تمامًا لكل وطنى مخلص- فهم فئة الإخوان والتيارات المتطرفة التى هى ضدك على طول الخط طالما لم تتمكن من السيطرة عليك وتحقيق أهدافها- وهؤلاء بصراحة ليسوا ذوى أهمية حتى نبذل مجهودًا فى محاولة وضعهم على الطريق الصحيح، وليس فارقًا أن يفهموا الحقيقة، لأن نواياهم وأهدافهم سيئة دائمًا.
الفئة الثانية، هم من «لا يدركون جيدًا حقيقة موقف مصر»، ينقصهم الفهم بسبب نقص المعلومات لديهم عمّا يحدث على أرض الواقع، ولهؤلاء من الواجب أن نوضح لهم الأمر، فإن معبر «رفح» يقع بين قطاع غزة ومصر على مسافة ١٢ كيلومترًا، وهو أحد معبرين يسمحان لسكان غزة بالتواصل مع العالم الخارجى، ويقع فى جنوب غزة.. المعبر الثانى هو معبر «إيرز» فى شمال القطاع على حدود إسرئيل، أى أن المعبر الوحيد الآمن للفلسطينيين فى غزة هو رفح، مع العلم بأن إسرائيل مفترض أنها لا تديره، ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا كما يعلم الجميع، فهى تتحكم وتسيطر وتراقب جميع الأنشطة والتحركات التى يقوم بها الفلسطينيون عبر القاعدة العسكرية «كرم أبوسالم» وغيرها من أماكن مراقبة أخرى.
وهو الأمر الذى يؤكده «لرونزو نافون»، مدرس علم الاجتماع ومتخصص فى القضايا المتعلقة بالحدود والنزاعات بجامعة ستراسبورج بفرنسا.. الذى يقول إنه نظريًا فإن السلطات الفلسطينية والمصرية هى التى من المفروض أن تدير معبر رفح، لكن إسرائيل لديها كلمتها فيما يتعلق بمسألة العبور من الجانب الفلسطينى، ويضيف أن هذا المعبر ليس مثل باقى الحدود الأخرى المتواجدة فى العالم، لأنه يتميز بنوع من الانتقائية، إذ يمكن أن يفتح أو يغلق فى أى لحظة، وأنه بقى مفتوحًا ٢٤٥ يومًا العام الماضى وفق الأمم المتحدة، أى معظم السنة، و١٣٨ يومًا فى ٢٠٢٣، وأطلق لرونزو نافون اسم «الحدود المتنقلة» على معبر رفح نتيجة العديد من الحروب والنزاعات السياسية التى بدأت منذ عام ١٩٤٨، وأنه منذ اندلاع الحرب الأخيرة فى السابع من أكتوبر الماضى شددت تل أبيب قيودها وجعلت معبر «رفح» الممر الوحيد للمساعدات الإنسانية، ويقول إن مصر من جهتها أعلنت فى الأيام الأولى للحرب عن أن الحدود بقيت مفتوحة، ولكن «نافون» يؤكد أنه لا يمكن استخدامها بسبب القصف الإسرائيلى المتواصل، فعلى سبيل المثال قصف الجيش الإسرائيلى معبر رفح عند الجانب الفلسطينى ثلاث مرات خلال يوم واحد، وهو ما أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة من المعبر، ويضيف أن ذلك جعل من الصعب جدًا إيصال المساعدات الإنسانية عبر الشاحنات التى لم تجد طريقًا للوصول إلى غزة، فتوقفت عند الحدود المصرية، لكنها فى نهاية المطاف تمكنت من العبور فى ٢١ أكتوبر الماضى.
ويقول لرونزو نافون، أيضًا، إنه لا يزال الغموض يلف مصير فلسطينيى غزة، لا سيما بعدما قالت إسرائيل إنها ترغب فى إرسالهم إلى صحراء سيناء للعيش هناك، ما جعل منظمات الإغاثة وسياسيين يدقون ناقوس الخطر.
أما مسئولو الإغاثة فيقولون إن الدور الرئيسى لمعبر رفح فى الماضى كان مدنيًا، وإنه لم يكن مجهزًا لعملية إغاثة واسعة النطاق.
كل ما سبق يوضح أن المعلومات الصحيحة تقول إن المعبر له جانبان، المصرى وهو مفتوح بالفعل، أما الفلسطينى فتتحكم به إسرائيل، والتى قصفته مرات عديدة، مما يجعل من عبور الشاحنات مسألة فى غاية الصعوبة، ولكن فى الأخير رضخ الجميع لرغبة مصر وإرادتها وعبرت الشاحنات، ولكنها تقابل بتفتيش دقيق من الجانب الآخر، وهو ما يعطل دخول كل الشاحنات، فهو تفتيش أقرب للتعطيل وليس للتيسير، ويتم منع دخول الشاحنات إلى غزة بتعمد مع سبق الإصرار والترصد، وهو ما وضحه مسئولون مصريون بأن إجراءات التفتيش الإسرائيلية تؤخر بشكل كبير توصيل المساعدات، وتمر الشاحنات عبر البوابة الحدودية المصرية فى رفح قبل أن تتجه لمسافة تزيد على ٤٠ كيلومترًا إلى معبر العوجة المصرى الإسرائيلى للتفتيش، وفقًا لما تم الاتفاق عليه فى المفاوضات مع إسرائيل.. وتعود الشاحنات إلى مصر فارغة، ويعاد تحميل المساعدات على شاحنات منفصلة، لتوصيلها إلى غزة، وترفض إسرائيل السماح بإدخال الوقود إلى غزة، وتقول إنه هكذا يكون عُرضة للوقوع فى أيدى «حماس»، التى قد تستخدمه فى تحقيق أهداف عسكرية ضد إسرائيل.
إذن فإن مصر تفعل كل ما تقدر عليه وباستطاعتها، ولكنها ليست المتحكمة الوحيدة فى كل شىء على حدود تعد منطقة حرب، هذه الحدود التى تجعلها الدولة العربية الوحيدة التى لها حدود مع غزة.
أما الفئة الثالثة، وهى الفئة التى «تفوق توقعاتها الحقيقة على الأرض»، فهم على دراية بأن مصر تفعل ما لديها لمساعدة أهلنا فى غزة، ولكنهم يتمنون أن تفعل المزيد فيرفعون سقف تطلعاتهم للدور المصرى، ولهؤلاء يمكن القول إنه لا أحد يعلم حجم الضغوط التى تُمارس على مصر وقيادتها السياسية فى الكواليس.. علمًا بأن الواقع يفرض نفسه، فهذه حرب وليست مشاجرة بين لاعبين فى ملعب مباراة لكرة القدم، حرب دائرة على بعد خطوة منك، حرب من ضمن أهدافها احتلال أرضك بصورة غير مباشرة وحرمانك منها، حيث أصبح لا يخفى على أحد فى العالم، وليس مصر فقط، مخطط إسرائيل التاريخى بنقل الفلسطينيين، خاصة أهل غزة، إلى سيناء، ففى صحيفة «نيويورك تايمز» مقال لباتريك كينجريلى، مدير مكتب الصحيفة بالقدس الشرقية المحتلة، عنوانه «إسرائيل تضغط بهدوء على مصر للسماح باستقبال أعداد كبيرة من سكان غزة»، ويقول إن إسرائيل حاولت بهدوء حشد دعم دولى فى الأسابيع الأخيرة لنقل مئات الآلاف من المدنيين من غزة إلى مصر، طوال مدة حربها فى القطاع، حسب ستة دبلوماسيين رفيعى المستوى، ويضيف أن قادة إسرائيل اقترحوا الفكرة بشكل خاص على حكومات أجنبية عديدة، إلا أن هذا الاقتراح قوبل بالرفض، خاصة من بريطانيا وأمريكا، خوفًا من أن يكون هذا بمثابة نزوح جماعى دائم، كما تخشى هذه الدول من أن يؤدى هذا إلى زعزعة استقرار مصر، كما أن هذا المقترح قوبل أيضًا بالرفض الشديد من الفلسطينيين، الذين يخشون أن تستخدم تل أبيب الحرب الدائرة حاليًا لتهجير أكثر من مليونى شخص، وبينما رفضت مصر فكرة التهجير المؤقت فما بالك بالتهجير الدائم. ويستشهد الكاتب بتصريحات الرئيس عبدالفتاح السيسى، الشهر الماضى، التى قال من خلالها: «إن مصر أكدت وكررت رفضها التام التهجير القسرى للفلسطينيين ونزوحهم إلى الأراضى المصرية فى سيناء، حيث إن ذلك ليس إلا تصفية نهائية للقضية الفلسطينية».
كما يشير الكاتب إلى وثيقة خاصة بإدارة تابعة لوزارة الاستخبارات الإسرائيلية، تاريخها ١٣ أكتوبر الماضى، أوصت بإجلاء السكان المدنيين من غزة إلى سيناء، وعندما سُرّبت الوثيقة أكد مكتب رئيس الوزراء صحتها، قائلًا: «إنها مجرد ورقة مبدئية».. وهذا يعنى أنه على مصر أن تتصرف بحكمة ودبلوماسية، وفى نفس الوقت بقوة حتى تُفشل هذا المخطط الصهيونى، الذى يحلم بالسيطرة على سيناء من جديد بأى شكل من الأشكال، وأن أى تهور فى هذه المسألة سوف يكلفنا الكثير من المخاطر، وإذا كان هناك ضغط خارجى على الوطن لقبول وضع مرفوض، فيجب ألا يكون هناك أيضًا ضغط داخلى عليه من أبنائه، بقصد أو دون قصد، فإن تماسك الجبهة الداخلية ووحدتها ودعمها البلد وقيادتها السياسية الآن أهم من أى وقت آخر.