غزة ومصر «1-2»
تمر المنطقة العربية الآن بفترة عصيبة، ربما لم تمر بمثلها منذ حرب أكتوبر المجيدة. ويعتبر ما حدث فى ٧ أكتوبر حدثًا غير مسبوق فى تاريخ المنطقة، وكذلك ما وقع على يد إسرائيل من دمار وإبادة لأهالى غزة الأبرياء، ومعظمهم إما من لاجئى نكبة ٤٨، أو أبنائهم أو حتى أحفادهم، ونرجو ألا تتكرر المأساة من جديد، مأساة «الوطن اللاجئ» كما وصفها الشاعر الكبير فؤاد حداد.
ومرة أخرى تؤكد الأحداث على العلاقة العضوية بين مصر وغزة على مر التاريخ، ولا أقصد بذلك فقط معبر رفح، الذى هو بحق شريان الحياة لأهالى القطاع، ولكن أقصد عمق الارتباط وعلاقات الأخوة بين مصر وفلسطين بشكل عام، وغزة على وجه الخصوص. ولن أتحدث هنا عن عمق علاقات غزة بمصر، التى تضرب بجذورها فى التاريخ، ولن أشير إلى غزة كمعبر دائم للجيوش المصرية الساعية لحماية الأمن القومى المصرى من خلال تأكيد الوجود المصرى فى المشرق العربى، كخط دفاع أول لمصر عبر التاريخ، وإنما سأحاول أن أركز حديثى على التاريخ المعاصر، لا سيما أحداث القرن العشرين.
وسأبدأ حديثى هنا بالعلاقات الإنسانية التى تربط بين غزة ومصر، وسأضرب مثالًا مهمًا فى هذا الشأن بأحد أهم الرموز الفلسطينية، بل لعله أهمها على الإطلاق، وهو ياسر عرفات الزعيم الفلسطينى المشهور، وأول رئيس للسلطة الفلسطينية. ربما لا يعرف البعض أن أصل ياسر عرفات يعود إلى غزة، فهو ينتمى إلى أسرة القدوة الشهيرة، التى ما زال أغلبها يعيش فى غزة إلى اليوم. ومن المهم أن يعرف الجيل الحالى مدى ارتباط عرفات بمصر؛ إذ عاش طفولته وشبابه فى القاهرة، ويلاحظ أن عرفات ولد فى عام ١٩٢٩، أى قبل حرب ١٩٤٨، والنكبة الفلسطينية، إذ كان أبوه تاجرًا فى القاهرة. وفى الأربعينيات من القرن العشرين التحق ياسر عرفات بكلية الهندسة جامعة فؤاد الأول، التى أصبحت بعد ذلك جامعة القاهرة، كل ذلك قبل النكبة، وقبل مأساة اللجوء، وهذا المثال يوضح مدى أهمية العلاقات بين غزة ومصر، حتى قبل حرب ١٩٤٨.
ومع اندلاع حرب ١٩٤٨ قطع ياسر عرفات دراسته فى كلية الهندسة جامعة القاهرة ليلتحق بكتائب الفدائيين التى كانت تشكلت قبل ذلك، وكان معظمها من مصر، أو يقوم على تدريبها ضباط من الجيش المصرى، تطوعوا لخدمة كتائب الفدائيين، قبل أن يدخل الجيش المصرى رسميًا ميدان الحرب فى عام ١٩٤٨، ولعل قصة البطل أحمد عبدالعزيز خير الأمثلة فى هذا الشأن.
وبعد انتهاء الحرب عاد ياسر عرفات من جديد إلى القاهرة ليستكمل دراسته فى كلية الهندسة جامعة القاهرة، حيث حصل على شهادة البكالوريوس فى عام ١٩٥٠ تقريبًا. ولم تنقطع صلة ياسر عرفات بمصر، ولا كفاح مصر من أجل فلسطين ومواجهة العدوان الإسرائيلى؛ إذ يروى البعض أن عرفات انضم للفصيلة الفلسطينية فى الجيش المصرى أثناء العدوان الثلاثى على مصر فى عام ١٩٥٦.
وتدور الحياة بعرفات بين العديد من التنظيمات السياسية، حتى يتم تأسيس حركة فتح، ويتنقل عرفات بين العديد من العواصم العربية، لكن يبقى حبه لمصر، ولأيام طفولته وشبابه. وبعد اتفاق أوسلو ١٩٩٣، وعقد اتفاقية «غزة- أريحا»، يعود عرفات إلى غزة فى عام ١٩٩٤، ويلاحظ أن عرفات اختار أن يدخل إلى غزة من معبر رفح فى احتفال ضخم، وحرص الرئيس مبارك على مصاحبة عرفات حتى المرور من المنفذ المصرى إلى المنفذ الفلسطينى، تأكيدًا على الدور المصرى فى قضية فلسطين، ومدى ارتباط غزة بمصر على وجه الخصوص.
ويحكى من عرف عرفات شخصيًا أنه كان يجيد اللهجة المصرية إجادة تامة، وكان يحرص على الحديث بها، خاصة عندما يبدأ فى حديث الفكاهة والتندر. حياة عرفات فى الحقيقة خير نموذج على ارتباط فلسطين بمصر، والارتباط الوثيق والعضوى بين غزة ومصر. ونستكمل فى المقال المقبل بقية الحديث عن غزة ومصر منذ حرب ٤٨، وإدارة مصر قطاع غزة، ثم الدور المصرى فى غزة حتى اليوم.