صوفيا كوبولا وبرسيلا بريسلى.. والفن «اللى بجد»
منذ سنوات بعيدة، كان لدىّ موقف عجيب من أفلام المخرجة صوفيا كوبولا، لمجرد أنها ابنة الرائع فرانسيس فورد كوبولا، رغم أننى لست ممن يتخذون موقفًا عدائيًا من فكرة التوريث فى الفن، أو أى مهنة أخرى «ماعدا الحكم طبعًا»، بل إننى أراها من المسائل الطبيعية والمقبولة، فالابن بالفطرة يتماهى مع أهله، يراقبهم، ويقلدهم، ويتعلم منهم، وتكون لديه فرصة الالتصاق بهم أكثر من أى شخص آخر، مما يتيح له التعرف عن قرب على أسرار الصنعة أيًا كانت، بل وتشربها بسهولة ويسر، ومن ثم يكون الأقرب للإجادة والتفوق فيها، ويا سلام لو كان موهوبًا أيضًا.
ولأننى كنت، ومازلت، من المعجبين بكوبولا «الأب»، وأعجبنى أداء صوفيا نفسها، كممثلة، فى دور ابنة الدون مايكل كوروليونى فى الجزء الثالث من «الأب الروحى»، ترددت كثيرًا فى الفرجة على أفلامها كمخرجة، ولم أتوقع منها الكثير كمخرجة، خصوصًا مع الانتقادات التى وجهها لها كثير من المتخصصين الذين لم يعجبهم تمثيلها.. استمر الحال حتى شاهدت بالمصادفة تحفتها «Lost in Translation»، أو «فُقد فى الترجمة»، وهو الفيلم الذى ترشحت عنه لأوسكار أحسن مخرجة عام ٢٠٠٤، وفازت بأوسكار أحسن سيناريو، وأدمنت من بعده أفلام بيل موراى، وطريقته المتفردة كممثل لا شبيه له.. ثم ندمت على موقفى المسبق من أفلام صوفيا، فبدأت رحلة البحث عنها، وعن أعمالها، بل ومتابعتها وانتظارها أيضًا.. وربما لهذا سعدت كثيرًا عندما قرأت بداية هذا الأسبوع عن بدء عرض فيلمها الجديد «برسيلا» فى دور العرض العالمية «ليس من بينها مصر للأسف»، وعلى الرغم من أننى لا أعتمد على النسخ التى تتم إجازتها رقابيًا فى أى مكان فى العالم، ولا أنتظر العرض العام، لكننى لسبب لا أعرفه حتى الآن، قررت الانتظار لمشاهدته فى قاعة السينما، وحتى يحدث ذلك بدأت فى القراءة عن الفيلم، ومتابعة تقييماته، خصوصًا أن موضوعه ليس غريبًا على أفلام صوفيا كوبولا، التى ترسم ملامح شريطها السينمائى بنعومة فائقة، وتحشوه بالتفاصيل الدقيقة لواحدة من الزوايا التى تعمل عليها دون الغرق فى كامل القصة، فهى هنا تفرد مساحة فيلمها التى تقارب الساعتين إلا قليلًا، لاستكشاف كوابيس الدخول فى علاقة سامة، مدفوعة بضعف الشباب على وجه الخصوص، أمام شهرة الطرف الآخر.
يتناول الفيلم حكاية برسيلا بريسلى لعلاقتها بأسطورة «الروك اند رول» الأمريكى إلفيس بريسلى، مستندًا على مذكراتها الشخصية التى نشرت عام ١٩٨٥، بعنوان «إلفيس وأنا»، والتى تم إنتاجها فى فيلم سينمائى بعد صدورها بثلاث سنوات، لكن الجديد فى فيلم صوفيا كوبولا هو تناولها مشاعر المراهقة بريسيلا بوليو «اسمها الأصلى»، عندما تلتقى لأول مرة نجم «الروك أند رول» فى إحدى الحفلات، كفتاة فى الرابعة عشرة من عمرها، وكيف أنه كان يتحول خلف الكواليس إلى شخص غير متوقع، ضعيف، متماهٍ مع عزلته، بينما هى فتاة صغيرة مفتونة بما يملكه من جاذبية وشهرة طاغية، تكافح حتى لا تفقد نفسها وسط ما يحيط به من بريق وسحر.. ويتعمق فيما تراه برسيلا من جوانب غير مرئية للأسطورة الأمريكية، مسلطًا الضوء على وجهة نظرها الأنثوية فى عالم يهيمن عليه الذكور، كما يصور تحديات العلاقات السامة التى تجد نفسها متورطة فيها كطرف رئيسى، كما يستكشف علاقة التودد المطولة بينهما، وزواجهما المضطرب، مقدمًا صورة لضعف برسيلا، وما تمر به من يأس وخيبة أمل، ولا يخجل الفيلم من تناول الطبيعة المفترسة لهذه العلاقة، وقوة الشهرة المسكرة وتأثيرها على الشباب والتى غالبًا ما تكون النساء ضحيتها الأولى.
بالطبع لم تمر ساعات على طرح الفيلم فى دور العرض حتى بدأت الانتقادات، والانفعالات المبنية على الصورة الذهنية الشائعة للنجم الأمريكى، والصورة التى تقدمها صوفيا كوبولا له، ولزوجته، وحياته الخاصة.. وهى الانتقادات التى أظن أننى لن أتوقف عندها، وسوف أنتظر حتى يبدأ عرض الفيلم فى مصر، وإن لم يكن.. فلدىّ ما لدىّ من طرق خاصة أعبر بها عن محبتى لصوفيا كوبولا.. وأبيها من قبلها، وما يقدمانه من فن «بجد».