آية الفلسطيني ثلاث.. مفتاح وورقة وحكاية.. النكبة بين مانشيتات صحف الأربعينيات وأوراق الوطن الضائع
عاش الفلسطينى أوقاتًا صعبة أكبر من أن تُحصى.. لن تكون آخرها تلك المجزرة اللعينة التى يرتكبها الجيش الصهيونى الآن فى غزة.. لكن لو سألت أحد الأجداد الذى رأى النكبة رأى العين فى ٤٨، سيقول لك إن أصعب تلك اللحظات على الإطلاق هى اللحظة التى أُجبر فيها هو وأهله أن يحملوا ما يقدرون على حمله من متاع، ثم يغلقوا البيت إغلاقًا مُحكمًا على أمل الرجوع خلال أيام أو أسابيع، أو على أسوأ الظروف شهور، بعد أن تكون الجيوش العربية قد لقنت تلك العصابات الصهيونية درسًا لا يُنسى وأرجعتها إلى شتاتها الذى كانت عليه.
ولم تكن تلك أمنية فى نفوس أهل فلسطين، بل كان واقعًا قرأه كل من وقعت فى يديه جريدة من القاهرة أو بغداد أو الأردن، وطالع المانشيتات الحارقة التى أخذت تزداد تصاعدًا وتأكيدًا على النصر القريب. فها هى الأهرام أهم الجرائد العربية يتصدر صفحتها الأولى مانشيت يقول «الدول العربية تتأهب لمساعدة فلسطين» فى عدد الأول من ديسمبر ١٩٤٧ بعد أيام قليلة من قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى وطنين متساويين بين العرب واليهود، وهو القرار الذى قوبل بالطبع بالرفض التام من أصحاب الأرض وباقى الشعوب العربية وقياداتها.. وأرّخت الصحافة الورقية لسيل الرفض وتطور وتيرته على كل الجبهات، وأولاها الجبهة المصرية الراعية الأولى للقضية والأمل الأكبر لأهل فلسطين المطرودين من أرضهم، حتى وصلنا إلى القرار المصرى المنتظر بالاشتراك فى الحرب.
وكان مانشيت جريدة الأهرام يوم ١٢ مايو ١٩٤٨ بمثابة الإعلان عنه، حيث كان قاطعًا مانعًا جامعًا غير مسبوق على لسان ملك مصر.. والمانشيت يقول «الفاروق لن يرضى بقيام دولة صهيونية».
أهمية هذا المانشيت أنه ناتج عن حوار صحفى مع الملك، وهو أمر لم يكن مستساغًا أن يدلى الملك بتصريحات لصحفى بشكل مباشر.. ولكن على حد قول الأهرام «نظرًا لخطورة الوضع فقد رفع مستر كولنز مدير مكتب اليونايتد بريس فى الشرق الأوسط، إلى جلالة الملك فاروق عن طريق الأستاذ كريم ثابت بك المستشار الصحفى للديوان الملكى ستة أسئلة عن الحرب الدائرة بين العرب واليهود فى فلسطين».
وأكمل محرر الأهرام تقديمه الحوار الأهم فى تلك الفترة بقوله «ولئن كانت التقاليد قد جرت على ألا يدلى جلالة ملك مصر بأحاديث صحفية، فقد تفضل جلالته فأذن لكريم ثابت بك فى الإعراب عن وجهة نظر جلالته فى مشكلة فلسطين».
فى نفس اليوم خرجت جريدة «المصرى» بالخبر اليقين الذى يترجم حوار الملك «القوات المصرية تتأهب للزحف على النقب» مع عنوان آخر لفرض الأحكام العرفية لتأمين سلامة القوات المصرية فى فلسطين.. ومن هذه النقطة بدت الصفحات الأولى للصحف المصرية والعربية محجوزة فى معظمها للحدث الأهم، وهو حرب الجيوش العربية لتحرير فلسطين.
والمتتبع للتغطية اليومية من يوم ١٦ مايو ١٩٤٨، وهو العدد الأول بعد بدء الحرب رسميًا، سيجد الخط البيانى للأمل فى إنقاذ فلسطين يعلو فى الأيام الأولى مستبشرًا بالأخبار الآتية من هناك التى تبشر باكتساح الجيوش العربية.. مثلما كان المانشيت الرئيسى لجريدة «المصرى» فى هذا اليوم «الجيش المصرى يحتل مدينة غزة فى الساعة السادسة مساء أمس»، وعنوان ثانٍ «الطائرات المصرية تضرب تل أبيب وتدمر حظائر الطائرات فيها»، وعناوين أخرى فى نفس الصفحة «طلائع الجيش الأردنى تدخل القدس ودخول جيشى سوريا ولبنان إلى فلسطين».
واستمر الأمر على صفحات الجرائد على نفس النسق الذى زرع بالتأكيد أملًا كبيرًا فى نفوس جميع من طالعها، حيث أخبار الانتصارات المتتالية على كل الجبهات.. لكن مع مرور الأيام بدأت تفوح من بين سطور مندوبى الجرائد فى فلسطين رائحة غير محببة توحى بأن الأمور ليست على ما يرام.. ولجأت الأطراف العربية للأمم المتحدة للتدخل، ثم هدنة تلو الهدنة على الأرض واختراقها من جانب العصابات الصهيونية.. حتى وصلنا إلى نهاية الحرب إكلينيكيًا، بينما تلفظ سنة ١٩٤٨ أنفاسها الأخيرة.
هنا فقط بدأ يتبخر حلم العودة فى نفس ذلك الفلسطينى الذى حمل أسفاره على كتفيه، وظن أنه تارك بيته بشكل مؤقت ريثما تأتى الجيوش العربية وتعيد إليه حقه.. ولأن القضية العادلة لا تموت، فقد احتفظ هذا الفلسطينى لنفسه بثلاثة أسلحة معنوية يحفظ بها قضيته للأبد ويورثها لأولاده وأحفاده حتى لو تخلى عنه الجميع.
الأسلحة الثلاثة تتلخص فى كلمات ثلاث أيضًا:
مفتاح
وورقة
وحكاية
مفتاح البيت.. لنا عودة
فى يوم ١١ ديسمبر ١٩٤٨، صدر قرار رقم ١٩٤ عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ينص على حق العودة للفلسطينيين الذين هُجّروا من بيوتهم خلال الحرب، التى كانت انتهت عمليًا بهزيمة القوات العربية، وانتظر الفلسطينى المُهجر الذى نزح مجبرًا إلى مخيمات على أطراف بلده، أن يتم تنفيذ ذلك القرار الأممى من قِبل العصابات الصهيونية، التى أعلنت عن دولتها المزعومة منذ أسابيع قليلة.. لكن الانتظار طال أكثر من ٧٥ عامًا، ويبدو أن أمده سيطول أكثر وأكثر.
نظر الفلسطينى حينها إلى يده، فوجد مفتاح بيته الذى أغلقه على باقى أمتعته.. وتأمله ثم تكوّن قرار جمعى دون ترتيب بين كل الفلسطينيين الذين سُلبوا بيوتهم بأن يستمسكوا جميعًا بمفاتيحها، لأن فيها ضمان عودتهم إلى الدور المغتصبة فى يوم ما.
واحتفظ كل فلسطينى هُجر من بيته بذلك المفتاح فى أقرب مكان لقلبه وأكثره أمانًا ولا ينسى أن يخرجه بين الحين والآخر ليتأمله متلمسًا فيه الأمل فى العودة ومفتاح كل منغلق.
فى تلك الفترة كان أطفال فلسطين تتكون فى أذهانهم رمزية هذا المفتاح بشكل عميق.. بعد أن رأوا آباءهم وقد علقوا عليه آمالهم واستأنسوا بوجوده معهم، فعرف الأبناء قيمته وأدركوا أنه ميراثهم الثمين.
وتمر العقود لنصل إلى تلك الأيام الثقال التى نعيشها ويكون هؤلاء الأطفال، الذين لم يكونوا تعدوا العشر سنوات حينها، هم أبطال الترند الآن بعد أن تخطوا الثمانين من أعمارهم.
المجزرة الوحشية غير المسبوقة التى بدأتها قوات المحتل على غزة قبل أسابيع ودفعها دفعًا فى اتجاه تهجير أهلها منها، هى التى جعلت أطفال فلسطين فى الأربعينيات وشيوخها فى ٢٠٢٣ على قمة الترند بعد أن أعادت إلى الأذهان صورة ذلك الفلسطينى، الذى هُجر من بيته منذ ٧٥ عامًا.
نشر الأحفاد والأبناء الآن صور هؤلاء الذين عاصروا النكبة وورثوا مفتاح البيت عن آبائهم وأدركوا قيمته.. وتشبعت أرواحهم بالمعنى العميق لذلك المفتاح.
مفتاح قديم غلفه الصدأ، لكنه عند الفلسطينى أغلى من ألماس الدنيا، لأن فيه رائحة البيت المفقود فى الوطن المغدور.. لذلك كان منطقيًا أن يحتفظ به الفلسطينى فى أكثر الأماكن أمنًا وتعامل معه على أنه مفتاح الحياة وليس فقط البيت المهجور.
فى عدد «آخر ساعة» بتاريخ ٥ مايو ١٩٤٨، أى قبل إعلان الحرب بأحد عشر يومًا تقريبًا، نشرت المجلة صفحة مصورة تحت عنوان «الهرب من المدينة المقدسة».. الموضوع عبارة عن صور فقط، وللأسف لم تذكر اسم مصورها.. ويبدو أن التابعى ورفاقه أصحاب «آخر ساعة» رأوا أن الصور أكبر وأكثر مأساوية من أن تتم الكتابة عنها.. لكن على الرغم من ذلك جاءت التعليقات القصيرة للصور مشبعة بالألم والحسرة.. وعلى سبيل المثال من ضمن الصور المنشورة صورة فلسطينى مُسن يحمل على كتفيه ما تيسر له من متاع خارجًا من باب مدينة القدس وظهره محنى بفعل الزمن والأثقال التى عليه، وقد علق محرر الصفحة على تلك الصورة بالنص «هارب من المدينة القديمة.. عجوز يحمل على ظهره كل ما بقى له من حطام الدنيا.. حطام يحمل حطامًا».
باقى الصور التى ننشرها هنا بعد ٧٥ عامًا من نشرها فى «آخر ساعة» محملة بكل معانى الخذلان والألم الذى لازم ذلك الفلسطينى الذى بنى بيتًا ورعاه وعاش فيه جُلّ عمره، ثم وجد نفسه خارجًا مرغمًا منه، تاركًا وراءه كل ذكرياته الحلوة وآماله وأحلامه بمستقبل أفضل لأولاده.. لكنه على الرغم من قتامة الصورة، ظل الأمل ساكنًا داخل نفس هذا الفلسطينى، لأنه ولحسن الطالع قد احتفظ بمفتاح بيته بعد أن أغلقه.. ومنطق العدل فى هذه الدنيا هو رجوع الحق لأصحابه.. وهى القناعة التى ظلت ساكنة داخله وورثها مع المفتاح إلى أبنائه وأحفاده الذين جاءت سنة ٢٠٢٣ ليخرجوا مفاتيحهم بعد أن علاها صدأ محمود يزيدها بهاء ويلوحوا بها فى وجه الزمن رافضين محاولاته تمويت القضية.
عقد البيت.. ورقة أقدم من دولة
فى ٢٠١٤ تشرفت بزيارة الضفة الغربية والقدس ضمن دعوة من الاتحاد الفلسطينى لكرة القدم.. وهى زيارة شائكة فى الوسط الصحفى تخضع للكثير من المزايدات غير المفهومة بالنسبة لى.. لكنها تمت على أى حال وذهبت كما هو مفترض لتغطية دورة رياضية أقامها الاتحاد الفلسطينى بمناسبة ذكرى النكبة، لكننى فى الواقع نسيت الدورة، وكان كل همى أن أقابل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين خاصة كبار السن.. فتعرفت على أحد موظفى السلطة الفلسطينية.. عرفت أنه من سكان مخيم الأمعرى فى الضفة، طلبت منه أن أزور المخيم وأقابل عائلات فلسطينية بشكل عشوائى.. ولم أكن حينها أبغى توثيقًا لأى شىء لكنها رغبة فى سماع المعاناة من أهلها.
بيوت كثيرة دخلتها واستقبلنى أهلها بحفاوة بالغة مع أنهم لم يعرفوا سوى أننى «أخونا من مصر جاى يحكى معنا شوى»، وهى الجملة التى كانت تقولها زوجة الصديق الفلسطينى الذى عهد إليها- نظرًا لانشغالاته- باصطحابنا أنا و٣ صحفيين آخرين من السودان والسعودية والأردن.. من ضمن هذه البيوت كان بيت أبوأحمد- هكذا نادته زوجة صديقنا- يجلس الرجل على دكة خشبية عتيقة فى مدخل الدار يرى الداخل والخارج، كما يراقب السائرين فى طرقات المخيم الظاهرة من بين دفتى الباب المفتوح.
أبوأحمد كان حينها قد تخطى السبعين، وبعد حديث ودود أشار لإحدى بناته بنظرة فهمتها، فأحضر لنا صندوقًا مربعًا قديم الطراز.. فتحه بسهولة ودون عناء على الرغم من يديه المرتعشتين وأخرج برفق ٣ ورقات قديمة جدًا، كل ورقة مغلفة على حدة بغلاف بلاستيكى ليحفظها من عبث الزمن.
رحت بكل جوارحى بالطبع للورق الذى فى يد الحاج أبوأحمد، ولكنى لم أجرؤ أن أطلب منه أن أمسكه لملاحظتى حرصه الشديد عليه.. لكنه وفر علينا عناء التلصص وفرد الورقات على ترابيزة صغيرة أمامه لنتطلع إليها.. وأول ما لفت نظرى هى كلمة حكومة فلسطين فى أعلى الصفحة وعرفت من أبوأحمد اسم هذه الورقات «كوشان»، وكنت للحقيقة أول مرة أسمع عن هذه الكلمة وفهمت حينها من شرح أبوأحمد أن «الكوشان» هى وثيقة ملكية ترجع للحقبة العثمانية لبيوتهم التى تركوها هو وإخوته وراءهم فى ٤٨ فى قريتهم التى هُجروا منها.. حكى لنا الرجل كثيرًا عن أهمية تلك الورقة، وقال لى إن أغلب أصحاب بيوت المخيم لديهم مثل هذه الورقة التى تثبت حقهم، والكل حريص على توريثها لأبنائهم حتى يعرفوا أصلهم ولا تأخذهم الحياة فى المخيمات أو حتى القصور وتشغلهم عن العودة إلى البيت الأصلى الذى خرج منه آباؤهم وأجدادهم تاركين الغالى والنفيس.
وأهمية «الكوشان» القانونية أنها ترد على مزاعم إسرائيل الواهية التى ادعت أن الفلسطينيين باعوا بيوتهم التى هُجروا منها فى ٤٨ إلى اليهود وقبضوا أثمانها، وهى كذبة كبيرة تتاجر بها إسرائيل أمام المجتمع الدولى عندما تأتى سيرة الحديث عن حق العودة للفلسطينيين المُهجرين من بيوتهم.
حكاية البيت.. حارب النسيان بالحكى
أكبر عدو للفلسطينى هو النسيان.. وليس ذلك الصهيونى الذى يرفع السلاح ليقتله به، لأن هذا الأخير ضعيف.. آخر ما يستطيع فعله هو قتله، لكنه أبدًا لن يقتل القضية فى نفوس باقى الأحياء، بل على العكس يذكيها ويزيدها اشتعالًا مثلما يحدث هذه الأيام من تحت رأس الجرائم المروعة التى ترتكبها إسرائيل فى غزة.. لكن النسيان هو وحش قاتل قاسٍ يدوس على القضية أيًا كان نبلها ويزيحها من أولويات الفلسطينى ويشغله عنها إلى قضايا أخرى وحياة جديدة.
هنا يبرز السلاح الثالث الذى امتلكه الفلسطينى وهو سلاح «الحكى».
من المستحيل أن تجد فلسطينيًا لا يجيد إلقاء الحكايات بشكل مرتب جاذب للأذهان والانتباه.. يمتلك ذاكرة مصورة تجعلك وأنت تستمع لحكايته عن بطولة جده أو أبيه أو موقف مقاومة للمحتل عاشه هو فى شبابه.. وكأنك تشاهد فيلمًا سينمائيًا بكادرات مبتكرة ذكية.
ذلك اليقين الذى تربى داخلى من أن أى فلسطينى هو حكّاء ماهر بالضرورة تكوّن لدىّ خلال زيارتى القصيرة مدن الضفة الغربية من واقع حوارات قصيرة مع عدد كبير من أبناء تلك المدن.. كان لدىّ نهم شديد للحديث مع أى شخص يقابلنى وفتح حوار معه عن أى شىء من أول شرطى المرور الذى قابلنى فى ميدان المنارة فى وسط رام الله، حتى العم العجوز صانع الزعتر الفلسطينى الأصلى- لا أذكر اسمه للأسف- فى أقدم محل فى مدينة نابلس حيث حكى لى وهو يجلس على الرحايا التى يطحن بها الزعتر فى دقيقتين عن جده الذى افتتح هذا المحل فى بداية القرن، وأشار إلى حجر الرحايا قائلًا بسخرية مريرة: «هذه الحجرة أقدم من إسرائيل».
حكايات القدماء يحرص الأجداد على حكيها بطريقة مسلية أمام أحفادهم، وكأنه يلقى داخل كل طفل فيهم بذرة الوطن حتى لا تختطف روحه فيديوهات توم وجيرى وميكى ماوس، وتذهب بهم بعيدًا عن الجذور المغروسة هناك فى البيت المهجور الذى تركه أبوه وجده سنة ٤٨، لكنهما لحسن الحظ احتفظا له بمفتاحه وعقد ملكيته ليثبتا حكايته فى قلبه وعقله ولا تتوه وسط حكايات أخرى فرعية.