أزمة اقتصادية
الأرقام النهائية فى دفتر الحسابات- الذى يدون فيه مدخولاته ومصاريفه الشهرية- لم تطمئنه. شاردًا طوى الدفتر ثم تناول سبيكة الذهب وراح يتأملها. من وراء الدخان سألها: «هل أنت سبيل نجاتى؟» لم تجبه القطعة المعدنية ذات اللون الأصفر الفاتح، غير أنه سمع صوتًا غائرًا فى رأسه يهمس «التضخم يأكل كل شىء، إلا الذهب».
أطفأ السيجارة. انقشع دخانها، وبدت السبيكة هذه المرة، صفراء فاقعة لها لمعة تومض فى إحدى زواياها. شعر بشىء من الاطمئنان، قال لنفسه إن اقتناء هذا المعدن النفيس لا بد أن يكون طوق النجاة من التدهور المستمر للعملة الوطنية الآخذة فى التآكل مثل أعمارنا، بشكل يومى، كمن قطع على نفسه نذرًا بالتلاشى، وراح ينفذ وعده بإيمان وثقة. تذكر آخر راتب تقاضاه، لقد تبخر جله فى أيام. قبل سنوات كان راتبه هذا يكفيه ويفيض عن حاجته. ادخر من دخله الشهرى لسنوات طويلة. الآن بالكاد يكفيه لدفع فواتيره.
وضع السبيكة على العقلة الأولى من سبابته اليسرى. قربها إلى عينه اليسرى، وأغلق اليمنى. التقطت شبكيته صورة مقربة للمعدن الأصفر تغطى أكثر من ستين فى المائة من المشهد، الذى تستوعبه العين. رأى اللمعة الوامضة عن قرب. خفقت فى حدقته مثل فلاش كاميرا كوداك صُنعت فى تسعينيات القرن الماضى. تداخلت الومضة مع المساحة الصفراء اللامعة أمام عينه، وعندما عادت الرؤية إلى طبيعتها رأى نفسه طفلًا يلعب الكرة مع أقرانه فى الملعب الترابى القريب من أول بيت وعى عليه. يسمى تلك الفترة «الأيام الطيبة»: طفل يلهو فى الحارة بعدما عاد من المدرسة. وسيرجع راكضًا إلى البيت عندما يلمح سيارة والده قادمة من عند أول الشارع. سيركض إلى بوابة جراج الفيلا ويفتحها للمرسيدس البيضاء، يسلم على والده، ثم يرجع راكضًا لمواصلة مباراة كرة القدم مع الأولاد.
انزلقت السبيكة عن إصبعه، أعادته رنة ارتطام المعدن النفيس بالسطح الخشبى للمكتب إلى الراهن. تنبه لنفسه، عاد لمراجعة الأرقام فى دفتر الحسابات. لا شىء جديدًا. هناك عجز فادح فى ميزانية الشهر، ربما لن تكفيه السيولة المتوافرة معه لمدة تزيد على الأيام العشرة. «دخلنا فى حقبة العوز». فكر. دهمته غصة مرة بينما يحاور نفسه: «لكن.. متى بدأ الانهيار؟». لقد أدرك قبل ما يزيد على السنة، أن البلاد تخوض- على المستوى الاقتصادى- قفزة حرة إلى الأسفل. حينها درس الوضع وفحص كل السبل المتاحة للنجاة من الأزمة، وقرر أن الذهب هو الملاذ الآمن لعبور المحنة. فجمع ما ادخره على مدار سنوات واشترى السبيكة.
بعد مرحلة «الأيام الطيبة»، عندما دخل إلى الجامعة، كان أبوه مثل سيارة تقادمت وأهلكتها الشوارع، مضت الأيام الطيبة ودخل فى «أيام الضرورة»: المصروفات بحساب، لأن الموارد صارت أقل. وهذا لم يحدث بين ليلة وضحاها، لقد بدأ الأمر عندما لم يعد أبوه يوصله بالمرسيدس البيضاء إلى المدرسة. فى البداية بيعت المرسيدس البيضاء، ثم بيعت الفيلا وانتقلت أسرته إلى شقة أصغر، ولاحقًا مات الأب. فى تلك الحقبة اشتركت له أمه فى الحافلة المدرسية، قبل أن يجد نفسه فى السنوات الأخيرة من دراسته الثانوية مضطرًا للذهاب مشيًا إلى المدرسة.
فى حصة العلوم، عرف من المعلم أن عنصر الذهب، يتوافر فى الطبيعة بكميات محدودة. مائة وسبعون ألفًا وثلاثمائة طن إن لم تخنه الذاكرة. لقد أجاب عن هذا السؤال فى أحد الامتحانات التحريرية. كمية من الذهب يمكنها أن تصنع مكعبًا عملاقًا يغطى ملعب ويمبلدون للتنس. «إن هذا قليل مقارنة بعناصر أخرى متوافرة فى الطبيعة بكميات كبيرة. على رأسها عنصر الخسة». قال لنفسه وهو يتأمل حصته من إجمالى الذهب فى العالم، متمثلةً فى السبيكة اللامعة الموضوعة أمامه بوقار على سطح المكتب الخشبى. عاينها مجددًا، استرعى انتباهه الرقم المنحوت على السطح الأملس ٩٩٩.٩، تساءل: «هل هذا هو الكمال؟». ومنح عينيه صلاحية الإجابة، فقرب السبيكة مجددًا إلى عينه اليسرى وراح يعاينها «إنه شىء مذهل. ذهب صافٍ. معدن لا يبلى. بوسع هذه السبيكة أن تعيش بعدى لمئات.. بل لآلاف السنين. إنها خالدة». شعر برعدة فى جسده. بدأت من السبيكة الرقيقة الموضوعة بتوازن على رأس سبابته، ثم سرت فى براجم أصابعه، وانتشرت منها إلى باقى بدنه. «السبيكة تريد أن تقول شيئًا». وقر هذا الظن فى خاطره، ابتسم للهاجس الغريب وقرر أن يخوض التجربة إلى آخرها: «هل ستكونين أيتها السبيكة الخالدة طوق نجاتى؟». طرح عليها سؤالًا دون أن ينطق، ثم قربها أكثر إلى عينيه حتى اكتسى الوجود باللون الأصفر. أصفر لامع، كثبان رملية ممتدة حتى آخر المدى. صحراء. كتلك التى قضى فيها أيامًا طويلة من سنوات دراسته للتعدين بكلية الهندسة. ينقب الأرض ويحدث فيها ثقوبًا أسطوانية ليستخرج من بطنها الكنوز الدفينة. أو كالصحراء التى كان سيعيش فيها سنوات خدمته العسكرية. لم تكن تلك أيامًا سهلة، لا سيما تلك الليالى التى بات فيها مشدودًا كوتر، ينتظر سماع نتيجة دورة التجنيد الجديدة. عندما ذهب للفحص الطبى أمره الضابط الطبيب أن يتجرد من ملابسه ويسند ظهره العارى على المقياس المترى المرسوم على قيشانى جدار غرفة الفحص الباردة فى يناير. «لائق». و«لائق» أخرى للميزان. كان على بعد خطوة واحدة من صحراء جديدة. ولم ينقذه من فخ السنين المهدرة سوى ضعف فى عينيه. لقد نجا.
شعر بالجوع. وضع السبيكة على المكتب. قام إلى المطبخ وفتح الثلاجة. لم يكن هناك ما يصلح للأكل سوى تفاحة مقضومة. أخذها وعاد إلى غرفته، فتح دفتر الحسابات ليعرف المبلغ المتاح للأكل اليوم. قسّم المبلغ الإجمالى على عدد الأيام المتبقية من الشهر: ظهر له على شاشة الآلة الحاسبة ٩٩.٩، رسم ابتسامة هازئة على وجهه. ثم اتصل بالسوبر ماركت وطلب بعض الجبن والبيض والخبز.
التقارير الاقتصادية تقول إن عليه أن ينتظر شهورًا، أو سنوات، قبل أن يتمكن من بيع سبيكته التى وضع فيها كل ما يملك. وجمّد فيها ما بقى من مدخراته. كان يمضغ الجبن وهو يتذكر الصائغ الذى اشترى منه السبيكة، وهو يقول بثقة بينما يضعها فى كيس بلاستيكى أنيق: «زينة وخزينة».
بعد الأكل، راح يدرس ديونه مستحقة السداد: فواتير كهرباء متراكمة منذ شهور مضت، ونصيبه من أجرة حارس العقار، وغيرهما من المستحقات. عندما جمّع المبالغ، شعر بثقل يجثم على قلبه. ديون كثيرة. «على الأقل ديونى تحتمل التأجيل. أما ديون البلاد فمستحقة السداد خلال أيام، وإلا سنشهر إفلاسنا وتخفض وكالة ستاندارد آند بورز تصنيفنا الائتمانى، لنغوص أكثر فى المستنقع». انقبض قلبه. هو وبلده محاصران بالديون؛ ركض إلى السبيكة الذهبية ليستنجد بها. وضعها على رأس سبابته مجددًا، وقربها من أنفه هذه المرة، حاول أن يلتقط رائحتها. بيد أن أنفه خرجت بنتيجة صفرية. أغمض عينيه ليركز إحساسه فى الشم وحاول مجددًا أن يلتقط رائحة السبيكة الذهبية.
لا شىء. لم تعطه أنفه أى مؤشرات. غير أن عينيه المغمضتين رأتا، على الجدار الداخلى لجفنيه، مشهدًا مختلفًا. كان هو نفسه هناك، يركب سيارة صغيرة، ويخوض فى الطرقات المزدحمة عائدًا من العمل إلى البيت. يذكر تلك الفترة. تلك كانت سيارته الأولى. لقد وجد وظيفة بعد تخرجه وإعفائه من الخدمة العسكرية. عمل لسنوات وترقى مرتين قبل أن يتمكن من شراء السيارة. أسمى تلك الحقبة بـ«الأيام الواعدة»، حين بات وأخيرًا قادًرا على توفير احتياجاته، اشترى سيارة ودفع مقدمًا لشقة صغيرة فى مشاريع الإسكان التى توفرها الدولة للشباب. «سقى الله تلك الأيام» قالها لنفسه وهو يفتح عينيه مجددًا.
فجأة خطر على باله بند للمصروفات لم يفكر به من قبل. فتح موقع شرطة المرور وأدخل رقم اللوحات المعدنية لسيارته وبعض البيانات الأخرى، وبعد دقائق قليلة ظهرت أمامه على الشاشة قائمة بالمخالفات المرورية التى ارتكبها على مدار عامه الأخير. غرامات تجاوز السرعة القانونية، والسير عكس الاتجاه، وصف السيارة فى أماكن يحظر فيها ذلك، ورسوم تأخير مجموعها ٩٩٩٩.٩ جنيه. شعر بالارتباك لوهلة بسبب سلسال التسعات التى لا تنتهى، غير أنه عاد وأزاح ملاحظته الرقمية إلى الهامش، وبدأ يفكر فى ورطته، إذ أكدت نظرة خاطفة على دفتر الحسابات أنه لن يتمكن من دفع تلك الغرامات فى الموعد المستحق. وبناء عليه ستتضاعف تلك التسعات، والأدهى، أنه سيكون عرضة للمساءلة والتوقيف من أى ارتكاز مرورى من ذلك المنتشر فى كل مكان. انقبضت معدته من الأخبار السيئة. «الآن أنا مدين ومطارد». خنقته الحقيقة. جال ببصره على سطح المكتب بحثًا عن السبيكة. لمسها بإصبعه وأغمض عينيه: «يا سبيكتى الحلوة. الدنيا تضيق على وليس لى إلاكِ. فهل ستساعدينى؟». لم يسمع جوابًا. فتح عينيه والتقط السبيكة بسبابته وإبهامه ثم قربها إلى أذنه. علّها تعطيه جوابًا يريحه. بقى على ذلك الوضع برهة. يتأمل سطح المكتب بعينيه، بينما يكتم أنفاسه لكيلا يعوقه صوت الشهيق والزفير من التقاط ما ستقوله السبيكة.
عندما كان يقضى الليالى وحيدًا هناك فى الموقع الهندسى فى عمق الصحراء، اعتاد أن يضع الراديو جوار أذنه كما يفعل الآن، فقط ليلتقط نتيجة مباراة فى كرة القدم بين الفريق الذى يشجعه وفريق منافس. كان بوسعه أن يبقى على تلك الوضعية لدقائق طويلة، متجاوزًا أغنية طويلة، برنامجًا مملًا وفاصلًا إعلانيًا، منتظرًا نشرة الأخبار وفى ذيلها الفقرة الرياضية. لاحقًا عندما ترقى وصار مديرًا، خصصوا له حجرة ضيقة فى أحد المواقع مزودة بمكيف كهربائى صغير وجهاز تليفزيون يلتقط الإشارة البعيدة القادمة من المدينة، واستطاع أن يتابع باقى المباريات على الشاشة. وبعد ترقية أخرى نُقل إلى المقر الرئيسى للشركة فى العاصمة، وصار بوسعه حضور المباريات فى المدرجات إن أراد ذلك. كانت لديه وفرة فى الوقت والمال فى تلك الأيام. لذلك سماها «أيام الوفرة».
غير أن أيام الوفرة لم تدم طويلًا، فسرعان ما ظهر وباء فيروسى اجتاح العالم، ثم جاءت مجموعة من الحروب المتناثرة هنا وهناك لتنهك الاقتصاد العالمى وتذبح الاقتصاد المحلى. وفى غضون سنوات قليلة بدأ الانحدار، فتهاوت قيمة العملة المحلية وارتفعت الأسعار بشكل جنونى، ثم جاءت الطامة الكبرى عندما أفلست الشركة التى يعمل بها وسرحت موظفيها. ليتحول إلى عاطل، ويصرف فى شهور قليلة جل مدخراته. والآن دفتر الحسابات يقول إن ما تبقى معه لن يصمد لأكثر من أيام قليلة.
«أنت كل ما تبقى لى». نظر للسبيكة وأخبرها بذلك داخل رأسه. أشعل سيجارة وتركها فى المنفضة. راح يتأمل الدخان المتعرج المتصاعد منها، ثم أمسك بالسبيكة. أغمض عينيه، ووضع السبيكة بين أسنانه. شعر بصلابة المعدن. مد لسانه ولمس حافة السبيكة. فى تلك اللحظة التى اكتمل فيها المثلث، وصارت السبيكة بين سنتيه العليتين وسنتيه السفليتين ولسانه، عاد الصوت الغائر ليكلمه، وسرى فى ترددات عبر أسنانه وعظام جمجمته: «أنا الـ٩٩٩.٩. أنا الكاملة المكملة. وأنا طوق نجاتك». انزلقت السبيكة على لسانه، فشعر بطعم حلو يسرى إلى بلعومه ثم جوفه. قلّب السبيكة فى كل جوانب فمه. تمضمض بها: تحت لسانه وبين الضروس وعند جدار اللثة. وبات يشعر بأن فمه هو أجمل ما فى جسده. مغمضًا عينيه حرك يديه على سطح المكتب حتى وضع كفه على دفتر الحسابات، وشعر بأن الدفتر وما فيه، مجرد أرقام تافهة. حبر على ورق، لأن القيمة الحقيقية هنا. داخله. الخلود فى فمه وفوق لسانه. أيقن أنه قادر على تجاوز الأزمة طالما حافظ على قطعته الخالدة، وسيضمن النجاة طالما ضمن الالتصاق بها. دفعها قليلًا إلى الوراء حتى لامست لهاة الحلق. شعر فى تلك اللحظة أنه مخلوق سماوى، وأن النور يخرج من أذنيه ومنخاريه. لم يشأ أن يفتح عينيه ليرى النور بنفسه، لم يرد أن يجرح اللحظة. إذ كان يوجد يقين داخلى يملؤه ويتمدد بداخله ليخبره بحتمية وجود هذا النور. دفعة أخرى صغيرة إلى الوراء، وانسابت السبيكة إلى حلقه. «نجونا.. الحمد لله» قال لنفسه. تنفس ببطء بينما تعبر السبيكة بلعومه. حتى إذا ما استقرت فى جوفه، فتح عينيه ونظر بتعال وإحساس دفين بالعظمة إلى دفتر الحسابات، وشرع فى تمزيقه.