بخط يده.. مذكرات سعد فخري عبدالنور محامي طه حسين
- طلب النحاس باشا من طه حسين تأسيس جامعة الإسكندرية وجيوش روميل تدق أبوابها بعد صدور كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر" قال له النحاس: أنت المسئول عن الثقافة فى مصر
-دعا أخي موريس إلى مظاهرات الطلبة احتجاجا على فصل طه حسين من الجامعة ففصل هو أيضا
- كان طه حسين يملي مقاله "حديث الأربعاء" على سكرتيره فى نصف ساعة
-أول قضية لطه حسين بسبب فيلمه "ظهور الإسلام" أنهيتها صلحا بواسطة وزير الخارجية محمد صلاح الدين
-أراد طه حسين تسجيل أرض فيلا رامتان فطلب مدير الشهر العقاري أن "يبصم" فقلت له: كيف يبصم عميد الأدب العربي ووزير التعليم؟!
-أئمة الفكر الفرنسي مثل سارتر وأندريه جيد كانوا يزورون طه حسين ويتناولون معه الشاي فى مقر إقامته بباريس
-مؤنس وأمينة طه حسين أنشآ فرقة مسرحية كانت تعرض أعمالها فى الأوبرا القديمة
-درست اللغة العربية على يدي مشايخ الأزهر وتأثرت بكتاب "حياة محمد" للدكتور هيكل
-سألت طه حسين: هل هناك مانع من تسمية ابنتي على اسم إحدى أفراد الأسرة النبوية الشريفة؟
-بعد خروجي من المعتقل ووضع ممتلكاتي تحت الحراسة أرسل لي مظروفا به مائتي جنيها وكان مبلغا كبيرا بحساب ستينات القرن العشرين
-أفرج عني عبدالناصر للاحتفال بعيد الميلاد مع أسرتي فأجل زكريا محيي الدين وزير الداخلية خروجي لليوم التالي!
وصلت العلاقة بين محامي عميد الأدب العربي سعد فخري عبدالنور (1921 - 2003) إلى درجة استشارته فى تسمية أبنائه، والمفارقة أن والده فخري عبدالنور أحد قيادات ثورة 1919عندما أنجبه استشار سعد زغلول فاقترح عليه أن يسميه باسمه "سعد"، ليصبح بعد ذلك هو نفسه أحد قيادات الوفد وسكرتيره العام -محافظا على ميراث أبيه الوطني- وعندما ذهبت لإجراء حوار معه بمكتبه بشارع سليمان باشافى بداية الألفية الثانية، وجدته يتكلم أيضا عن ذكرياته عن د. طه حسين، ولكن المفاجأة التى أسعدتني أنه أهداني مذكراته الخاصة التى كتبها بخط يده عن علاقته بعميد الأدب العربي منذ تجاورا فى بلدين متقاربين، حتى ربطت بينهما علاقة بدأها شقيقه موريس الذى فصل بسبب قيادته لمظاهرات الطلبة احتجاجا على فصل طه حسين من الجامعة، وتطورت العلاقة إلى صداقة بدأت فى باريس، وتوطدت فى القاهرة على المستوي العائلي، ليصبح سعد فخري عبدالنور موضع ثقة طه حسين ومحاميه الخاص المؤتمن على خاتمه الخاص ليوقع به نيابة عنه على كل ما يتعلق بشئونه الخاصة، من عقود كتب أو شراء أرض فيلا رامتان التى استقر بها وأسرته حتى رحيله فى الثامن والعشرين من أكتوبر 1973 حيث لم تشأ روحه أن تفارقه إلا بعد أن فارق اليأس روح مصر -كما نعاه صديق عمره توفيق الحكيم- وتشاء الأقدار أن تحتفل مصر بالذكري الخمسين لرحيل عميد الأدب العربي فى ظروف حرب أخري ضد إخواننا الفلسطينيين فى غزة، بل إن حياته نفسها كانت حربا على الجهل والتخلف.
كتب سعد فخري عبد النور فى مذكراته قائلا:
"د. طه حسين شخصية بديعة..الكتابة عنها كالصلاة فى محراب العلم، واسترجاع الذكريات معه مثل سماع الموسيقي الراقية، أو التقاط وتجميع حبات اللؤلؤ..
ولقد نعمت بالتعرف على تلك الشخصية النادرة، فأعجبت بها أيما إعجاب، ليس لمواهبه النادرة فحسب، حيث ينبغ الأديب العالمي، ويشمخ عملاق من عمالقة الفكر الحر فى مطلع القرن العشرين، بل لأنه إنسان توافرت فى شخصيته العديد من الصفات الجميلة، وقليلا ما أتيح لي أن أري مثل تلك الصفات فى أي من الناس خلال مشوار حياتي.
وقبل أن أتوقف مع الرجل العظيم وذكراه العطرة، لابد أن أتعرض للمناخ الفكري الذى عاشته مصر فى صدر الدولة الحديثة بعد صدور دستور 1923، فى ظل حزب الوفد الذى قدر له ولرجالاته أن يتصدوا لتأسيس تلك الدولة، وقد صدر فى تلك الفترة كتابان فذان، أحدهما للشيخ على عبد الرازق، والآخر لطه حسين.
الكتاب الأول وهو الذى أثار جدلا سياسيا على أعلى مستوى وهو كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لصاحبه على عبدالرازق القاضي الشرعي وقتذاك، حيث كان الملك فؤاد يطمح -بعد إلغاء مصطفي كمال أتاتورك للخلافة العثمانية- أن يكون خليفة للمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، وأن تعود الخلافة للقاهرة، وكان يتملكه الموقف والمنطق القائل بأن الخلافة نشأت من قبل فى مصر، ثم استولى عليها السلطان سليم الأول بعد معركة مرج دابق وشنق طومان باي 1517، ومن ثم لابد أن تعود الخلافة لمصر بعد طول غياب، وتصدي لذلك الشيخ على عبدالرازق مؤكدا على أن الخلافة ليست من أصول الحكم الإسلامي بقدر ما هي نظام سياسي.
واستنتج الشيخ على عبدالرازق أن نظام الحكم ما هو إلا النظام المدني، وقدم على ذلك الكثير من الأدلة الفقهية والمدنية، مما أدى إلى إحالته إلى هيئة كبار العلماء، وفصله من الأزهر، وما تبع ذلك من أحداث شهيرة ومعروفة، ولم يقدر لحزب الوفدوزعيمه سعد زغلول المشاركة فى المعركة، لأنه لم يكن يضع نصب عينيه سوي الحصول على الاستقلال.
أما الكتاب الثاني "فى الشعر الجاهلي" لطه حسين لم يأخذ الطابع السياسي، بل تسربل بالمنطق الفكري، خاصة وأن ما ذهب إليه طه حسين كان أن الشعراء العربقبل نزول الوحي قد أنشأوا قصائد شعرية، وكانوا على علم بالكثير، وأن الوحى لم ينزل على أرضية جاهلية، بمعني أن الجاهلية لم تكن فى العلم والثقافة، بقدر ما كانت فى الدين، ولكن معانى طه حسين حورت وأولت، واتهم طه حسين بناء على ذلك بأنه غير متمسك بفكرة الوحي، إلى غير ذلك من التفسيرات، وأثير جدل عظيم، فى الوقت الذى كان سعد زغلول رئيسا لمجلس النواب، ولم يرد الوفد أن يقحم نفسه فى هذه القضية، باعتبارها من قضايا الفكر، وليست فى أولويات القضايا الوطنية.
حدودك يا سعد " الكيلو "
سمعت فى مغاغة مسقط رأس والدتي، لأول مرةعن طه حسين، ولم أكن أبلغ سوى خمس سنوات، ولكنني كنت تعلمت منذ نعومة أظافري معاني الحرية، ورضعت حليب ثورة 1919 من ثدي الوطنية المصرية ووالدي فخري عبد النور الذى نفي مع سعد باشا، وكان أحد ركائز الطبقة الثالثة من قيادات الوفد، وهكذا كانت وطنيتي تركض أمام وعيي المبكر وتسبق طفولتي إلى مغاغة، حيث كانت والدتي تنتمي إلى عائلة موسرة بهذا المركز، وتمتلك من الأطيان الكثير فى نواحي متعددة مثل العدوة وآهناسيا وغيرها، تلك الأطيان التى كانت قد ورثتها عن أبيها وجدها الذى حظي بثروة ضخمة منذ 1856 بعد ظهور اللائحة السعيدية –ومغاغةتقع على الترعة الإبراهيمية، حينما يتمهل القطار قبل أن ينفذ إلى محطتها، كان يتهادى عند قرية " الكيلو " – مسقط رأس طه حسين - قبل دخوله المحطة، وكنت أذهب مع والدتي فى الأجازة إلى مغاغة، وكنا نسمع أن طه حسين عند أبناء قريته " الكيلو " شخصية فذة.. طفل كف بصره بعد أربع سنوات، ثم تعلم فى الكتاب بالقرية، ثم إلى الأزهر، حيث مواقفه المشهودة والمعروفة، والتي لا تحتاج إلى سرد، وصولا لإيفاد الأمير أحمد فؤادرئيس مجلس إدارة الجامعة المصرية إلى باريس للحصول على الليسانس ثم الأستاذيةمن جامعة السوربون، متكفلا بنفقات بعثته، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، ثم ثورة 1919حال دون عودته لمصر قبل 1922.
وكانت قرية الكيلو وقتذاك تحلم وتتغنى بطه حسين الذى كان أول من حصل على الدكتوراه من السوربون، ومن هنا طالت مسامعنا سيرة ومسيرة النابغة وخلافاته ومساجلاته الفكرية التى حالت دون حصوله على العالمية الأزهرية، وكانت القرية تفرد ذراعيها مرحبة بطه حسين إبان زياراته لها صيفا، وكنت أطرب بذلك وأنا أتنزه مع أقراني من أولادالمصري وأولاد صالح باشا لملوم وآخرين، وكانت والدتيتنصحني دوما: حدودك يا سعد الكيلو – ذلك لأن قرية الكيلو كانت الجزء الذى لا يجوز لنا تجاوزه باعتباره الجزء الفاصل بين مغاغةوريفها، وكانت نزهتنا الصيفية الرقيقة حين تتوقف بنا عند الكيلو، يصل إلى مسامعنا الهمس والحكي المحبب لأهلها:
د. طه هنا – د. طه أتى لزيارة أهله.. إلخ.
كنا نتسامر مع بعض أهل الكيلو، وأدركنا أن عائلة طه حسين عائلة علم وفقه، ومن ثم كان طه حسينبالنسبة لأبناء قريته مثل الفاكهة المحرمة، وقيمة محترمة رفعت من شأنهم.
طه حسين والأحرار الدستوريين
وكنا نسمع أن طه حسين بحكم تلقيه العلم فى فرنسا أن نشأت بينه صلات وبين الشيخ الدكتور مصطفى عبدالرازق الذى أصبح فيما بعد شيخا للأزهر ووزيرا للأوقاف، وكان قد حصل على نفس الشهادة التى نالها طه حسين، وامتدت صلاته مع آل عبد الرازق، سواء مصطفى باشا أو على عبدالرازق صاحب "الإسلام وأصول الحكم"، وكان آل عبدالرازق من أنصار وزارة عدلي يكن (22 - 1923) وحزب الأحرار الدستوريين، وطلب من طه حسين أن يكتب فى صحيفة الحزب جريدة "السياسة"، ومن هنا ترجع انتماءات طه حسين فى منشأ حياته لفكر الأحرار الدستوريين، ويعود ذلك الفضل فى هذا لارتباطه بعائلة عبد الرازق، كما كانت علاقة طه حسين وطيدة بالدكتور محمد حسين هيكل أحد أعضاء أسرة السوربون، والذى نال ذات الشهادة من باريس ومن نفس الكلية، وهكذا تجانست أسرة السوربون، واستكتبوا جميعا فى جريدة عظيمة مثل "السياسة"، وعلى الرغم من أنها كانت غير متوائمة مع منحى الوفد، إلا أنها كانت جريدة رصينة التف حولها ألمع وأكبرالكتاب الذين أثروا فى الفكرالمصري مثل د. محمد حسين هيكل وطه حسين وأحمد لطفى السيد ومصطفى عبدالرازق وعلى عبدالرازق ومحمود عزمي وغيرهم طوال الفترة من 22 1936.
تلك هي ملامح أول معرفتي البكر الأولى بطه حسين عبر السماع من الآخرين، ومن خلال ريف مغاغة.
المرحلة الثانية: ما بين طه حسين وشكسبير الوفد
أتيح لي عبر عائلتي التى تأصلت فيها معاني السياسة أن أعرف معنى انتماء طه حسين " بمدي عبقريته"، للأحرار الدستوريين، إلى حد أننا كوفديين كنا نردد:ليته كان وفديا - وفى تلك الآونة كان عملاق الثقافة الوفدية عباس العقاد، عملاقا بشهادة الابتدائية، وفى الجانب الآخر طه حسين عملاقا حائزا على الدكتوراه، وكنا نريد عملاق الدكتوراه، ولذلك أطلقنا على العقاد "شكسبير مصر"، باعتبار شكسبيرلم يحصل على الدكتوراه إلا أنه كان عبقريا بلا شهادة، بل بالمولد والفطرة مثل العقاد.
كذلك فى الخطابة كان لدينا العملاق مكرم عبيد باشا الذى لا يباري، وفى اللغة الفرنسية ويصا واصف وواصف غالي وغيرهم، إلا أن الخلاف بين الوفد والأحرار الدستوريبنلم يؤثر على احترامنا للدكتور طه حسين الذى لم يكن وفديا حتى عام 1930، حينذاك عطل صدقي باشا دستور 1923 واستبدله بدستور 1930 المعروف بالأوتوقراطية، وعلى أثر ذلك قام ائتلاف ببن الوفد والأحرار الدستوريين للمطالبة بعودة دستور 1923، وفى عام1931 ارتقى د. طه حسين عمادة كلية الآداب، وفى محاضراته كان يرضع طلابه معاني الحرية والديموقراطية، ويعلمهم حقوق الإنسان وحرية الفكر، وإلى غير ذلك من المعاني العظيمة التى ما زلنا ننشدها فى كل وقت وزمان، وبالطبع لم يرق ذلك لصدقي باشا والهيئة الحاكمة، فصدر قرار إعفاءه من عمادة الكلية، فهب الوفد مدافعا عنه باعتباره ضحية الأوتوقراطية والديكتاتورية التى فرضت على البلاد فى عهد إسماعيل باشا صدقي، واعتبر الوفد إعفاء طه حسبن من العمادة اعتداء على حرية واستقلال الجامعة، وكنا كوفديين ننادى حينذاك ومازلنا بأن الجامعة بكيانها ومعناها يجب أن تكون مستقلة تماما عن الحاكم وأهوائه.
موريس وطه
أضربت كلية الآداب دفاعا عن عميدها، وكان شقيقي الأكبر موريس رحمه الله طالبا فى السنة الثانية بكلية الحقوق، وسجله الوطني الثوري يتضمن فصله فى ظل حكومةمحمد محمود بتهمة عزاء النحاس باشا فى وفاة والدته ثم أعيد للجامعة مع عودة الوفد، وحينما اعتدى على استقلال الجامعة بإقصاء طه حسين من منصبه، تحركت لدى موريس فخري عبد النور، الروح الوطنية، ورأى أن من واجبه أن يقود حركة عصيان وإضراب دفاعا عن حرية الجامعة واستقلالها وعن د. طه حسين، فدعا جميع كليات الجامعة إلى إضراب عام، وعلى رأسها كلية الحقوق، وعلى إثر هذا العمل الوطني اجتمع مجلس تأديب كلية الحقوق، وأحيل شقيقي لمجلس التأديب تمهيدا لفصله مرة ثانية، وهنا تدخل على باشا إبراهيم مدير عام الجامعة، وكامل مرسي عميد الحقوق، واكتفى المجلس بفصله شهرا واحدا، لكن إضراب الجامعة كان قد نجح نجاحا منقطع النظير، وظهرت الجامعة فى أفضل مظهر فى دفاعها عن حريتها واستقلالها، وكان د. طه حسين رمز هذه الحرية وذاك الاستقلال.
وحينما انتهى الإضراب نشأت بين طه حسين وشقيقي علاقة شخصية، وأصبح طه حسين بالنسبة لنا شخصية محببة وقريبة، وكان يتردد على زيارتنا بمنزلنا، وامتزج الشخصي بالسياسي، خاصة وأن الائتلاف بين الأحرار الدستوريين والوفد محا الفوارق الحزبية، وكنا نعتبر طه حسين بحكم موقفه وفديا.
أما عن علائق العلاقة الخاصة، فأذكر أن طه حسين كان وقتها يقيم فى منزل من منازل شركة مصر الجديدة، وكان منزلنا فى العباسية فى آخر خط الترام الأبيض كما كان يسمي حينذاك، وكان طه حسين يستقل الترام من مصر الجديدة حتى منزلنا الذى كان على رأس محطة الترام، بصحبة د. توفيق شحاته الحاصل على الدكتوراه فى القانون من السوربون أيضا، وكم من المرات زارنا وجلس مع شقيقي ووالدي - رحمهما الله - يتحدثون فى السياسة.
وتمضى الأيام وتحضرني الذكريات..
فى عام 1934 يدخل والدي متأبطا تحت ذراعه كتاب "الأيام"، وكنت أدرس فى ذلك الوقت بمدارس الجيزويت، وكانت اللغة الأساسية هي الفرنسية، إلا أنني كنت أدرس اللغة العربية منذ النشأة على يدي مشايخ الأزهر، وأغلبهم بلدياتنا من جرجا، وبهذه المناسبة أذكر الشيخ سيد البنجاويإمام مسجد باب الشعرية، حيث كان يدرس لي اللغة العربية شعرا ونثرا بالمنزل كل يوم أحد وخميس من كل أسبوع، وقد درست على يديه فى البداية "ماجدولين" و"تحت ظلال الزيزفون" للمنفلوطي.
وعندما دخل والدي بكتاب طه حسين تقدم منى ومد يديه إلى به قائلا: يا سعد أحضرت لك كتابا للشخص الذى تحبه.
وعاد بي كتاب "الأيام" إلى الوعي البكر والطفولة وقرية الكيلو، ورأيت نفسي وطفولتي فى الكتاب، ثم أحضر والدي كتبا لتوفيق الحكيم مثل "يوميات نائب فى الأرياف" و"شجرة الحكم".. كان جيلنا متأثرا بطه حسين وتوفيق الحكيم فى الأدب، وبالعقاد ومحمود عزمي فى السياسة، وتوفيق دياب فى الخطابة، وكذلك تأثرنا بكتابات د محمد حسين هيكل خاصة حينما كتب 1938 "فى منزل الوحي"، و"حياة محمد"، إلى غير ذلك من أمهات الكتب التى كونت وعينا العام وثقافتنا العربية.
وكان طه حسين فى تلك المرحلة يعتبر نفسه وفديا، وقد ساعد على ذلكالخلاف الذى وقع بين العقاد والوفد، والذى على إثره كتب العقاد بجريدة "روز اليوسف" مهاجما بشدة وزارة توفيق نسيم، وهي الوزارة التى طلب منها إعادة الوفد للحكم، جاء ذلك من العقاد بعد عدم اقتناعه بتوجهات الرئيس الجليل مصطفى النحاس، رغم أنه كان أكبر كاتب وفدي، إلا أنه فصل باعتباره خرج عن الخط الحزبي، ذلك جعل د. طه حسين يشعر أن هناك فراغا ثقافيا وفديا، فاقترب أكثر من الوفد، كما شعر النحاس باشا أن الوفد يحتاج إلى كاتب عملاق مثل طه حسين، فاحتضنه وشجعه على الانضمام إلى الوفد، وصولا إلى عام 1938وحيث ضم الوفد إلى صفوفه أحمد نجيب باشا الهلالي (والذى كان وزيرا للمعارف العمومية فى وزارة توفيق نسيم 1935) وكان طه حسين مستشاره، وبذلك أصبح من اليسير أن يتحولطه حسين إلى كاتب من كتاب الوفد، وصار يكتب فى صحف وفدية مثل "كوكب الشرق"، و"المصري".
مؤسس جامعة الإسكندرية
بعد توقيع وزارة الوفد معاهدة 1936مع بريطانيا، والتي بموجبها ألغيت الامتيازات الأجنبية، والمحاكم المختلطة، كلفت الحكومة الوفدية عددا من الوزراء بإعداد مشروعات يتوقف عليها نهضة الأمة، وكان من ضمن هذه المشروعات ضرورة تأسيس جامعة فى الإسكندرية، حيث أن جامعة فؤاد الأول -القاهرة- وحدها لم تعد تلبي حاجات العلم والمعرفة لشباب مصر المتعطش للتعليم والثقافة، وتبنى النحاس باشا هذا المشروع الذى توقف الإعداد له بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939، وفى عام 1942 بعد أن تولى النحاس باشا الحكومة طلب ملف الجامعة الجديدة، وعهد به إلى طه حسين مستشار وزير المعارف نجيب الهلالي باشا، وطلب منه أن يذهب إلى الإسكندرية بينما كانت جيوش روميلقد اجتازت السلوم واقتربت من العلمين، وأصبحت تدق أبواب الإسكندرية، وكانت التقديرات أنها سوف تقع في يد الألمان بعد أسبوع، وهكذا كانوا يفكرون فى الحرب ونحن نفكر فى السلام، لتكون جامعة فاروق الأول (الإسكندرية) هي ثاني جامعة مصرية بعد جامعة القاهرة، وهنا تحضرني عبارة قالها طه حسين بمنزله لاحقا:
إنه لم يكن من قبيل الصدف أن الجامعات الثلاث الكبريالتى أنشئت فى مصر (القاهرة – الإسكندرية - جامعة عين شمس) كانت فى ظل حكم الوفد.
وقد تبنى الوفد شعار طه حسين شعار طه حسين "التعليم كالماء والهواء"، وبدأ تنفيذ مجانية التعليم فى ظل حكومة الوفد 1950 والتي شملت مختلف مراحل التعليم قبل الجامعي: الابتدائي والثانوي.
كيف نشأت علاقتي الشخصية بطه حسين
ومن العلاقة بالسمع والانبهار الطفولي البكر على أرض الكيلو بمغاغة فى عشرينات القرن العشرين، إلى مرحلة اللقاء غير المباشر عن طريق شقيقي موريس واللقاء بمنزلنا 117 شارع العباسية فى الثلاثينات إلى العلاقة المباشرة فى باريس فى الأربعينات وصولا لنهاية حياته.
فى البدء كنت قد سافرت لإعداد الدكتوراه بعد أن سكتت مدافع الحرب العالمية الثانية، وحلت المعرفة والسلام محل سفك الدماء. هكذا سافرت مع أول فوج من الطلبة المصريين لباريس فى الفترة من 1946 حتى 1948، وكان للمصادفة الدور الأول للتعرف الشخصي بالدكتور طه حسين، فبعد أن وصلت إلى عاصمة النور أقمت فى فندق بالحي اللاتيني يسمي أوتيل "لوتسيا"، وكانت إحدي لوكاندات باريس المعروفة، ونظير مبلغ شهري كنت أقيم إقامة دائمة وتناول الإفطار، وإذ بطه حسين يقيم بنفس الفندق مع تلميذه وسكرتيره د. فريد شحاته الذى كان يسكن بغرفة مستقلة، ونشأت بيني وبينه علاقة شخصية، وقد علمت أن أخيه توفيق شحاته كان سكرتيرا لطه حسين ثم أصبح أستاذا فى كلية الحقوق بعد حصوله على الدكتوراه، وقد حل فريد محل أخيه بناء على توصيته.
أخبر فريد شحاته، طه حسين بأنه شاهد سعد فخري عبد النور، فأجاب طه حسين متسائلا: أخو موريس؟، فأجابه: نعم، فقال طه حسين: أريد أن أراه.. وذهبت إليه وسألني عن سبب قدومي لباريس، قلت له: للحصول على الدكتوراه - وأضفت: إنني أقتفى أثر معاليك يا باشا.
ولأنه كان يتمتع بشعبية نادرة لدي أساتذة السوربون بحكم شخصيته العبقرية، فقد أوصى على أساتذتي.
طوال إقامته فى باريس كان طه حسين يملى ليلا على فريد شحاته مقاله الأسبوعي "حديث الأربعاء"، ويقوم فريد بإرساله لجريدة "المصري"، وبعد أن ينهي فريد مهمته فيما بين الثامنة والنصف والتاسعة، كنا نجلس ما بين السمر والثقافة فى المقهى الواقع أسفل الفندق، وكان طه من آن لآخر يجلس معنا، وحين سافرت زوجته لبلدتها بجنوب فرنسا مصطحبة ابنهما مؤنس وأمينة، كنا نخرج ثلاثتنا (أنا وطه وسكرتيره) نتناول الغداء فى أحد مطاعم الحي اللاتيني، أذكر منها مطاعم "رودي، ليبيت، أوزامس"، ومن ثم نشأت علاقة شخصية وودية عميقة، وتحدثنا فى كثير من الأمور السياسية، ومنها حرب فلسطين.
وفى الحقيقة لقد نعمت بفكره وحكمته ورجاحة تفكيره، ونلت شرف التعرف من خلاله بعدد من كتاب ومفكري فرنسا الذين كانوا يحضرون إليه بعد الظهر لتناول الشاي معه، مثل سارتر وأندريجايد، إلى غيرهم من أئمة الفكر الفرنسي.
وبعد أن أصبح طه وزيراعام 1950 سعدنا جدا، وقدأصبحت علاقتنا وطيدة، ورغم أنه لم يكن عضوا بالوفد، لكنه كان متعاطفا معه فى قضايا الديموقراطية، والمعرفة، ولذلك حينما عرضت فكرته بإنشاء جامعة إبراهيم باشا (عين شمس) على مجلس الوزراء قال له النحاس باشا أنت المسئول عن الثقافة فى مصر– وذلك إشارة إلى كتابه العمدة "مستقبل الثقافة فى مصر" الذى أصبح دستور الثقافة المصرية.
طه حسين صديقا وموكلا
هنا نتحدث عن انتقال العلاقة الشخصية إلى صداقة حميمة، واقتراب مهني وإنساني وسياسي فى الفترة بين عامي 1952 و1973، فبعد إقالة حكومة الوفدبعد حريق القاهرة فى 26 يناير 1952 المدبر من جهات متعددة منها الإنجليز وبعض رجال الوفد، ويقال بعض الجهات المتطرفة، إلا أن النتيجة الأساسية هي استخدام الحريق كذريعة لإقصاء الوفد عن الحكم.. كان طه حسين حينذاك يسكن فى الزمالك بفيللابجوار مدرسة الفنون الجميلة، وكنت قد تزوجت وأقمت أيضا فى الزمالك، وبدأنا فى التزاور العائلي، بعد أن توطدت أواصر العلاقات الإنسانية، وكان أولادهمؤنس وأمينة على قدر كبير من الثقافة الرفيعة، وكلاهما كانا خريج كلية الآداب القسم الفرنسي، وأنشآ بمساعدة زملائهم فرقة مسرحية كانت تعرض أعمالها بدار الأوبرا القديمة، ولم يكن ذلك بمعزل عن المناخ الشبابي الذى شهد نهضة فى الموسيقي الحديثة لموزارت وبيتهوفن، وهذه النهضة أثرت علينا وتأثرنا بها من منزل طه حسين.
كنت قد فتحت مكتبا فى 16 شارع الملكة فريدة (عبدالخالق ثروت)، وكانت بداية العمل مع طه حسين بكتابه الذى تحول إلى فيلم " ظهور الإسلام "، والذى أخرجه إبراهيم عزالدين شقيق د. محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر المعروف آنذاك، وكان طه حسين قد باع حق الأداء لإبراهيم عز الدين، والذى دفع له حق التأليف بمبلغ فى حدود ثلاثة آلاف جنيه على ما أذكر، وعرض الفيلم عام 1953 بسينما ريفولي بشارع فؤاد، واستقبل استقبالا حافلا من الجمهور، وفى أوائل عام 1954 نما إلى علم طه حسين أن المخرج صدر الفيلم إلى باكستان بعد دبلجته للغة الأوردية، ولاقى أيضا نجاحا منقطع النظير -كانت باكستان حديثة الاستقلال عن الهند - وراق شعبها المسلم الأبعاد الروحية للفيلم، ولذلك حقق أرباحا وفيرة، وعلى إثر ذلك طلبني طه حسين لبحث الأمر، خصوصا وأن العقد -من وجهة نظره- مع المخرج كان يقتصر على عرض الفيلم فى مصر فقط وباللغة العربية، وتساءل: أليس من حقي الحصول على جزء من الأرباح بعد تصديره إلى باكستان.
تلك كانت أول علاقة مهنية قانونية مع طه حسين.. ولعلاقتي مع د. محمد صلاح الدين لم أرد أن يتطور الأمر إلى نزاع قضائي، فلجأت إلى إبراهيم باشا فرج، وكان وقتها زميلا لصلاح الدين فى مكتب المحاماة المشترك ببنهما، وشرحت له الأمر، وبعد أن قرأ العقد أكد على أن طه حسينقد باع حق الأداء عن كتابه، ومن حق المخرج أن يبيعه فى أي مكان، غير أن د. محمد صلاح الدين حسما للخلاف نصح بدفع ثلاثة آلاف جنيه دفعة ثانية لطه حسينعلى أن يكتب عقد بيع نهائي.. وانتهي الأمر، وحسمت القضية صلحا.
وكان للدكتور طه حسين ختما، وحين التوقيع على أي عقد كان يعطيني الختم لإنجاز العقد، وفى وقت ما ترك لي الختم عدة أشهر، وهنا يحضرني أن طه حسين كان يبيع حق نشر كتبه لـ"دار المعارف" التى كان يرأسها شفيق متري!، وكان كلما يحتاج إلى مبلغ يتصل بي هاتفيا، فأذهببدوري لشفيق فأتقاضي المبلغ وأضع الختم باسم طه حسين.
هالة سعد
وفى عام 1954 حدثت واقعة عائلية لطيفة..
زوجتي كانت حامل، فكان يسأل عنها: إيه أخبار بنتنا هدي؟، أو "الدهبية هترسى امتي؟" -بمعنى متى سوف تلد؟، وكنت أجيبه: فى فبراير أو مارس.
وحينما رزقت زوجتي بابنة، وكان نجيب باشا محفوظ بعد أن اعتزل التوليد قد نصحني بأن تضع فى المستشفى الفرنساوي بالعباسية، وفى إحدى زيارات د. طه حسين لمنزلي فى الزمالك سألني: حتسميها إيه؟، قلت له: نحن مترددين ولا نريد أن نسميها اسما من الأسماء الشائعة، ونفكر فى زينة أو هالة، فسألني: ما هو مصدر زينة أو هالة؟، قلت: زينة تعني أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، أما هالة فأنا لا أعرف واحدة تسمى هالة سوى هالة ابنة سيد ياسين صاحب مصنع الزجاج الشهير وقتذاك، فقاطعني قائلا: الهالة معناها الشعاع المضئ الذى يحيط بالقمر، فهدى زوجتك هي القمر، والشعاع المضئ حولها هي هالة.
سألته عن مصدر الاسم؟، فقال:هالة اسم عربي أصيل، والسيدة خديجة أم المؤمنين كان لها أخت اسمها هالة بنت خويلد.
سألت: وهل هناك ما يمنعني من أن أسمي بنتي على اسم أحد أفراد الأسرة النبوية الشريفة؟، أجاب: لا مانع، لأن هالة هذه حملت اسم هالة أربعين عاما قبل نزول الوحي - وأضاف: وعلى العموم هالة هذه بنت عم ورقة بن نوفل الذى كان مطرانا مسيحيا، ومتبحرا فى العلوم المسيحية – ومن هنا أطلقت اسم هالة على ابنتي.
حينما طلب من طه حسين أن يبصم!
فى ذات العام، وفى إحدى مسامراتنا المسائية بمنزله فى الزمالك فاتحني قائلا: يا سعد.. سوزان بتقول إن البيت صغر علينا، والأولاد كبروا، وأمينة اتخطبت، وأنها وقع اختيارها على قطعة أرض خارج المدينة لبناء فيلا عليها فى تقسيم يوسف بك وهبي الممثل المشهور، بشارع الهرم – وطلب منى الذهاب لمعاينة المكان ومعرفة مدى جدية التقسيم، وإمكانية شراء الأرض، وأخذت فريد شحاته وذهبناإلى هناك، وعلمنا أن يوسف وهبي باعها لأحدالمصريين من أصل سوري، ولكن هناك إمكانية للتفاهم معه، وقد كان، وذهبت سوزان فى اليوم التالى للمشتري وتنازل لها، ثم ذهبت إلى يوسف وهبي وقلت له: إن د. طه سيسعد بهذا المكان الهادئ والقريب من الجامعة، فقال: ليس لدي أي مانع، ومستعد للتسجيل للدكتور طه مباشرة حتى نوفر دفع الرسوم مرتين.
اتفقنا على موعد مع يوسف بك وهبي، وحضر طه حسين وفريد شحاته وذهبنا للتسجيل، ودخل علينا الموثق يملئه الزهو لأن د. طه حسين هو المتعاقد، وبالغ موظفي الشهر العقاري فى الحفاوة بعميد الأدب العربي، وبدأ الموثق يقرأ العقد كلمة.. كلمة، وكان يوسف بك وهبي مستعجلا فقال للموثق: يا أستاذ العقود معروفة ومقروءة، وأنا بعت وخلاص قبضت الثمن ولا يبقى إلا التوقيع، فوقع وانصرف.
ولكنني فوجئت بالموثق يشير لي بحذق.. وفهمت أنه يريد الانفراد بي.. فاستأذنت من د. طه وذهبت إليه، فسألني كيف يتم توقيع د. طه حسين وهو لا يبصر، أجبت: الختم معي، فقال: وفقا لقانون الشهر العقاري المعمول به من غير المبصرين والأميين إلى جانب الختم لابد أن يبصم!
قلت: كيف يبصم عميد الأدب العربي ووزير المعارف، ومؤسس جامعتي الإسكندرية وعين شمس؟.
قال: يا أستاذ القانون هو القانون.
وهنا وقعت فى مأزق، فقررت أن أذهب إلى المدير، وكان وقتذاك مهندس المساحة لبيب بك مسيحة، وكان ملما إلماما كاملا بالقاهرة شارع.. شارع، وكان يفتي فى كافة مشاكل المتعاقدين، ولذلك كنت أسميه "البريتور"، وهي تعني فى القانون الروماني "قاضي وفقيه ومستشار ومفتي"، وبعد أن شرحت له المشكلة أجاب: لا أستطيع، لا بد أن يبصم د. طه حسين لأن ذلك هو نص القانون، وأنا لا أستطيع تغيير القانون.
قلت: ستكون "بصمة" طه حسين "وصمة" فى الشهر العقاري فى عهد محمود شوقي بك - أي أن البصمة ستأتي بوصمة - فقال لي: ادخل له وناقشه.
وهكذا دخلت إلى مكتب الأمين العام للشهر العقاري د. محمود شوقي، وخاله مصطفي لطفي المنفلوطي الكاتب الشهير، وكان قد حصل على الدكتوراه من باريس بعد أن أوفده النقراشي باشا 1946 لإنشاء نظام التوثيق بطريقة الشهر العقاري، علما بأنه قبل ذلك كان توثيق العقوديتم فى قلم الرول بالمحاكم المختلطة، كذلك كانت تربط د. محمود شوقي علاقة بشقيقي موريس، وحينما تقابلت مع د. شوقي كررت ما قلته للبيب مسيحه، فقال: هذه حالة فريدة من نوعها، ونظر إلى لبيب متسائلا: أليس أنا الأمين العام بمقتضي مرسوم صادر من مجلس الوزراء، وبحكم أمانتي التى اؤتمنت عليها، أقترح أن نضع ختم د. طه حسين على العقد، ثم يأتي إلى سعد بصفتي أمين عام ونكتب محضر ونقول إننا نشهد أن هذه بصمة الختم الخاص بالدكتور طه حسين، وضعت أمامنا وبمعرفتنا وتحت مسئوليتنا..
كان حلا بديعا، وحينما عدت إلى د. طه حسين سألني عن سبب التأخير، فقلت له: إن المسألة متعلقة برسم التسجيل. وإلى أن توفي رحمه الله لم أقص عليه هذه الرواية.
كان طه حسين قد أطلق على الفيلا اسم "رامتان"، وكنت قد سمعتها "رمضان"، فسألته: هل هذا الاسم تكريم للشهر المبارك؟، فقال: بل رامتان، من يروم، أي مقصد لابني وابنتي.
كفارة
تبقي من الذكريات النبيلة لهذا الرجل العظيم، ذكري أخري حدثت بعد أن اعتقلت علىإثر الانفصال السوري عن مصر 1961، واستمر اعتقالي حتى يناير 1962، وكان الرئيس عبد الناصر قد أوصى بخروجي يوم 7 يناير للاحتفال بعيد الميلاد مع أسرتي، إلا أن زكريا محيي الدين وزير الداخلية حينما علم بقرار عبد الناصر قام بتأجيل الإفراج عنا يوما، لأخرج فى الثامن من يناير، وإذ بالدكتور طه حسين يحضر لمنزلي يوم 9 يناير ويرسل لي بطاقة مكتوب عليه كلمة واحدة هي "كفارة" صعدت البطاقة ولم يصعد طه حسين، وبعدها حضر لزيارتي فريد شحاته ومعه مظروف به مائتي جنيها، وكانت هذه هي المرة الأولي فى تاريخ علاقتنا التى يظهر فيها المال، لأن كل القضايا والاستشارات التى تعاملنا فيها، كنت لا أتقاضى عنها أية أتعاب، سواء عقد الصلح، أو عقد الفيلا.
كنت قد نقلت مكتبي من شارع عبد الخالق ثروت إلى مكتب مكتبي الحالي بشارع سليمان باشا، ولم أقبل على نفسي أن أتقاضي أتعاب من طه حسين، ورفضت استلام المبلغ، فقام فريد بالاتصال بالدكتور طه من منزلي تليفونيا وأخبره بالأمر، فطلب مني طه حسين أن أذهب لمقابلته يوم الخميس، وذهبت فكان ذلك اللقاء اللطيف..بدأ اللقاء بسؤالي له عن معنى كلمة كفارة -حيث أني لم أدرك المقصود منها- أجاب: الكلمة تعني أن ما نلته من الأذى يكفر عنك ما تكون قد ارتكبته من خطايا أو معاصي، وهكذا فالسجن غسل عنك ما تقدم وما تأخر من خطاياك - انتقلنا للمظروف وقلت له: إن ما بعثته معاليك أعتذر عن قبوله، فقال: أنا مصمم على أن تقبل المبلغ، لأنني أعرف كيف تعيش –كنت وقتها تحت الحراسة، وكان مبلغ المائتي جنيها يعنى الكثير–قلت:على النحو الذى وصفته عن أبوالعلاء المعري بعد أن أقصاه الخليفة العباسي عن ديوانه، وحينما سؤل كيف يعيش؟ فرد بلزومية تقول: والرزق يأتي ولم تبسط إليه يدي..سيان فى ذلك إقصائي وإدنائي.
وذلك لأن تلاميذ المعري كانوا يمرون عليه يوميا ومعهم هدايا من كل أنواع الغذاء من سمن ولبن وجبن.. وهكذا أنا أعيش يا صديقي.
علق طه حسين: أنا سوف أقبل عذرك يا سعد لو أعربت كلمة "سيان"، ولو عجزت عن إعراب الكلمة فسوف تأخذ المظروف.
وعجزت عن إعراب الكلمة، فقال د. طه حسين: "سي" تعني مثل، و"سيان" تعني مثلان، وجمعهما سواء.. أما وقد سقطت فى الامتحان، فعليك أن تتناول المظروف، وقهقه بضحكته المجلجلة العالية المدوية، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التى أتقاضى منه أتعابا.
وما زلت أحفظ لهذا الرجل الكثير، فضلا عن أنه علمنى العديد من الفضائل والعلوم، وظللت أتردد عليه كل يوم خميس من 1962، حتى انتقل إلى رحمة الله فى أكتوبر 1973 فى أعقاب حرب أكتوبر، وحافظت على أواصر الود العميق مع أسرته.. ابنته أمينة وزوجها د. أحمد حسن الزيات رحمهما الله، وما زلت على علاقة وطيدة بابنه مؤنس طه حسين، أطال الله عمره.