الترشيد الأمريكى للجموح البرى الإسرائيلى
فى ظل دعوات إسرائيلية محمومة؛ لتنفيذ الاجتياح البرى لقطاع غزة طوال الأيام الأخيرة، يبدو المشهد الميدانى والسياسى لم ينضج بعد لتنفيذ مثل تلك الخطوة المحفوفة بالمخاطر والتساؤلات، لذلك تصاحب إلحاح الدعوة للتنفيذ إشارات لمدى جاهزية الجيش الإسرائيلى، خاصة جنود وحدات الاحتياط الذين جرى استدعاؤهم على عجل كى تستقر فى منطقة «الغلاف». كما يُعاد صبيحة كل يوم تقريبًا طرح مزيد من الأسئلة عن طبيعة الأهداف المتوقع الذهاب إليها داخل القطاع، فى طريق القضاء على حركة «حماس»؛ باعتباره الهدف الرئيسى المعلن، لكن يظل الثابت أن «حكومة الحرب» الإسرائيلية لم يتشكل أمامها حتى الآن نسق متماسك، يمكن أن يضع إطارًا لهذا الفصل من عمر الحرب الإسرائيلية الفلسطينية.
يمكن رصد قدر من التباين فى التقديرات والمواقف؛ بين المستوى العسكرى الإسرائيلى و«كابينت الحرب» الغالب عليه المكون السياسى بقيادة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، يعكسه التأخر فى تجهيز الخطط العملياتية العسكرية لوحدات الجيش الإسرائيلى وفق أهداف الحرب، لذلك انحصر الجهد العسكرى الإسرائيلى منذ بداية استهدافه لقطاع غزة، فى تدمير البنية التحتية فى غزة، وقتل أكبر عدد من المسلحين الفلسطينيين، واستنزاف حركة حماس وبقية الفصائل حتى تتآكل قدراتها العسكرية والصاروخية. فى حين انشغل المستوى السياسى بتوفير مظلة شرعية على الساحة الدولية لاجتياح برى واسع النطاق فى المدن والمناطق الحضرية المأهولة بالسكان. كذلك، وهو الأهم، الحصول على الضوء الأخضر من إدارة الرئيس الأمريكى وقيادات البنتاجون، لضمان استمرار حالة «التشاركية» التى تسعى تل أبيب لجعلها فى مقدمة ما هو ظاهر للجميع، والتأكيد على استمراريته أمام فصول التداعيات المحتملة وفق ما ستشهده مسارات الأحداث.
من خارج الدوائر الرسمية؛ لكنها تظل أصواتًا مسموعة ومهمة، برزت أكثر من وجهة نظر تحاول أن تكبح جماح هذا السيناريو، وتدق ناقوس التحذير من حجم أخطار منتظرة ليست بالهينة. وهنا يُشار إلى أخطار تنتظر الجيش الإسرائيلى، وتضر مصالح دولة إسرائيل بشكل مباشر، ومنها المقال الافتتاحى الذى كتبه «توماس فريدمان» الكاتب الأمريكى الشهير فى صحيفة «نيويورك تايمز» منذ أيام. وجاء بعنوان «إسرائيل على وشك ارتكاب خطأ فادح»، حث فيه إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن على المضى قدمًا فى إقناع القادة الإسرائيليين، بأن يتجنبوا القيام بغزو برى لغزة، لأن ذلك من شأنه ليس فقط الإضرار بالمصالح الإسرائيلية، وإنما الإضرار بالمصالح الأمريكية وإشعال المنطقة برمتها. فريدمان الذى استطاع الوصول إلى بعض من كواليس ما جرى بين الرئيس الأمريكى وقادة إسرائيل، ذكر أنه يعلم أن جو بايدن حاول جاهدًا إقناع القادة الإسرائيليين بالتوقف عن غضبهم، والتفكير فى ثلاث خطوات للأمام. ليس فقط حول كيفية الدخول إلى غزة للقضاء على حماس، ولكن أيضًا حول كيفية الخروج، وكيفية القيام بذلك مع وقوع أقل عدد ممكن من الضحايا المدنيين. ووفق نص مقاله؛ أعرب الرئيس عن فهمه العميق للمعضلة الأخلاقية والاستراتيجية التى تواجهها إسرائيل، فقد ناشد القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين أن يتعلموا من اندفاع أمريكا إلى الحرب بعد أحداث ١١ سبتمبر، التى أخذت قواتنا إلى عمق الطرق المسدودة، والأزقة المظلمة، لمدن وبلدات غير مألوفة فى العراق وأفغانستان.
لكن من الواضح أن الرئيس الأمريكى فى نهاية زيارته، أخفق فى إحداث تغيير حاسم فى الموقف الإسرائيلى. فقد كتب فريدمان أنه وفق ما استقاه من كبار المسئولين الأمريكيين، فشل بايدن فى إقناع إسرائيل بالتراجع، والتفكير فى جميع الآثار المترتبة على غزو غزة بالنسبة لإسرائيل، والولايات المتحدة. لذا استسمح القراء أن يصيغ هذا بلغة صارخة وواضحة قدر الإمكان، لأن- من وجهة نظره- الساعة تبدو متأخرة. وقد أفرد مقاله بعدها لشرح وجهة نظره تفصيليًا؛ لكن ربما أهم وأشمل ما جاء فيها من إشارات تعبر عن شريحة أمريكية كبيرة، ليست ضد إسرائيل بالطبع، بل ربما تبدو أكثر انحيازًا لها فى المجمل، لكنها تقيس المشهد بتفاعلاته على نحو مغاير أكثر عقلانية. لهذا يذكر فريدمان؛ أنه يعتقد فى حال اندفعت إسرائيل الآن إلى غزة لتدمير حماس، وفعلت ذلك دون التعبير عن التزام واضح بالسعى إلى حل الدولتين مع السلطة الفلسطينية، وإنهاء المستوطنات اليهودية فى عمق الضفة الغربية، فسوف ترتكب خطأ فادحًا، وسيكون ذلك مدمرًا للمصالح الإسرائيلية والأمريكية، بل قد يؤدى ذلك إلى إشعال حريق عالمى، وتفجير هيكل التحالف المؤيد لأمريكا بالكامل الذى بنته الولايات المتحدة فى المنطقة، منذ أن هندس «هنرى كيسنجر» نهاية حرب يوم الغفران فى عام ١٩٧٣. وهو هنا يتحدث عن معاهدة كامب ديفيد للسلام، واتفاقيات أوسلو للسلام، واتفاقيات إبراهيم، والتطبيع المحتمل للعلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، الأمر برمته قد يشتعل.
وباعتبار المشهد بالفعل مربكًا وينطوى على كثير من التعقيدات، لم تقتصر تلك الرؤى على أصوات أمريكية ترى الوضع من منظور كلى بعيد، يتسم ببرودة العقل قليلًا. إنما امتدت هذه الخشية إلى داخل إسرائيل وتحت جلد صناعة القرار الأمنى الاستراتيجى، فقد كتب «ديفيد عيفرى» المدير السابق لوزارة الأمن الإسرائيلى تقدير موقف بعنوان «لا تجرؤ على الدخول إلى غزة فى الوضع الحالى». ونشره فى صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية ذائعة الصيت، ذكر فيه أن «اجتياحًا بريًا لقطاع غزة، سيكون خطأ من الناحية الاستراتيجية». فهو يعتقد أن التوغل البرى سيفتح على الجيش الإسرائيلى جبهة برية ثانية فى «الضفة الغربية»، ولربما جبهة برية ثالثة مع حزب الله ولبنان، مؤكدًا أنه لا جاهزية حتى الآن للجيش النظامى كى يجابه سيناريو من هذا القبيل. فهذه القيادة الأمنية الرفيعة السابقة، ترى أن غزة لا تشكل لإسرائيل تهديدًا وجوديًا، ويمكن التعامل معها جوًا وبالضغط الاقتصادى. أما- حسب نص كلماته- إذا توغل الجيش الإسرائيلى بغزة، فإن الفخ يمكن أن يشكل تهديدًا وجوديًا.
هذه آراء أقرب لمطبخ صناعة القرار الأمريكى والإسرائيلى، إن لم تكن الأقرب على الإطلاق. والمشهد بتركيبته الأمنية والسياسية الذى يمتد إلى البعد الديموغرافى الحاكم أيضًا، تتناوشه أجراس الخطر من كل اتجاه، انتظارًا للحظة تعقل ما زالت مراوغة لم تتشكل بعد.