فى غزة.. لا يلعبون كرة القدم
كعادتنا دائمًا، هذه مواسم للمزايدة المجانية.
نختلف ونغضب ونسب؛ حتى ونحن فى سبيلنا إلى موقف واحد يجمعنا. على يقين بأن الجميع حزانى لأجل غزة، لأجل فلسطين، وكل على طريقته. لكن أن تتسع، إلى هذا الحد، دوائر الجدل حول الصورة «الواجب» أن يكون عليها موقف محمد صلاح، فذلك فخ العبث.
لا أراه مجرد خلاف بين محبى «صلاح» والمقللين من مكانته، أو مبالغة من جانب الهائمين فى حب «فخر العرب» وجماعة «القديس» إياه؛ بل هى انعكاس معتاد لبعض سماتنا المجتمعية: إما رؤيتى وإما الخيانة.
لا أحد ينام فى غزة. الناس تجوع. الناس تُقتل. الجميع فى حاجة إلى الدعم والمساندة بأى صورة؛ فيما آخرون مشغولون بالانتصار لآرائهم الشخصية، التى اعتادوا الهتاف لأجلها فى مدرجات ملاعب كرة القدم.
وصلت حدة الجدل إلى القول نصًا: «إن المعجبين بتبرعات محمد صلاح، هما الناس اللى هيسيبونا ويهربوا على المطارات لو لا قدر الله تعرضنا لأزمة فى مصر».
ليس هذا قول أحد مراهقى «السوشيال ميديا»، بل أفكار وأحكام صحفيين يُفترض أن يقودوا الرأى العام إلى المنطق وحسن التقدير.
رحم الله من قال: «لا كورة نفعت ولا أونطة، ولا المناقشة وجدل بيزنطة».
لا أتابع كرة القدم بجدية منذ 2011، تقريبًا، و«صلاح» بالنسبة لى ليس أكثر من مصدر لبهجة الناس، ومن ثم لست معنيًا بالدفاع عنه أو الهجوم على غيره.
«ربما»، ولا يحق لى أن استخدم فى التعبير عن آرائى وانطباعاتى سوى «ربما»، ربما أخطأ محمد صلاح فى مبالغته فى اتخاذ موقف إعلامى حذر تجاه قضية لها بُعد قومى عميق. لكن هل امتنع الرجل عن اتخاذ أى موقف؟
لا، هو فقط اختار طريقته الخاصة فى التعبير عن تضامنه، وهى الأكثر كلفة بالمناسبة. ربما كان من الأسهل والأوفر أن يكتفى بتغيير صورة «بروفايل»، أو التغريد بـ140 حرفًا، أو حتى وضع العلم على أكتافه كما فعل آخرون؛ وصفهم الغاضبون بأنهم «رجالة»؛ بينما محمد صلاح ماذا؟
يقولون فى الأمثال: «إيد على إيد تساعد»، فلماذا لا نستوعب بهدوء أن الحياة كما تتسع للجميع، فحلول الأزمات أيضًا تتسع لكل الجهود والمواقف؛ هذا بالمال، وهذه بالترجمة. هؤلاء بالمظاهرات، وأولئك بالمقاطعة. نحن بالكتابة، وغيرنا بصورة «البروفايل».
لسنا مضطرين إلى تصنيف تلك الموقف؛ أيها أكثر تأثيرًا، وأشد أولوية، فكلها متضامنة تؤدى الغرض، أو هكذا نأمل.
لكن الواقع ليس بهذه البساطة.
نعيش فى مجتمعات لا تؤمن بـ«القطعة»، تألف وتحب وتركض وراء «الجُملة»، ليس فى عروض «الهايبر ماركت» فحسب، بل فى محاسبة غيرهم على مواقفهم تجاه القضايا السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، أو حتى أذواقهم الغنائية.
نردد أن «المبادئ لا تتجزأ»، فماذا عن الرؤى؟ ماذا عن تنوع ردود الأفعال ولو أدت إلى اتجاه واحد فى النهاية؟
لا نقبل أن يقول أحدهم إنه يدعم غزة ويتضامن مع القضية الفلسطينية؛ لكنه غير مطمئن لاتساع علاقة حركة حماس بإيران، فهو «فى الجُملة» خائن و«مبرراتى». لن نسمع لمصرى يقول إن محبته وتعاطفه وسعيه لإنقاذ أهل غزة، لا تعنى بالضرورة قبوله المخطط الإسرائيلى القديم لإجبار أهل غزة على الفرار إلى سيناء، لتوريط مصر من جديد، فهذا تنتظره تهمة الأنانية و«عدو الإنسانية».
وهكذا، لا نستوعب حتى أن يقول أحدهم إنه يحب للمطربة الكبيرة الفلانية أغنيات كذا وكذا، فى مقابل أغنيات أخرى لها غير موفقة، «عليك اللعنة فورًا يا عديم الحس الفنى». كذلك فى الجانب الدينى، وهو الأكثر حساسية عند تجزئة المواقف، فإن قلت إنك تميل إلى المذهب الفلانى فى تفسير قضية ما، وتختلف مع رؤى تراها عبثية من تلك التى أفتى بها شيوخ «بعضلات»، فأنت غير مؤمن إجمالًا، يا «آكل اللحوم المسمومة».
إما معنًا تمامًا، ووفق رؤيتنا الشخصية كلية، أو أنك من الهالكين. هذه لعنتنا، وليست قصة تبرعات محمد صلاح بالملايين، فى مقابل كتابته 140 حرفًا.
باب المزايدة ملعون، وإن فتحناه؛ فمن حق المقاتلين أن يقولوا للمتبرعين بالدعم: نحن الأصدق فى دعم القضية. وأن يقول المتبرعون بالدعم لرافعى الرايات فى المباريات: نحن أكثر «عَملانية» منكم. ثم يقول رافعوا الأعلام فى المباريات للمشاركين فى المظاهرات: مواقفنا أكثر شهرة من هتافاتكم المجانية.
لكل إنسان عين وعقل ولسان، ملكية خاصة له. ومن حق الجميع التعبير عن مواقفه بعقله ولسانه الخاص. وليس من حقنا توجيه اللوم ضد أحد، خصوصًا إذا اتخذ موقفًا إيجابيًا «يتفق» مع الإنسانية، وإن «خالف» موقفنا الشخصى.
إن قلت لهؤلاء إن للدكتور مصطفى محمود قصة مسلسلة بعنوان يستحق التأمل: «نحن لا نرى بعيون الآخرين»، سيردون عليك بأن لطفى بوشناق له أغنية أجمل يقول فيها: «خذوا عينى شوفوا بيها».
كلنا نريد أن نرى فى الآخرين نسخًا من أنفسنا. فى هذه المنطقة من العالم؛ ستكون تجارة «المرايا» رائجة على الدوام.