الكنيسة المصرية وفلسطين
تشهد منطقة الشرق الأوسط، للأسف الشديد، فى الفترة الحالية صعودًا كبيرًا لتيارات اليمين المتطرف، وما يترتب على ذلك من تزايد موجات العنف الطائفى، بل دفع المنطقة إلى حافة الهاوية.
واسترعى انتباهى فى الأيام الأخيرة ظاهرة اجتياح المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين ساحات المسجد الأقصى، بل القدس القديمة بشكل عام. ومن المناظر المقززة صورة بعض المستوطنين المتطرفين وهم يبصقون على رجال الدين المسيحى فى القدس، وكأنهم ينفون وجود هؤلاء فى الأراضى المقدسة، بل يعتبرون «المؤسسات المسيحية» رجسًا ينبغى أن تتطهر منه القدس، فى محاولة لنفى الآخر، تُعبر بالضرورة عن جهل واضح بحقائق التاريخ، ودفعنى ذلك إلى أوراقى لبيان مدى رسوخ الكنيسة المصرية فى فلسطين، الأراضى المقدسة، منذ مئات السنين.
ارتبطت الكنيسة القبطية ارتباطًا وثيقًا بأرض فلسطين، فهى الأرض المقدسة التى شهدت ميلاد السيد المسيح، ودعوته المباركة.
وتُرجِع معظم الدراسات نشأة الوجود القبطى فى فلسطين إلى الزيارة للأماكن المقدسة فى المدينة، منذ اكتشاف الإمبراطورة «هيلانة» الصليب المقدس عام ٣٢٥م وتأسيسها «كنيسة القيامة». ولا أدل على ذلك من اشتراك البطريرك القبطى أثناسيوس فى تدشين هذه الكنيسة مع بطريركى أنطاكية والقسطنطينية، وكذلك قصة القديسة «مريم المصرية» التى حضرت إلى القدس فى عام ٣٨٢م، حيث استقرت هناك وذاع صيتها، حتى أنه بعد وفاتها تم تشييد كنيسة باسمها مجاورة لكنيسة القيامة.
واستمر الوجود القبطى مع الفتح العربى، فقد نص كتاب الأمان المعروف بـ«العهدة العُمرية» على ذكر الوجود القبطى فى القدس ضمن عهد الأمان لكل الطوائف المسيحية فى المدينة المقدسة. واستمر بناء الكنائس والأديرة القبطية فى فلسطين؛ ففى القرن التاسع الميلادى تم إنشاء كنيسة قبطية فى القدس عُرفت بـ«كنيسة المجدلانية»، ولعل أشهر الأمثلة جميعًا هو «دير السلطان»، الذى رغم التضارب فى نسبته إلى أحد السلاطين، يعتبر حتى الآن من أشهر مظاهر الوجود الدينى للأقباط فى القدس.
لعل أهم تحوّل فى تاريخ الوجود القبطى فى فلسطين حتى النصف الأول من القرن الثالث عشر، هو ما تم فى عصر البابا كيرلس الثالث بنشأة إيبارشية الكرسى الأورشليمى للأقباط الأرثوذكس، فحتى ذلك الوقت كان الوجود القبطى، ليس فى فلسطين فحسب ولكن فى كل بلاد الشام، تحت رعاية بطريرك أنطاكية، لكن البابا كيرلس الثالث خطا خطوة مهمة فى هذا الشأن، حيث أنشأ لأول مرة مطرانية قبطية لفلسطين وكامل بلاد الشام، ورسم لها أحد الأساقفة الأقباط.
وربما دفعه إلى ذلك التنافس بين كرسى أنطاكية والإسكندرية، فضلًا عن هجرة بعض الأقباط من مصر واستقرارهم فى فلسطين وبعض المدن الشامية الأخرى، وحاجة هؤلاء إلى راعٍ قبطى. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن أصبح لمطرانية القدس مركز مهم فى الإكليروس القبطى.
ولدينا وثيقة ترجع إلى القرن السابع عشر الميلادى تُحدِّد مهام مطران الكرسى الأورشليمى، وهى تقليد صادر عن البطريرك القبطى برسامة مطران الكرسى الأورشليمى، وتحديد مهامه وواجباته على أن يكون:
«رئيسًا بالقيامة المعظمة والأماكن المقدسة، والآثارات السيدية، والبيَّع والديورة داخل القيامة المعظمة وخارجها، المختصة بجماعة النصارى طائفة القبط».
ويرتبط بالوجود القبطى فى القدس الزيارة الدينية إلى القدس التى تعتبر فى الحقيقة من أهم أمنيات القبطى وأحلامه، ويُطلق على مَن يقوم بهذه الزيارة «المقَدِّس»، وكان الأقباط يخرجون عادة إلى القدس فى شكل قافلة ذات موكب، محملة بالمؤنة والزاد. وتخرج هذه القافلة من المطرية فى ضواحى القاهرة وتتجه شرقًا إلى الخانقاه السرياقوسية (الخانكاه) لتأخذ الدرب السلطانى عبر سيناء إلى العريش، ثم غزة، ومنها إلى الرملة وأخيرًا إلى القدس.
وبالإضافة إلى المؤنة والزاد المصاحبة لقافلة الزيارة، كانت تُرسَل أيضًا مؤنة أخرى إضافية عن طريق البحر. وتُنقل هذه المؤنة من القاهرة إلى ميناء دمياط، حيث تُنقل بالبحر إلى يافا، ومن هناك بالبر إلى القدس.