منذ تكوينها حتى انتصار أكتوبر.!
تاريخ القوات المسلحة المصرية فى خمسة آلاف عام "4"
"الجزء الرابع"
محمد على باشا وإعادة بعث الروح المصرية القومية
"1"
كانت مشاهد احتلال جيش نابليون لمصر مشاهد متفردة فى تاريخ مصر، حيث تتفق المصادر أن وطنًا قد أتاه خبر غزوه قبل حدوثه بعشرة أيام كاملة، وأن هذا الخبر قد ذاع وانتشر وعرفه المسئولون عن الحماية العسكرية لهذا الوطن، لكن كل ذلك لم يغير شيئًا، وأن الغزو قد تم فى مشاهد عبثية نادرًا أن تتكرر مرة أخرى، مشاهد عبثية تكشف ما وصلت إليه أحوال مصر، وتكشف أن هناك هوة سحيقة تفصل بين ما وصل إليه العالم آنذاك عسكريًا من علوم وخطط وأسلحة وجيوش منظمة، وبين ما كانت عليه قوات المماليك والحاميات العثمانية. كان الغزو الفرنسى صدمة وجوبية لاستفاقة المصريين، وكان حدًا فاصلًا بين عهودٍ سابقة انتزعت خلالها عن المصريين روحهم القومية عمدًا، وبين عهود آتية– مهما يكن بها من أخطاء– تظل أفضل وأكرم كثيرًا من سابقاتها.
خرج الفرنسيون بعد أن مر المصريون بتجارب مريرة لكنها مفيدة لإيقاظ الروح القومية المصرية، وظهر أثر ذلك بسرعة شديدة فى تمردهم على الحكم العثمانى مع قدوم أول والى عثمانى لمصر بعد جلاء الفرنسيين، ثم ظهر مرة ثانية بعد ذلك بسنوات قليلة حين اختاروا بأنفسهم مَن يحكمهم رغم كونه غير مصرى، ثم كان الظهور الثالث والأقوى فى عودتهم لشخصيتهم الحقيقية حين دافعوا عن بلادهم ضد الحملة الإنجليزية، وقدموا مشاهد مقاومة وطنية أفشلت تلك المحاولة الإنجليزية المبكرة.
"2"
نتفق أو نختلف حول شخصية محمد على ودوافعه فيما استطاع تحقيقه فى مصر، لكن تبقى الحقيقة وهو أنه من طراز القادة الكبار الذين أهدتهم الأقدار لمصر فى التوقيت المناسب تمامًا، كان متفردًا فى طموحه وصياغته لشكل تجربته فى مصر، ومتفردًا بتميزه بإصرار فريد على تحقيق هذه التجربة وعدم يأسه رغم ما واجهه من مصاعب جعلت مشروعه أحيانًا يبدو فى عداد المستحيل، لكنه كان يعود كل مرة بعد أى مشهد محبط بكامل قوته وإصراره حتى استطاع أن يحقق ما يمثل أساس مصر الحديثة بحق.
والسبب فى إصرار القوى الاستعمارية الغربية على تحطيم مشروعه أنه قد اقترب مما يمكن تسميته المساحة المحظورة فى مصر، وهذه المساحة لا تشير إلى بقعة جغرافية، إنما تشير إلى اقترابه من فك شفرة الشخصية المصرية التاريخية، وهذا يعنى تهديدًا مباشرًا وصريحًا لكل قوى الاستعمار الطامعة فى مصر وموقعها ومقدراتها سواء من جيران أو قوى استعمارية دولية. لقد أتى محمد على باشا– من وجهة تلك القوى– فعلًا فى أعلى مراتب التحريم، وهو إيقاظ ذلك العملاق الخامد بفعل قرون طويلة من الكتم والخنق الحضارى المتعمد، لقد فعل ما حرمه اليونانيون والرومان والعرب وما تلاهم من أسر حاكمة مختلفة.
كانت الحاميات العثمانية من جنسيات مختلفة، ومحمد على نفسه كان ألبانيًا من فرقة ألبانية. تجاربه السابقة حتى وصوله لمصر صاغت أحلامه. كان مبهورًا بشكل الجيوش الغربية المنظمة المتقدمة، وكان يدرك الفروق بينها وبين النظم العسكرية العثمانية التى تعتمد على ضباط وجنود فاسدين غير منضبطين يثيرون الفوضى إن لم يتم لهم الحصول على ما يريدون، لا يدركون معنى الانضباط العسكرى، ولا يعرفون شيئًا عن النظم العسكرية الحديثة، ويتمردون على أية محاولة لإرغامهم على ذلك.
ثم وجد الظروف السياسية فى مصر مواتية ومغرية لتحقيق هذا الحلم الأسطورى. تكوين جيش نظامى على نفس طراز الجيوش الغربية، هذا هو الحلم الذى قرر تحقيقه على أرض مصر. كان هذا الحلم هو محركه فى مشروعه التعليمى، فإقامة جيش قوى منظم تحتاج إلى متعلمين وأطباء ومهندسين وصناع أسلحة وكل التخصصات. بدأ بالمدارس الابتدائية، ونأى بنفسه عن مواجهة الشيوخ وطلاب الأزهر الذين كانوا يرفضون مشروعه التحديثى. أنشأ ما يقرب من ستين مدرسة ابتدائية بمناطق مصرية مختلفة فى نظامٍ أشبه بالنظام العسكرى. صبر على تململ المصريين الذين لم يستوعبوا فى البداية ما كان يطمح إليه، ورأوا فى ذلك أعباءً إضافية وحرمانًا لهم من أبنائهم الذين يعملون معهم فى الحقول. وصل هذا التململ أحيانًا إلى مشاهد عبثية قامت بها بعض الأمهات من فقأ عيون أبنائهن، وواجه محمد على هذه المشاهد بحزم كبير حتى أصبحت المدارس أمرًا واقعًا.
"3"
فيما يتعلق بتأسيس محمد على جيشًا حديثًا من المصريين، فقد سبقت ذلك محاولتان قام بهما محمد على. كانت المحاولة الأولى عام 1815م، وبعد عودته من حرب الوهابيين، حين أمر بتدريب فرقة من جنود ابنه إسماعيل باشا على النظام الحديث، وذهب هو من أجل هذا إلى بولاق وأعلن رغبته فى إدخال النظام الحديث فى صفوفهم، وصارحهم بأن من لن يذعن لذلك يعاقب على تمرده، ولما عاد إلى شبرا تذمر الجند وتآمروا مع رؤسائهم عليه هو، وسعوا فى خلعه أو مهاجمته فى قصره بالأزبكية. علم محمد على بذلك فترك قصره سرًا فى منتصف الليل ودخل القلعة، ووقع تبادل لإطلاق النار بينهم وبين حرس السراى، ثم انطلق هؤلاء المتمردون إلى ميدان الرميلة ونهبوا الأسواق، فقام محمد على بإخضاعهم بالقوة، وأرجأ محاولته تلك! دفع تعويضات للتجار، وبدأ فى تشتيت هؤلاء فى مناطق بعيدة عن العاصمة.
ثم كانت المحاولة الثانية عام 1820 حين اختار مدينة بعيدة، وقرر أن ينشىء بها مدرسة حربية لتخريج ضباط للجيش، وقرر لذلك أن يختار معلمين وضباطًا مؤهلين لذلك من الأوروبيين. ووقع اختياره على مدينة أسوان لتكون أول مدينة تشهد مولد نواة الجيش المصرى الحديث. تصادف أن أتى إلى مصر قبل ذلك بعام الكولونيل سيف الفرنسى، الذى كان من قادة جيوش بونابرت، وبعد عهد نابليون خرج الكولونيل من الخدمة واتجه للزراعة، ثم نصحه صديق له بالتوجه لمصر، فأتى إليها عام 1819م، وقابل محمد على فأعجب به وعهد إليه بتنظيم جيش مصرى على الأسس الحديثة. اعتنق الإسلام وسمى نفسه سليمان. قدم محمد على لسليمان بيك خمسمائة من خاصة مماليكه، ليدربهم ليكونوا ضباطًا فى الجيش الحديث، دربهم فى مدرسة أسوان الحربية لثلاث سنوات. لقى سليمان فى البداية صعوبات كثيرة من هؤلاء وكادوا أن يقتلوه، لكنه استطاع فى النهاية إتمام تدريبهم وأحبوه وصاروا هم نواة هذا الجيش الجديد. وبعد أن توفر لمحمد على عددٌ منطقى من الضباط المؤهلين على أسس الجيوش الحديثة، بدأ فى التفكير فى الجنود ومن أى الطبقات يختارهم، فلم يشأ فى البداية تجنيد الفلاحين المصريين خوفًا من تأثير ذلك على الزراعة، أو أن يثير هياجهم لعدم اعتيادهم ذلك، ففكر فى تجنيد سودانيين بعد أن قام بضمه لحكمه. عهد إلى ابنه إسماعيل وصهره الدفتردار أن يرسلا إليه حشدًا من السودانيين فأتيا إليه بحوالى عشرين ألفًا منهم. فأرسلهم إلى قرية (بنى عدى) بالقرب من منفلوط، حيث تم البدء فى تدريبهم على أيدى الضباط الذين تم إعدادهم، لكن هذه المحاولة لم يُكتب لها النجاح لوفاة أعداد كبيرة منهم، لعدم موافقة جو مصر فى تلك المنطقة لصحتهم، ولأنهم لم يطيقوا أعباء الخدمة العسكرية.
"4"
بعد ذلك قرر محمد على تجنيد الفلاحين المصريين، فأنشأ ثكنات لتمرين المجندين منهم فى فرشوط وأسوان وبنى عدى. وفى يناير 1823م تألفت الأورط الست الأولى من جيش مصر المعاصر، وكان المماليك الذين تخرجوا فى مدرسة أسوان هم ضباط هذا الجيش. فرح محمد على كثيرًا بتجربته، وأمر بنزولهم القاهرة وعرضها فى الخانكة. وكانوا عدة آلاف من المشاة بكامل عدتهم، وقاموا بمناورات أثبتت حسن تدربهم. أنشأ محمد على معسكرًا عامًا للجيش فى "الخانكة" يحتوى على حوالى 25 ألفًا من الجنود، وفى أبى زعبل أنشأ المستشفى العسكرى الأول، ثم مدرسة الطب والمدرسة الحربية للمشاة ومدرسة أركان حرب فى الخانكة.
وقرر محمد على تجربة جنوده النظاميين فى ميادين القتال، فأنفذ الأورطة الأولى إلى الحجاز، والثانية إلى السودان، والأربع الأخرى إلى (المورة) لمحاربة اليونانيين، وأثبتت جميعها نجاح تجربته، وأبلى المصريون بلاءً حسنا.
واجه محمد على صعوبات كبيرة فى تجنيد المصريين فى البداية، واضطر محمد على أحيانًا إلى أن يسوق المجندون قسرًا إلى معسكرات التجنيد، وذلك كان رد فعل طبيعيًا على القرون السابقة، وما تعرض له المصريون من إبعاد ومحاولات عمدية لكسر الروح القومية المصرية.
لما اتسعت دائرة التجنيد استدعى محمد على من فرنسا طائفة من كبار الضباط ليعاونوه على تنظيم الجيش المصرى، فتكونت طوائف الضباط المصريين على يد المعلمين الأوروبيين، وأرسل طائفة من الشبان إلى أوروبا لإتمام دروسهم الحربية إلى هناك، فعادوا إلى مصر بعد أن حذقوا العلوم العسكرية وحلوا فى المدارس الحربية محل المعلمين الأجانب.
"5"
أنشأ محمد على عددًا من المدارس الحربية أولاها مدرسة أسوان الحربية، وفى عام 1825 أنشأ مدرسة قصر العينى للتعليم الحربى أو المدرسة التجهيزية الحربية وعدد طلبتها 500 تلميذ، لإعدادهم للالتحاق بالمدارس الحربية، ثم تم نقلها لأبى زعبل بعد أن خصص قصر العينى لمدرسة الطب، ومدرسة المشاة بالخانكة ثم بدمياط ثم بأبى زعبل، وأنشئت لتخريج ضباط للمشاة. مدرسة الفرسان بالجيزة ولم يتم إنشاؤها إلا بعد عودة الجيش من المورة، واستدعى محمد على لذلك عددًا من المعلمين الأوروبيين، أنشئت فى الجيزة فى قصر مراد بك. مدرسة المدفعية بطرة وتولى تنظيمها جماعة من الضباط الفرنسيين وضباط مصريين وفى مقدمتهم الضابط المصرى أدهم باشا الذى أسس ترسانة القلعة، أنشئت فى طرة وتولى إدارتها ضابط إسبانى، وهو الذى عرض على محمد على إنشاءها لتخريج ضباط المدفعية للجيش المصرى، وقد اختير لها ثلاثمائة من خريجى مدرسة قصر العينى الإعدادية. مدرسة أركان الحرب بالخانكة، أنشئت بناءً على اقتراح عثمان نورالدين باشا بالقرب من المعسكر. مدرسة الموسيقى العسكرية أمر محمد على بإنشائها تقليدًا للجيوش الأوروبية، وأحضر من أوروبا ما يلزم ذلك من آلات موسيقية، وأحضر عددًا من المدرسين الأوروبيين، تم إنشاء المعهد فى الخانكة، وهو يسع 130 تلميذًا تولى فيه التدريس أربعة موسيقيين، وكان مديره مسيو كاريه.
"6"
رأى محمد على أن إنشاء جيش حديث يلزم أن تكون له مصانعه الخاصة لإنتاج الذخائر، لأن الاعتماد على الخارج يُعرض هذا الجيش للخطر ويجعله تحت رحمة الدول الأجنبية، لذلك وجه كثيرًا من جهده لإنشاء مصانع الأسلحة فى مصر. أسس قائد المدفعية أدهم بك ترسانة القلعة لصنع الأسلحة وصب المدافع، وقد تعاظمت قدراتها منذ عام 1827م، وصارت معاملها تمتد من قصر صلاح الدين إلى باب الإنكشارية على ميدان الرماية. كان بها 900 عامل، ويصنع فيها كل شهر حوالى 640 بندقية، وبها قسم خاص لصناعة زناد البنادق، والسيوف والرماح للفرسان وحقائب الجنود وحمائل السيوف، وكل ما يلزم من تسليح الجنود من المشاة والفرسان وحلية الخيل، وبها مصنع لعمل صناديق البارود ومواسير البنادق ومصنع آخر لصنع ألواح النحاس لوقاية السفن الحربية. كان أهم مصانع الترسانة معمل صب المدافع، الذى تصنع فيه كل شهر ثلاثة أو أربعة مدافع، وأحيانًا تصنع بها مدافع الهاون. ولم يقل عدد عمال هذه الترسانة عن 1500 عامل. وعند سفح المقطم أعد محمد على باشا مكانًا خاصًا يكون مخزنًا للبارود. لم يكتفِ محمد على بهذه الترسانة، بل أنشأ فى الحوض المرصود سنة 1831م معملًا آخر لصناعة البنادق، بلغ عدد عماله 1200، يصنعون كل شهر نحو 900 بندقية من مختلف الأشكال والأنواع للمشاة والفرسان والطوبجية على طراز الجيش الفرنسى، وكانت تُعمل تجربة للمدافع فى كل أسبوع، وأقيم معمل للبارود فى منطقة المقياس بجزيرة الروضة، عمل به تسعون عاملًا موزعين على أقسام المعمل، وكان هناك عدد من معامل البارود تسمى "كهرجالات" فى البدرشين، والأشمونين، والفيوم، وإهناسيا والطرانة، تنتج مجتمعة 15784 قنطارًا من البارود فى العام.
أنشأ محمد على نظارة أو وزارة للحربية عهد إليها بقيادة الجيش وإدارة شئونه، وأناط إليها جلب جميع ما يلزم للجيش من سلاح ومهمات وثياب من مخازن الحكومة، وما يلزمه من ذخائر ومؤن وأدوية، وكذلك بها إدارة صحية، وفى كل أورطة عدد من الموظفين والأدوات لإقامة المستشفيات، وأنشأ محمد على أزياء خاصة بكل سلاح من أسلحة الجيش المصرى على غرار الجيوش الحديثة.
لدينا إحصاء مهم عام 1839 عن الجيش المصرى البرى.. ويقسم هذا الإحصاء الجيشَ إلى ثلاثة أقسام مقاتلة بخلاف العمال وطلبة المدارس الحربية، بلغ مجموع ذلك 235880 رجلًا. أى أكثر من ربع مليون شخص، يقسمون كالآتى: (جنود نظامية من مشاة وفرسان ومدفعية وغيرهم ويبلغ عددهم 130202– جنود غير نظامية يبلغ عددهم 41678– الرديف يبلغ عددهم 47800)، أما العمال المدربون على القتال وهم عمال المصانع الحربية فيبلغ عددهم 15000 رجل، أما طلبة المدارس الحربية فيبلغ عددهم 1200 طالب.
"7"
بدأ اهتمام محمد على بالأسطول منذ الحرب الوهابية لنقل الجنود إلى الحجاز بحرًا، فبادر إلى إنشاء سفن فى دار صناعة بولاق بعد إعادة تعميرها، أمر بتجهيز القطع الحربية من الخشب ثم نقلها على ظهور الإبل إلى السويس لتُركّب هناك وتنزل البحر، فالبحرية المصرية الحديثة بدأ ظهورها عام 1810م، وكان لها فضلٌ كبير فى نجاح حملته ضد الوهابيين. أنشأ العمارة البحرية الأولى فى ترسانة بولاق، وهى التى اعتمد عليها فى صنع السفن الكبيرة إلى أن أسس ترسانة الإسكندرية الحديثة. استطاعت الترسانة بناء سفن نقل كبيرة، لكن محمد على بادر إلى شراء سفن حربية أو توصية بإنشائها فى الثغور الأوروبية، ثم يقوم بتسليحها فى مصر بالمدافع، وفى واقعة نافارين البحرية دُمرت هذه السفن الحربية، وبعدها اعتزم محمد على إنشاء أسطول جديد بأيدٍ مصرية، فوجه همته إلى تأسيس دار صناعة كبرى فى الإسكندرية لبناء السفن الحربية، وقد حقق ذلك بمساعدة مهندس فرنسى يسمى سريزى، وهو مهندس بحرى فرنسى من طولون. يمكن القول إن محمد على شرع فى بناء قوته البحرية الحربية بعد بناء قوات جيشه البرية، وكما فعل فى الجيش البرى فعل فى الترسانة البحرية، حيث كانت بها ورش لصناعة الحبال والحديد وساريات السفن والذخائر وكل ما يلزم، بحيث لا يكون فى حاجة إلى جلبها من الخارج.
"8"
ورغم أن الفلاحين المصريين فى البداية كانوا يرفضون التجنيد، إلا أنهم وبعد أن ألفوه اعتادوا عليه وشعروا بقيمتهم واعتزوا بقوميتهم المصرية. يقول مسيو مانجان: "إن محمد على بهدمه الجيش غير النظامى، وتجنيده الفلاحين على النظام الأوروبى قد أكسب شعبه تقدمًا عظيمًا.. وردّ إلى مصر قوميتها".
يقول سليمان باشا: "إن المصريين هم خير من رأيتهم من الجنود، فهم يجمعون بين النشاط والقناعة والجَلَد على المتاعب مع انشراح النفس وتوطينها على احتمال صنوف الحرمان. وهم بالقليل من الخبز يسيرون طول النهار يحدوهم الشد والغناء.. لقد رأيتهم فى معركة قونية يبقون سبع ساعات متوالية فى خط النار محتفظين بشجاعة ورباطة جأش تدعو إلى الإعجاب دون أن تختل صفوفهم أو يسرى إليهم الملل أو يبدو منهم تقصير فى واجباتهم وحركاتهم الحربية".
وعن المصريين بعد انضمامهم للجيش لأول مرة يقول كلوت بك: "ربما يعد المصريون أصلح الأمم لأن يكونوا من خيرة الجنود، لأنهم على الجملة يمتازون بقوة الأجسام وتناسب الأعضاء والقدرة على العمل واحتمال المشاق. ومن أخص مزاياهم العسكرية وصفاتهم الحربية الامتثال للأوامر والشجاعة والثبات عند الخطر، والتذرع بالصبر فى مقابلة الخطوب والمحن، والإقدام على المخاطر، والاتجاه إلى خط النار والقتال بلا وجل أو تردد".
ويقول فى موضع آخر: "فى معركة حمص حدث أن جنديًا من الفرسان اسمه منصور فصلت ذراعه عن جسمه بقنبلة، فأبى وهو فى هذه الحالة التراجع عن ميدان القتال، بل تقدم رجال كتيبته بأشد البأس.. وفى معركة (قونية) ترك جميع الجرحى القادرين على حمل السلاح أسرّتهم فى المستشفى، ونفروا إلى ميدان القتال". ويستفيض كلوت بك فى وصف عشرات المشاهد عن مشاهداته وشهادته عن المقاتل المصرى فى أول جيش مصرى يتم تكوينه منذ انهيار تفكيك الجيش المصرى قديما.
وعلى نفس المنوال لدينا شهادات أخرى من شهود عيان مثل مارشال مارمون الفرنسى، الذى شاهد التغيير الذى قام به محمد على بعد اطمئنانه لإخلاص المصريين، فبدأ إسناد المناصب فى الجيش لضباط مصريين أثبتوا أنهم قادرون على القيام بمهام تلك المناصب، بل وأثبتوا– حسب شهادة مارشال مارمون– أنهم أحسن وأكفأ من الضباط الأتراك أنفسهم.
وشهادة أخرى على الجيش المصرى بعد انقضاء عهد محمد على. مسيو مربو الذى جاء إلى مصر فى عهد سعيد باشا يقول: "قد احتفظ الجيش المصرى بسمعته بعد انقضاء عصر محمد على، وبعد أن تناقص عدده. إن كفاءة الفلاح المصرى فى فهم النظام الحربى واتباعه وما اشتهر به من الثبات والشجاعة فى مواجهة الأعداء. كل هذه الميزات قد قامت عليها البينات لا فى ميادين القتال بجزيرة العرب وسورية فى عصر محمد على فحسب، بل بحسن دفاع الجيش المصرى عن سلستريا فى حرب القرم الأخيرة".
"9"
هذه المشاهد الجليلة هى بداية إعادة بعث الروح القومية المصرية من مرقدها، كان لمحمد على مشروعه العبقرى الشخصى الذى رأى فى مصر مسرحًا مثاليًا لتنفيذه. دفعت الأقدار محمد على دفعًا للالتجاء لتجنيد المصريين. لم يكن هذا خياره الأول لأسباب كثيرة، فطبيعته وما مر به تدفعه للتشكك والخوف من أن يصبح تحت رحمة المصريين، لكن الأقدار أثبتت له خطأ حساباته المتشككة، وحسن اختياره الذى اضطر إليه اضطرارًا.
منذ تفكيك القوات المسلحة المصرية الحقيقية قديمًا، والتى تجسدت فيها كل سمات الشخصية المصرية الحقيقية، وحتى عصر محمد على، لم تُتَح للمصريين الفرصة كاملة أو لشخصيتهم الحقيقية أن تعبر عنها، محمد على منحهم هذه الفرصة التاريخية، ورد المصريون له المعروف بأنهم لم يخيبوا ظنه، وكانوا هم السبب الحقيقى فى تمكنه من تحقيق حلمه الأسطورى على أرض مصر، وكان ذلك كافيًا جدًا لأن يستفز قوى الشر والضباع الدولية، وكافيًا لأن يقرروا ألا يُسمح بأكثر من هذا لا لمحمد على ولا للمصريين أنفسهم.
لو كان أبناء وخلفاء محمد على يتمتعون بنفس القدر من الذكاء والعبقرية والرؤية والتصميم والطموح، لربما تغير تاريخ مصر تمامًا بعد اختفاء محمد على من المشهد، لكنهم لم يكونوا كذلك، فجرى تاريخ مصر بعده على ما نعرف جميعًا، حتى ظهرت فى أفق مصر شخصية جديدة أثارت قلق نفس الضباع وغيرهم من قوى استعمارية جديدة.. فكان "كمين" 5 يونيو 1967م.
*****
فى الجزء الخامس.. كمين يونيو.. والنصر الأعظم فى أكتوبر.. وحديث الرئيس الأخير فى الإسماعيلية.