منذ تكوينها حتى انتصار أكتوبر.!
(تاريخ القوات المسلحة المصرية فى خمسة آلاف عام!) (3)
(الجزء الثالث)
(1)
ماذا حدث بعد الغزو العربى لمصر عام 642م؟!
(بعد أن تم للعرب فتح مصر بقى بها جيشُ احتلالٍ عربى ولم يُشرك العربُ المصريين فى هذا الجيش، ولم يرد فى صلح بابليون أي إشارة تدل على السماح للمصريين بالاشتغال بالجندية. وربما دعا العربَ إلى انتهاج تلك السياسة خوفُهم من أن يحيى المصريون روح القومية المصرية على حسابهم وأن يقوموا بطردهم من بلادهم متى حانت الفرصة، فرأوا من الحكمة أن يبعدوهم عن الأعمال الحربية وألا يتركوا لهم إلا الأعمال المدنية..)
هذه عبارات د. سيدة إسماعيل الكاشف فى مؤلفها (مصر فى عصر الولاة) الصادر فى أربعينيات القرن الماضى، والذى تمت إعادة نشره فى سلسلة تاريخ المصريين مع عملين آخرين من أعمالها. ود. سيدة الكاشف كما يصفها فى مقدمة هذه الطبعة من الكتاب د. عبدالعظيم رمضان (أستاذة التاريخ الإسلامى والعصور الوسطى بكلية البنات جامعة عين شمس، وأحد أعلام التاريخ الإسلامى فى مصر، وقد سبق لهذه السلسلة أن نشرت للأستاذة الدكتورة ثلاثة كتب فى تاريخ مصر الإسلامية هى مصر فى عصر الولاة، ومصر فى عصر الإخشيديين، ومصر الإسلامية وأهل الذمة)!
أصوغ هذه المقدمة لأن الباحث أو حتى القارئ العادى لتاريخ مصر فى العصور الإسلامية سوف تلفت انتباهه بشدة ظاهرة فريدة تتمثل فى أن مؤرخى وأساتذة تاريخ مصر الإسلامية فى النصف الأول من القرن الماضى لم يتحرجوا إطلاقًا فى استخدام المسميات الموضوعية الصحيحة لكل حدث أو سياسة، وأنهم تناولوا تاريخ مصر فى هذه الحقبة بموضوعية علمية مجردة، ولم يروا فى ذلك ما يتعارض مع كونهم مسلمين أى أنهم تناولوا الأحداث التاريخية كأحداث سياسية بشرية مجردة مما منح مؤلفاتهم ودراساتهم درجة أعلى من المصداقية. بينما بعض مؤرخى وأساتذة نفس الفترة التاريخية فى النصف الثانى من القرن الماضى وخاصة فى العقود من السبعينيات يشعرون بالحرج فى اختيار عباراتهم وتوصيفاتهم لنفس الأحداث التاريخية، وكأنهم يتناولون تلك الأحداث من منظور عقائدى وليس تاريخيًا!
(2)
أتم العرب استيلاءهم على مصر بجيش يترواح بين اثنى عشر وخمسة عشر ألفًا من قبائل العرب. وبمجرد استتباب الأمر لهم تم إنشاء إدارة جديدة بمسمى (ديوان الجند) تدون فيه أسماء الجنود وأسرهم ومخصصاتهم. وكان التدوين حسب القبائل وهذا ما سوف يؤثر فيما بعد فى سياسة استقدام جنود آخرين لمصر! بدأ كل والٍ جديد يستقدم معه من أبناء قبيلته أعدادًا كبيرة من الأسر التى سينضم رجالها إلى الجيش، وبعضهم أحضر معه عدة آلاف ووصلت الأعداد فى بعض الحالات إلى عشرة آلاف. منع الخلفاءُ الجنود من احتراف أعمال أخرى غير العمل فى الجيش. منذ 642م وحتى نهاية الدولة الأموية حوالى 750م كان الجيش فى مصر من العرب مع زيادة الأعداد بشكل كبير يمكن إدراكه حين نعلم أن حامية الإسكندرية وحدها بلغت اثنى عشر ألفًا بعد عشرين عامًا فقط من استقرار حكم مصر للعرب. حدث تغير واحد فى عصر الدولة الأموية فى خلافة كل من عبدالملك بن مروان وابنه الوليد بن عبدالملك (65 إلى 96 ھ – 684 إلى 715م) حيث سمح بعض القواد فى بعض الولايات بتجنيد بعض أهل البلاد، فمثلًا جند الحجاج بن يوسف الموالى فى العراق وإيران، وجند موسى بن نصير البربر فى شمال إفريقيا. لكن ليس هناك ما يشير إلى حدوث هذا فى مصر. لكن كانت فى نهايات الدولة الأموية مجموعة من أهل البلاد فى كل الولايات تسمى (المطوعة). وهذه الفئة لم يسمح لها بالدخول فى صلب الجيش، إنما كانوا يقومون بأدوار ثانوية فى خدمة الجيش فى الضرورات القصوى، ولم يتم تقييدهم فى ديوان الجند ولم يكن لهم الحق فى الحصول على أى مخصصات منه، وكانوا يحصلون على بعض العطايا من أموال الصدقات!
بعد وصول العباسيين للخلافة عام 132ھ – 750م حدث تغير كبير فى تكوين جيوش الخلافة، ومنها الجيش القابع فى مصر، حيث ضمت تلك الجيوش كثيرًا من الفرس تم تقييدهم مع العرب فى ديوان الجند، ثم ظهر العنصر الثالث وهم الترك الذين استكثر منهم الخليفة المعتصم أى أن عناصر الجيش فى مصر فى بدايات الخلافة العباسية كانت من (العرب والفرس والترك).
ثم حدث التغيير الكبير الثالث فى عصر الخليفة المعتصم (218ھ – 834م) حين أمر واليه على مصر بأن يطرد العرب من ديوان الجند وأن يقطع أعطياتهم وهذا يعنى أن الجيش أصبح من الفرس والترك وبعض الجنسيات الأخرى إلا المصريين!
(3)
(ملاحظة.. ترتب على قرار الخليفة المعتصم أن آلافًا من الجنود المقاتلين العرب أصبحوا فجأة بلا عمل وانتشروا فى طول مصر وعرضها.. كثيرٌ من المراجع تمر مرور العابرين على هذا الملف، وبعضها يذكره بعبارات غامضة عامة مثل أنهم انتشروا فى أنحاء مصر يسعون خلف الرزق عن طريق آخر فاحترفوا الزراعة والتجارة والصناعة وغيرها من الحرف التى كانت حتى ذلك الوقت وقفًا على أهل البلاد! فى الحقيقة هذه العبارات لا تعبر تعبيرًا حقيقيًا عما حدث، لأن المقاتلين العرب طوال قرنين كانوا يتعالون كثيرًا على الحرف المصرية بدءًا بالزراعة وصولًا للحرف اليدوية. وحتى يتحول آلاف المقاتلين هذا التحول الجذرى لا يمكنه أن يحدث بتلك البساطة خاصة أن خروجهم من الديوان كان طردًا صريحًا. لذلك فنحن أمام غموض فريد عن أحداث سنوات حاسمة. لا نملك إجابات عما فعله هؤلاء المقاتلون فى القرى المصرية وكيف حصلوا على الأراضى التى زرعوها فيما بعد.. لكن هذا الغموض ليس تامًا ولدينا جانبٌ معروف منه وهو أن بعضهم قد أثار الفوضى المسلحة فى مناطق تعدين الذهب فى جبال البحر الأحمر. واشتبكوا بالفعل مع أهالى المنطقة ونشب قتال بينهم.. لكن ماذا عن الذين انتشروا فى القرى المصرية؟ ماذا حدث بينهم وبين الفلاحين المصريين غير المسلحين؟! سؤال تجنبه كثيرٌ من الباحثين!)
إذن قام الحكم العربى لمصر طوال ما يسمى تاريخيًا (مصر فى عصر الولاة) والذى امتد منذ غزو العرب لمصر 642م وحتى قيام الدولة الطولونية عام 868م بإقصاء المصريين بشكل معلن رسمى عن الالتحاق بالجيش وساروا بذلك على نفس النهج الذى ابتدعه البطالمة أو اليونانيون ومن بعدهم الرومان! بل إن البطالمة سبق وأن جندوا كتائب مصرية أكثر من مرة وكذلك فعل الرومان بتجنيد مصريين فى جيش الإمبراطورية!
أما ما يخص الأسطول البحرى الحربى فقد اضطر العرب حين دفعتهم ضرورات خوض معارك بحرية ضد الروم أو الفرس أن يتسعينوا بالمصريين فى بناء أسطول كبير يعتبره بعض المؤرخين هو الأول فى دولة الخلافة، ويعتبره آخرون الثانى لأن معاوية بن أبى سفيان أثناء ولايته على الشام وقبل توليه الخلافة قاد غزوات بحرية ضد البيزنطيين! لكن المؤكد أن مصر كانت فى العقود الأولى بعد الغزو العربى مركزًا لبناء السفن لدولة الخلافة. وأصبح اسم (الصناعة) يقصد به المكان الذى يصنع به المصريون السفن. كانت موجودة فى جزيرة الروضة والسويس والإسكندرية. بل وأرسل بعض ولاة مصر كثيرًا من النجارين والملاحين المصريين لبناء أسطول فى المغرب أو حتى الشام. وكان الولاة يطلبون من كبار المناطق إمدادهم بعمال مصريين وحرفيين لبناء السفن ولتوفير الخشب اللازم، لذلك وضعت الدولة يدها على أشجار السنط فأصبحت تلك الأشجار من ممتلكات ديوان الجند ولا يُقطع منها إلا بإذن، وإذا وُجد شخص معه شىء من خشبه اشتراه من غير ديوان الجند كان يتم معاقبته والتنكيل به.
لدينا وقائع مسجلة عن قيام بعض الولاة بالتعامل العادل فى استئجار بناة الأسطول، بينما هناك آخرون تعاملوا مع هؤلاء الصناع بنظامٍ أشبه بنظام السخرة! تم استخدام المصريين كملاحين أو مجدفين وعمال، لكن لم يُسمح لهم بالعمل كمقاتلين فى الأسطول!
(4)
دخل أحمد بن طولون مصر 868م كوالٍ معه زمرة من الجند كمن سبقه من الولاة. لن أخوض فى تفاصيل وصوله للاستقلال بمصر، لكن فيما يخص جيشه الذى يعتبر أول جيش مستقل عن الدولة العباسية، فقد كان جيشًا مكونًا من حوالى مائة ألف جندى من جنسيات مختلفة الأكثرية من (سودانيين – أتراك – يونانيين)! وقد أكثر من شراء المماليك حتى أن عدد جيشه فى عهد خماروية أصبح يقرب من 400 ألف جندى بخلاف حرسه الخاص. كان ابن طولون يجزل العطاء لحراسه وجيشه ضمانًا لولائهم. وكان يحب استعراض جيشه فى المناسبات والأعياد. واهتم بالأسطول اهتمامه بالجيش فأعاد بناء أسطول بأيدى المصريين وفى توسعاته فى الشام ظهرت أهمية أسطوله الحربى. ويقال إن عدد قطع أسطول ابن طولون بلغ حين وفاته ألف قطعة بحرية.
عند دخول الإخشيد لمصر عام 935م كان الجند فيها قد انقسموا إلى طائفتين، الأولى أهل الشرق أو المشارقة وعلى رأسهم قائد، والمغاربة وعلى رأسهم قائد آخر، وكان بين الطائفتين منازعات كثيرة أدت لنشوب قتال بينهما لتعدد الجنسيات!
وفى عهد الدولة الإخشيدية (935 – 969م) هناك ظاهرة جديدة أن مصر أصبحت مركزًا لتجارة الرقيق. فمنذ الغزو العربى أصبح فى الفسطاط سوق لتجارة الرقيق، لكن فى عصر الدولة الإخشيدية أصبحت مركزًا تقصده القوافل التى تجلب الرقيق الأسود من الجنوب، والأبيض من بيزنطة وأرمينية وثغور البحر المتوسط. وكان كثيرٌ من العبيد المعتقين يحملون السلاح ثم ينخرطون فى سلك الجيش! لذلك يمكن القول إن الجيش المصرى فى عصر هذه الدولة المستقلة كان كسابقه منذ الغزو العربى، أى أنه لم يكن جيشًا مصريًا إلا كصفة جغرافية وسياسية، لكن المصريين لم يكونوا منخرطين به! فقد أصبح جيش الدولة الإخشيدية كسابقه يتكون من (ترك – سودانيين – مغاربة – مماليك أو رقيق معتوقين من جنسيات كثيرة متعددة)!
اهتم الإخشيد بالأسطول ونقل دار الصناعة عام 936م من جزيرة الروضة إلى دار (خديجة بنت الفتح بن خاقان) فى الفسطاط، وكان السبب أنه حين دخوله مصر هاجمه خصومه واشتبكوا مع جيشه وأحرقوا أسطوله بعد قتل قائده، فقرر نقل مكان الصناعة وأنشأ أسطولًا جديدًا أيضًا بأيدى المصريين!
وتذكر بعض المصادر أن عدد جنده وصله إلى ما يقارب 400 ألف جندى! ثم بعد وفاة الإخشيد دبت الفوضى فى صفوفهم وثاروا على قوادهم ونهبوا الأسواق وروعوا المصريين وأثاروا فزع العامة وتسبب ذلك فى نجاح الغزو الفاطمى لمصر!
(5)
بدأ العصر الفاطمى فى مصر عام 969م - 358ھ واستمرت الدولة الفاطمية بمصر لمدة قرنين. تكون الجيش الفاطمى الذى دخل مصر من عناصر أغلبها من طائفة المغاربة، وهذه تشمل عدة طوائف من البربر منها الكتامية والباطلية والمصادمة والجودرية وزويلة. مع هؤلاء المغاربة كانت هناك عناصر أخرى من عرب إفريقية والبرقية وبعض الروم والصقلية. وفى عهد الخليفة العزيز بالله أدخل عناصر الديلم والترك فى جيشه وأكثر من الاعتماد عليهم. وفى عهد الخليفة الحاكم بأمر الله ظهر عنصر السودان فى الجيش حتى بلغ عددهم فى الجيش خمسين ألفًا وظل هؤلاء يشكلون طائفة فى الجيش الفاطمى حتى زالت تلك الدولة. كما ظهرت فى عهده طوائف من العبيد خاصة السود والذين كان بعضهم يلتحقون بالجيش. حين تولى بدر الدين الجمالى الوزارة أدخل الأرمن فى خدمة الجيش الفاطمى حيث أحضرهم من بلاد الشام، كما عمل بهرام الأرمنى حين تولى الوزارة على استجلاب عدد كبير منهم إلى مصر. ثم أتى الأكراد مع أسد الدين شيركوه فى عهد الخليفة العاضد، فانضم هؤلاء إلى الجيش الفاطمى قبل قيام الدولة الأيوبية. فى أواخر الدولة الفاطمية بلغ قوام الجيش الفاطمى 40 ألف فارس، و36 ألف رجل وعشرة سفن محملة بعشرة آلاف مقاتل. وقد انقسم جيش الفاطميين إلى ثلاث طبقات، الطبقة الأولى الأمراء وهم قادة الألوف والمئات والعشرات، ثم طبقة خواص الخليفة وحرسه الخاص، وأخيرًا طبقة الجنود.
أما الأسطول فبدأ الفاطميون الاهتمام به فأسسوا فى مصر دارين للصناعة (أى صناعة السفن) فى القاهرة وأخرى فى دمياط وثالثة فى الإسكندرية. واستمرت إدارة (ديوان الجند) لتولى حصر الجند وحصر مرتباتهم وأعطياتهم من خير مصر!
وكانت تنشأ أحيانًا صراعات بين مختلف طوائف الجيش ويصل الأمر إلى الاقتتال الداخلى كما حدث بين طائفتى الأتراك والسودانيين، وكان المصريون هم من يدفعون ثمن هذه الصراعات من أمنهم وأحيانًا حياتهم وما يملكون.
استمر الفاطميون على نفس السياسة من استبعاد المصريين من الجيش. لكن التاريخ يأبى إلا أن يُنصف هؤلاء المصريين فى أوقات حاسمة.. حين أصبحت مصر مهددة من جانب الصليبيين فى أواخر العصر الفاطمى سمح الفاطميون لبعض المصريين بالانضمام للجيش فأصبحت هناك طائفة مصرية فى الجيش الفاطمى بها ضباط وجنود وأمراء بجوار الطوائف الأخرى. وحدث هذا فى الفترة ما بين زوال الدولة الفاطمية وبين قيام الدولة الأيوبية فى مصر!
(6)
قامت دولة الأيوبيين فى مصر عام 1174م وحتى عام 1250م. وكان قيامها متزامنًا مع أخطار الصليبيين على مصر والشام. فكان طبيعيًا أن يولوا للجيش والأسطول الاهتمام الأكبر. لقد أعاد صلاح الدين تنظيم جيشه عدة مرات حتى جعل منه قوة ضاربة يتألف من فرسان ومشاة وينقسم إلى (أطلاب) على كل طلب أمير أى ضابط. وبالإضافة إلى الجيش الدائم كانت هناك فرق مساعدة من (التركمان والعرب والأكراد) وكان هؤلاء بمثابة جند غير نظاميين وإن كانوا لا يقلون فى حالاتٍ كثيرة عن الجند النظاميين. كان جيش صلاح الدين مزيجًا من أكراد وعرب وسودانيين ومماليك أتراك. لكن يعتقد أن بعض المصريين وجدوا طريقًا للانضمام للجيش الأيوبى فى ذروة مواجهة الصليبيين. لكن يمكن القول لم يكن هناك تغيير يذكر عما سبق تلك الدولة من سياسة الاعتماد على جيوش من نفس الجنسيات السابقة (أكراد، أتراك، سودانيين، ومماليك من جنسيات أخرى كالمنغوليين).
أما بالنسبة للأسطول، فقد تم إهماله فى أواخر الدولة الفاطمية فكان فى حالة سيئة وقت استيلاء الأيوبيين على حكم مصر، مما عرض شواطئ مصر لهجمات متكررة من جانب الصليبيين. لذلك قرر صلاح الدين تخصيص أموال كثيرة لديوان الأسطول وأمر بإعادة بناء أسطول قوى وبعد خمس سنوات فقط استطاع بناء أسطول قوى يضم أنواعًا متباينة من القطع الحربية البحرية وناقلات الجند والخيول. بعد صلاح الدين أهمل خلفاؤه الأسطول فقام الصليبيون بمهاجمة شواطئ مصر مرة أخرى مما دفع الصالح نجم الدين أيوب أن يوصى ابنه توران شاه بالاهتمام بالأسطول. كان بناء السفن ومنذ قرون طويلة قد أصبح حرفة مصرية خالصة ولم تتوقف دور (الصناعة) فى مصر عن العمل عبر القرون، لكن كان أحيانًا يتم إضافة دور جديدة أو استبدال دار بأخرى، لكن ظل المصريون هم أساطين وسادة بناء الأساطيل الحربية منذ غزو عمرو بن العاص لمصر.
(7)
امتد حكم المماليك لمصر منذ عام 1250م وحتى الغزو العثمانى 1517م. يقسمه المؤرخون إلى دولتين، دولة المماليك البحرية حتى عام 1382م، ثم دولة المماليك الجراكسة حتى عام 1517م. لقد حكم المماليك مصر بوصفهم طبقة عسكرية سيطرت على البلاد وأهلها تم جلبهم من دول أجنبية كثيرة كرق أو مماليك ثم تمت تنشئتهم كمقاتلين فى حياة أشبه بمعسكرات المرتزقة التى أشرتُ إليها فى الحديث عما فعله الملك رمسيس الثالث. لذلك يكون منطقيًا جدًا أن تكون سياستهم فى تكوين جيوشهم هى الاستمرار على نفس النهج من جلب مماليك جدد عبر تجار الرقيق. ولذلك أيضًا تم استبعاد تجنيد المصريين. إلا فى حالات خاصة مثل مواجهة الحروب الصليبية وفى مشاهد الحسم قبل سقوط دولتهم أمام العثمانيين! لكن يمكن القول إن جيوش المماليك الحكام كانت من المماليك الجدد الصغار!
وهنا أود الإشارة إلى نقطة مهمة جدًا أصادفها كثيرًا فى كتابات بعض مؤرخى مصر الإسلامية من المعاصرين، حيث يتطوعون بأن يدافعوا عن المماليك دفاعًا كبيرًا ويحاولون أن يثبتوا ولاءً مملوكيًا لمصر هم– أى المماليك أنفسهم– لما يدعوه! ترتكن هذه النقطة على فكرة واحدة أن هؤلاء قد جُلبوا إلى مصر صغارًا فلم يعرفوا لأنفسهم وطنًا غيرها وبالتالى يكون منطقيًا ألا يدينوا بالولاء لغيرها! إننى أعترض تمامًا على هذا الطرح واعتراضى يستند على حقائق ووقائع تاريخ الحقبة المملوكية ذاتها، وكيف أن مسألة الولاء لوطن أو لأرض لم تكن أصلًا من مكونات شخصية أى مملوك مقاتل. فالمملوك يتم تنشئته على ولاءٍ واحد وهو ولاؤه لشخص وليس لأرض أو قبيلة أو عائلة. الولاء كان لمالكه وأستاذه وقائده الذى يغدق عليه العطايا والمنح، وإذا تولى هذا القائد منصبًا كبيرًا يمنح مملوكه عطايا أكثر! مشاهد الاقتتال الداخلى والصراع الداخلى بينهم على المغانم تقطع هذا قطعًا! وهنا أستعين بعبارة واحدة عبقرية من فيلم واإسلاماه وردت على لسان بيبرس بعد اغتيال شجرة الدر لأقطاى.. قال لقطز (أنا خلاص مفيش حاجة تربطنى بالمكان دا أنا مسافر!) هذه العبارة تتسق تمامًا مع ما ورد فى المصادر التاريخية عن تاريخ المماليك حتى وإن لم يقلها حقيقة بيبرس! ولا أرى أى داعٍ لأن يتطوع مؤرخون معاصرون بهذا الدفاع ومحاولة منح شخصية المماليك ولاءً مصريًا لم يكن موجودًا!
(8)
منذ عام 1517م وحتى الغزو الفرنسى لمصر عام 1798م كانت هناك فى مصر قوتان عسكريتان، الأولى منهما الحامية العثمانية التى كونها سليم الأول، والتى طرأ عليها تغييرات من فترة لأخرى، أما القوة الأخرى فهى قوات المماليك والذين سيصبحون فى الثلث الأخير من الحكم العثمانى هم حكام مصر الحقيقيون تحت ولاية اسمية للسلطان العثمانى وسلطة اسمية للوالى العثمانى الذى لم يكن يهتم سوى بقدر ما سيعود به من مصر من رشاوى!
كون سليم الأول جيش الحامية من ست فرق (وجاقات)، ونصب عليهم قائدًا يقيم بالقلعة، وجعل على كل فرقة ستة من الضباط وشكل من هؤلاء الضباط مجلسًا (ديوانًا) يساعد الوالى فى إدارة شئون البلاد. وقام بتنصيب المماليك كل واحدٍ على مديرية أو (سنجق) من أربعة وعشرين مديرية مصرية. وهؤلاء المماليك هم البيكوات أو حكام السناجق. وفى عصر السطان سليمان القانونى فى عام 1520م أضاف فرقة سابعة للجيش ضم إليها عتقى المماليك فبلغ جيش الحامية نحو 20 ألفًا من العثمانيين والمماليك! استمر ذلك نحو مائتى عام حتى أصبحت السلطة فى أيدى المماليك فى بدايات القرن الثامن عشر! وبسبب سياسة العثمانيين فى سرقة حضارة مصر، ثم استبداد المماليك سقطت مصر فى هوة سحيقة من التخلف صبغ كل جوانب الإدارة ومؤسسات الحكم ولم يكن هناك تعليم وطغى هذا التخلف على قوات المماليك وما يسمى بالحاميات على ثغور مصر فأصبحت هذه القوات خارج التاريخ فعليًا وسقطت مصر بسهولة يتندر عليها التاريخ حتى الآن فى أيدى الفرنسيين عام 1798م!
(9)
هذا هو موجز ما حدث بعد الغزو العربى لمصر وحتى الغزو الفرنسى فيما يتعلق بالجيش والأسطول داخل مصر ومدى علاقة المصريين بهما فى كل مرحلة من هذه المراحل التى تسمى تاريخيًا (تاريخ مصر الإسلامى). ويمكن القول إن العرب– وبصفة عامة مع بعض الاستثناءات النادرة– اتخذوا قرارًا منذ تمام سيطرتهم العسكرية على مصر بإقصاء المصريين ومنعهم عن عمد من الالتحاق بالجيش أو الأسطول الذى بناه المصريون! وهذا يُعد امتدادًا لنفس سياسة الاحتلال اليونانى الرومانى لمصر، وأن بعض المؤرخين المعاصرين يحاولون الدفاع باستماتة عن هذه السياسة أو تجميلها بينما يعرضها بشكل صريح مؤرخو نفس الفترة التاريخية ممن كتبوا أعمالهم فى النصف الأول من القرن العشرين!
بعد عصر الولاة وحتى غزو نابليون لمصر استمر حكام مصر الإسلامية– باختلاف مسمياتهم وانتماءاتهم– على نفس السياسة من الاعتماد على عناصر غير مصرية! كانت هذه الفترة هى امتداد لفترة الاحتلال اليونانى الرومانى، وكانت كلتاهما نتيجة لما سقط فيه ملوك مصر فى نهايات عصر الدولة الحديثة من التفريط فى (مصرية) القوات المسلحة المصرية. تفكيك تلك القوات بعد نزع مصريتها كان هو السبب فى سقوط مصر تحت الاحتلالات الأجنبية المتعاقبة، ولم يكن السبب هو قبول المصريين للحكم الأجنبى!
ثم كان أخيرًا الغزو الفرنسى هو بحق الحد الفاصل– فيما يخص تاريخ القوات المسلحة المصرية- بين فترتين من تاريخ مصر، الأولى منهما امتدت من بدء الاحتلال اليونانى، والثانية من لحظة غزو نابليون حتى الآن!
*****
فى الجزء الرابع سنرى ماذا حدث بعد هذا التاريخ الفاصل!!