منذ تكوينها حتى انتصار أكتوبر.!
(تاريخ القوات المسلحة المصرية فى خمسة آلاف عام!) (2)
(الجزء الثانى)
كيف دفعت مصر وقواتها المسلحة قديمًا ثمنًا باهظًا لقرارات سياسية خاطئة؟!
(1)
الجهل بتاريخ بلادهم فقط هو الذى أدى ببعض المصريين المعاصرين فى العقود السابقة إلى التندر بسماجة على هذا التاريخ، فصاغوا عباراتٍ مشينة عن خنوع المصريين لموجات الاحتلال المتعاقبة، وتم استغلال تلك العبارات فى أوقاتٍ بعينها لمحاربة هؤلاء المصريين أنفسهم نفسيًا وإفقادهم الثقة فى أنفسهم ووطنهم، ونشر حالة إحباط متعمدة كلما همت مصر بتحقيق خطوات للأمام تؤرق المتربصين بها!
فى نهاية الدولة الحديثة وفى نهايات حكم العظيم رمسيس الثالث – وكما ذكرت فى الجزء الأول – اتخذ هذا الملك قرارًا جانبه الصواب بخصوص آلاف الأسرى الذين أسرتهم القوات المسلحة المصرية فى حروبها المتلاحقة لصد موجات الاعتداء برًا وبحرًا. فقد أودعهم فى معسكرات أشبه بمستعمرات حربية بأعداد كبيرة، ثم بدأ من نهايات عصره الاستعانة بهؤلاء كمرتزقة على نطاق واسع وتم إلحاقهم بالجيوش المصرية. ثم بدأت أعدادهم فى الزيادة وبدأ بعضهم فى تقلد مناصب قيادية وحصلوا على إقطاعيات كبيرة من الأراضى المصرية. من بعد عصر رمسيس الثالث بدأ هؤلاء يورثون أبناءهم مناصبهم العسكرية بعد أن يقوموا بإعدادهم عسكريًا وانتشروا فى مقاطعات مصر، خاصة فى الوجه البحرى، وحين أصبحت لهم قوة بدأوا فى إبعاد المصريين من الانخراط فى سلك الجندية فأوقفوا بذلك نظام التجنيد المصرى الوطنى الذى ابتكره المصريون والذى كان أساس تكوين عقيدة الجيش المصرى الوطنية.
كان ذلك هو الظهور الأول لفكرة (المماليك) التى عادت للظهور فى العصور الوسطى بعد ذلك. معسكرات الأسرى تحولت لمعسكرات مرتزقة يتم بها إعداد الصغار إعدادًا عسكريًا ويحرم عليهم الاشتغال بأى حرفة أخرى حتى يتوارثوا وظائف آبائهم! ولكى ندرك خطورة ما حدث يكفى أن نعرف أن عددهم - بعد انتهاء الأسرة 21 وبداية الأسرة 22 حوالى 950 قبل الميلاد، أى بعد قرنين من وفاة رمسيس الثالث – أكثر من 41 ألف جندى موزعين على مقاطعات مصر وإن كان تركزهم فى الشمال أكثر.
تسبب هذا فى تفكيك الجيش المصرى الوطنى واستبداله بقوات مرتزقة أو مماليك ولا يربط بين تلك القوات سوى المصلحة المباشرة لهم ولقائدهم. لقد حدث هذا تدريجيا حتى وصل ذروته بعد قرنين من وفاة هذا الملك العظيم بمشاهد تشبه تماما ما كان يقوم به المماليك فى مصر بعد قرونٍ طويلة. بدأت هذه القوات فى مهاجمة المعابد المصرية ونهبها وأثاروا الفوضى فى ربوع مصر بعد أن سيطروا على الجيش. منذ ذلك التاريخ 950 ق.م بدأت سياسة استبعاد المصريين من الجيش تتصاعد مع استقدام عناصر مرتزقة من جنسيات أخرى جلها من الإغريق وبعض جزر المتوسط، بجانب المرتزقة الأوائل من القبائل التى هاجمت حدود مصر الغربية. فى الأسرة 26 (القرن السابع قبل الميلاد) تولى ملوك مصريون حكم مصر وكانوا يودون إعادة توحيد مصر وبعث نهضتها من جديد، إلا أنهم وخوفًا من نزاعات حكام الأقاليم استمروا فى نفس سياسة الاعتماد على المرتزقة، خاصة اليونانيين الذين وفدوا إلى مصر بأعداد كبرى للعمل كمرتزقة أو تجار قمح! تبعهم هجرات كبرى من السوريين واليهود استغلالا لسياسة ملوك هذه الأسرة فى الترحيب بالاعتماد على عناصر أجنبية فى الجيش والاقتصاد!
(2)
رغم هذه الصورة القاتمة، ورغم قلة أعداد المصريين الذين كانوا لا يزالون فى الجيش المصرى، فإن تاريخ هذه الفترة لم يخل من محاولات إفاقة قام بها هؤلاء لمحاولة بعث الروح القومية المصرية. ففى محاولات الغزو الآشورى لمصر (النصف الأول من القرن السابع ق.م) قام المصريون فى الجيش المصرى بقتال الآشوريين قتالًا عنيفًا وقفزت للحكم أسرة من صا الحجر شملت ملكين فقط (تف نخت) وابنه (باك إن إف) وهما اللذان قادا حرب التحرير القومية ضد الغزو الآشورى. لكن بعد ذلك لم تقوَ تلك القوات على مواجهة أمواج المرتزقة التى استقدمها ملوك الأسرة 26.
ترتب على ذلك أن أصبح الجيش المصرى غير مصرى! وظهرت لأول مرة فى تاريخ مصر مشاهد الخيانة العسكرية التى كان أبطالها قادة وجنود من المرتزقة! فمثلا جاء غزو قمبيز الفارسى لمصر عام 525 ق.م بعد أن فرّ إليه أحد قادة المرتزقة اليونانيين وكان يعمل فى جيش ملك مصرى اسمه (أحمس الثانى)، هذا القائد الخائن التقى قمبيز وأخذ يغريه بغزو مصر ويرسم له الخطة ويدله على مواطن الضعف فى استحكامات البلاد! واكتملت الخيانة بمساعدة بعض القبائل على حدود مصر الشرقية والذين أمدوا قمبيز بالجمال المحملة بقِرَب المياه التى أعانت جيش قمبيز على اجتياح الصحراء!
واقعة خيانة أخرى لكن هذه المرة كانت جماعية قام بها جزء كبير من المرتزقة اليونانيين وسبقت الواقعة الأولى بسنوات قليلة.. حدث أن جاء إلى سواحل ليبيا أعداد كبيرة من اليونانيين واستولوا عنوة على مساحات واسعة من أملاك الأهالى الذين استغاثوا بملك مصر وقتها (واح إيب رع). كان هذا الملك يسير على نهج مَن سبقوه بالاستعانة بمرتزقة يونانيين، لكنه لم يرغب فى إرسالهم إلى ليبيا خوفًا ألا يحاربوا بنى جلدتهم، فأرسل قوات مصرية، لكن تلك القوات وقعت فى كمين بخيانة من مرتزقة يونانيين فى مصر وكاد يونانيو ليبيا يفنون تلك القوات لولا صلابتهم فى مواجهة الموقف. وحين عادوا ثاروا ضد سياسة هذا الملك واستطاعوا وضع ملك آخر بدلًا منه وكان أحد قواده ويسمى أحمس. ما فعلته هذه المجموعة بث الروح القومية بين المصريين ونشأت مواجهات بينهم وبين المرتزقة، كما قادوا حركة الكفاح المسلح ضد الغزو الفارسى. استمرت حركة الكفاح القومية حتى طرد الفرس بعد ما يسمى بالثورة الكبرى عام 410 قبل الميلاد. ملك آخر من آخر الأسر الملكية المصرية قبل غزو الإسكندر هو (نخت نيف) الذى ضاق ذرعًا بنفوذ المرتزقة وحاول السيطرة على التجار اليونانيين بفرض ضرائب كثيرة عليهم وتحجيم المرتزقة العسكريين، لكن مصر تعرضت لمؤامرة يونانية بالتواطؤ مع الفرس.. استعد الفرس لغزو مصر مرة أخرى بجيش قوامه 200 ألف جندى ومعهم 20 ألف مرتزقة يونانيين. تمكن هذا الجيش من الوصول للدلتا، ولم ينقذ مصر سوى فيضان النيل!
(3)
تكتظ سيرة الأسرة الملكية الأخيرة هذه بمشاهد مؤامرات ضد مصر وضد أي محاولة قررها أحد ملوكها لاستعادة قوتها العسكرية البرية والبحرية. كما سقط ملوك منها فى نفس الخطأ بمحاولة إعداد قوات عسكرية اعتمادا على مرتزقة آخرين.. ومشاهد خيانات متكررة من قادة يونانيين. ينتهى المشهد أولًا بغزو الفرس لمصر مرة أخرى عام 343 ق.م أعقبته ثورات مصرية ثم مشهد غزو الإسكندر لمصر عام 332ق.م ليبدأ مرحلة تاريخية أخرى فقدت خلالها مصر استقلالها تمامًا، وتم إقصاء المصريين بشكلٍ رسمى من الالتحاق بالقوات المسلحة.
هكذا دفعت مصر حريتها واستقلالها ثمنًا لقرارات سياسية خاطئة، بدأت ككرة ثلج تتعاظم كلما مرت العقود.. وهكذا دفعت القوات المسلحة المصرية من تاريخها ثمنًا مؤلمًا لنفس القرارات السياسية. لم تتقبل مصرُ فكرة الحكم الأجنبى كما يعتقد جهلا كُثر من المصريين المعاصرين، كما لم تتورط قواتها المسلحة الوطنية طوال تاريخها فى أي مشاهد خيانة أو استسلام أو خنوع. سقط الملوك – رغمًا عنهم أولًا – فى خطيئة تاريخية كبرى حين نزعوا عن قواتهم المسلحة مصريتها ولم يدركوا كأسلافهم أن (مصرية) هذه القوات كانت كلمة السر فى شخصيتها العامة، وفى قدرتها على حماية الأرض والأمة والحضارة! فلم تبنِ مصر أو حضارتها قواتٌ أجنبية أو مرتزقة، إنما بنتها سواعدُ المصريين وصاغ عقيدتها مصريون. حين تم سلخ مصريتها انسلخت معها تلك العقيدة الوطنية. لم تصبح تلك القوات مصرية، بل أصبحت قوات أجنبية تعمل مقابل العطايا من هذا الملك أو ذاك!
(4)
احتل الإسكندرُ مصر بجيشٍ كثيف متعدد الجنسيات (إغريقيين ومقدونيين وسوريين ويهود وكتائب عربية)، وترك بها جيش احتلال مكونا من 20 ألف رجل وأسطولا مكونا من ثلاثين سفينة حربية. حين بدأ بطليموس الأول حكم مصر 323ق.م كان جيشه يتكون من مرتزقة مقدونيين وإغريق ويهود وسوريين. قامت الدولة السلوقية فى سوريا وبدأ الصراع بينها وبين البطالمة حتى حوالى 218ق.م فى عصر بطليموس الرابع وبعد معركة رفح...
تم حرمان المصريين من الانخراط فى الجيش البطلمى منذ عصر بطليموس الأول وتم حرمانهم من الإقامة فى الإسكندرية. لكن التاريخ يأبى إلا أن يُنصف هذه الحضارة المصرية وينصف معها أحد أهم أسس قيامها وهو قواتها المسلحة (المصرية) وذلك حين يتم السماح لفلاحيها بالانضمام إلى قوات مسلحة مصرية. ففى عصر بطليموس الرابع تولى حكم الدولة السلوقية المنافسة ملكٌ قوى طموح ومغامر قام أولًا بتوطيد أركان دولته ثم علم بضعف شخصية الملك البطلمى وتحكم طغمة فاسدة بالقصر الملكى وشئون الحكم. قرر الملك السلوقى أن ينتهز الفرصة ويستولى أولًا على ممتلكات الدولة البطلمية فى سوريا الجنوبية ثم يقوم بغزو مصر. بعد محاولة أولى فاشلة قرر أن يعيد الكرة مرة أخرى بعد عامين من محاولته الأولى وكان ذلك عام 218ق.م بأن يهاجم السواحل الفينيقية المصرية. استطاع الوصول بجيشه إلى مدينة رفح المصرية.. فى العامين بين المحاولتين كان بطليموس الرابع قد قام بتغيير كبير فى سياسة البطالمة فى التجنيد، وقد فعل ذلك فى سرية تامة. حيث قام ولأول مرة بتجنيد 75 ألف رجل ما يقرب من ثلثهم من الفلاحين المصريين (أكثر من عشرين ألفًا)! لأول مرة منذ غزو الإسكندر لمصر ومن قبل ذلك حتى بقرون تُتاح للمصريين فرصة ممارسة الحياة العسكرية. لم يكن هؤلاء الفلاحون مقاتلين أو أبناء مقاتلين.. كانوا فلاحين أبناء فلاحين. لم يتدربوا أكثر من عامٍ ونصف عام على أيدى ضباط وجنود إغريق ومقدونيين بأوامر ملكية. فى بداية المعركة اجتاح الجيشُ السلوقى جانبًا من جيش البطالمة بقيادة الملك نفسه الذى هرب من أرض المعركة، وكان الطريق مفتوحًا أمام الجيش السلوقى لغزو مصر ولم يوقفه سوى كتائب المشاة من المصريين! فبعد هزيمة أولى للجيش البطلمى وفرار الملك نشب قتال عنيف بين المشاة من المصريين وبين مشاة الجيش السلوقى المحترف، وبعد قتال شرس استطع مشاة المصريين هزيمة الجيش السلوقى ومنعه من الاستيلاء على ممتلكات الدولة البطلمية أو التقدم نحو مصر!
كان هذا المشهد هو الأهم طوال ثلاثة قرون هى فترة الاحتلال البطلمى أو اليونانى لمصر، وهو المشهد الذى عبرت فيه القوات المسلحة المصرية – ممثلة فى 20 ألفًا من فلاحى مصر تدربوا لمدة عامٍ ونصف عام – عن شخصيتها العريقة التى تمت محاولة طمسها عن عمدٍ فى القرون السابقة.
ورغم أن الجيش البطلمى ظل بشكلٍ عام محتفظًا بطابعه الإغريقى المقدونى فى تشكيلاته وفى قياداته حتى نهاية الأسرة البطلمية، إلا أن هذه القوات المصرية التى أبهرت الجميع بأدائها على أرض المعركة، أصبحت هى نواة لحركة قومية مصرية ثائرة ضد الاحتلال وضد قبول فكرة الحكم الأجنبى، وانضم إليها فلاحو مصر وأعدادٌ من كهنتها فى المعابد. بعد المعركة حصل كثيرٌ من هؤلاء على إقطاعات من الأراضى لم تكن بنفس مساحات الإقطاعات التى يحصل عليها غير المصريين، لكنها كانت بداية لم يضيع المصريون الفرصة المشروعة لاستغلالها. أخذوا فى محاولات زيادتها حتى وصلت فى بعض القرى إلى ثلث مساحة الأراضى الكلية. كما فتح هؤلاء الأبواب أمام مصريين آخرين للالتحاق بكلٍ من البحرية والشرطة والحرس الملكى! منذ ذلك التاريخ وحتى نهاية العصر البلطمى لم تتوقف ثورات المصريين ضد الحكم الأجنبى!
(5)
كانت هناك مشاركة مصرية فى الأسطول الحربى البطلمى. كان الأسطول يعمل فى ثلاثة قطاعات، النيل والبحرين الأحمر والأبيض. كان النيل هو طريق المواصلات الرئيسى ويستخدم عسكريًا لنقل القوات، إما على سفن أو بالطريق البرى تحت حراسة الأسطول. فى البحر الأحمر عمل الأسطول فى مناطق توجد بها طرق بحرية لتوريد البضائع لمصر مثل الأخشاب والمعادن النفيسة والعاج والمُر، والأفيال. ومن الهند كانت مصر تستورد عطورًا وتوابل؛ لذلك كان التواجد العسكرى البطلمى فى البحر الأحمر والمحيط الهندى مهمًا لحماية السفن ضد هجمات القرصنة التى دأبت عليها بعض الشعوب المجاورة. وكان البحر المتوسط ميدانًا رئيسيًا للأسطول المصرى منذ عصور ازدهار مصر القديمة. فى البداية لم يكن لبطليموس سوى ثلاثين سفينة تركها الإسكندر، لكنه عمل على إنشاء أسطول كبير جعل من البطالمة القوة البحرية العظمى فى شرق المتوسط. عند نهاية العصر البطلمى كان لدى كليوباترا عشية معركة أكتيوم أسطول يتكون من 200 سفينة، بخلاف أسطول أنطونيو المكون من 800 سفينة. احترق معظم أسطولهما المشترك فى المعركة ولم ينج سوى 60 سفينة من الأسطول المصرى.
فى الأسطول شغل الإغريق والمقدونيون المناصب العليا مثل منصب (قائد عديد السفن)، لكن عدد الإغريق فى هذه المناصب كان أكثر من المقدونيين. لم يتم السماح للمصريين بتولى مناصب كبرى فى الأسطول مثل (قائد بحرى فى أسطول البحر المتوسط) أو حتى أن تكون من بينهم أعداد كثيرة من الضباط على ظهر السفن! لكن تم السماح للمصريين بالعمل بين أطقم البحارة غير المسلحين فى السفن، وبصفة خاصة بين المجدفين. وهناك وثائق لحالات هروب من هذه الخدمة وتعهد من جانب بطليموس الخامس نهاية القرن الثالث قبل الميلاد بعدم جمع البحارة من الأراضى التابعة للمعابد! وكان هناك (جنود بحارة) مصريون يعملون فى الأسطول البطلمى، لكن لم تعرف نسبتهم مقارنة بالمرتزقة من الأجانب من إغريق أو مقدونيين أو غيرهما من الجنسيات!
(6)
بعد هزيمة كليوباترا وأنطونيو أصبحت مصر ولاية رومانية عام 31 ق.م وحتى الغزو العربى 642م، رغم أن بعض المؤرخين يقسمون هذه القرون إلى عصرين، الرومانى والبيزنطى، لكن إجمالًا يمكن أن نقول إن مصر فى هذه القرون كانت مجرد ولاية من إمبراطورية كبرى. طرأت تغييرات كبرى على الجيوش المحتلة لمصر وموقفها من تجنيد المصريين، وحلّ عنصرٌ جديد كانت له الغلبة هو العنصر الرومانى المحتل. أتى مع المحتلين الجدد طبقة جديدة تتمثل فى الموظفين الرومان الذين عينهم الإمبراطور فى المناصب الكبرى بالإدارة ورجال الأعمال الرومان، والأهم جنود الحامية الرومانية. كان جنود الحامية يتكونون من أفراد من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية يمنحون الجنسية الرومانية بعد تسريحهم. كان عددهم فى عصر الإمبراطور الأول أغسطس حوالى 23 ألف جندى ثم تم تخفيض العدد بعد ذلك إلى 11 ألفًا فى القرن الثانى. سمح الرومان لبعض اليونانيين بالانخراط فى سلك الجندية. فى القرون الأخيرة سُمح بتجنيد مصريين لكن كانوا يجندون فى أى مكان من الإمبراطورية ولم تكن هناك كتائب مصرية خالصة كما حدث فى عصر بطليموس الرابع. كان جيشًا إمبراطوريًا يضم كافة الجنسيات الخاضعة للإمبراطورية. وكان هؤلاء المصريون من أبناء الطبقات الأرستقراطية الذين كانوا يُمنحون الجنسية الرومانية. فى العصر البيزنطى السابق للغزو العربى كان هناك بعض المصريين مجندون فى الجيش البيزنطى، كما سُمح لبعض المصريين – عبر إصلاحات الأباطرة الإدارية – لتولى بعض المناصب الإدارية. لكن ظل هؤلاء يعملون كموظفين لدى الإمبراطورية وظل الجيش أو الحاميات تدين بالولاء للإمبراطورية.
هناك مشهد مهم فى العصر البيزنطى..كان اليهود يمثلون قوة كبرى فى مصر وفى برقة وأثاروا كثيرًا من الشغب والفوضى ودخلوا فى منازعات دموية كبرى ضد الإغريق وقاموا بشن موجات هجوم من خارج مصر – من برقة تحديدا – عام 115م. زحفت حشود يهودية على الإسكندرية وقاموا بذبح أعداد كبيرة من الإغريق وقامت معارك عنيفة بينهم وفى طريقهم اكتسحوا القوات الرومانية وانتشروا حول المناطق المحيطة بالإسكندرية ووصلوا حتى الأشمونين وطلبت السلطات الرومانية من القرويين المصريين التصدى لهجوم اليهود. قاتل المصريون الفلاحون قتالًا شديدًا لكنهم هُزموا وقام اليهود بذبح كثيرٍ منهم ووصلت فرق رومانية إلى منف. فى منف قاتل المصريون بجوار القوات الرومانية ضد اليهود وانتصروا نصرًا ساحقًا فى عام 117م وظل المصريون يحتفلون بهذا النصر فى منطقة بهنسا حتى عام 201م أى حوالى 85 عامًا بعد المعركة. فى معركة منف عبرت شخصية المقاتل المصرى عن نفسها رغم أن هؤلاء الفلاحين لم يكونوا مقاتلين مدربين لكنهم كانوا يدافعون عن قراهم ومنازلهم وأسرهم. قاتلوا قتالًا شرسًا عنيفًا.
(7)
هكذا كانت الفترة الممتدة من سقوط الدولة الحديثة حوالى القرن العاشر قبل الميلاد حتى الغزو العربى لمصر عام 642م. ارتكب بعض الملوك خطأ سياسيًا كبيرًا وهو استخدام أسرى كمرتزقة – أولًا من قبائل ليبية وهندو أوروبية وثانيًا يونانيين ومقدونيين وإسبرطيين – فى القوات المسلحة المصرية. أدى ذلك وفى حوالى ثلاثة قرون فقط إلى تفكيك القوات المسلحة الوطنية، فتحول الجيش المصرى إلى جيش غير مصرى لا يدين بالولاء لمصر ولا يعتقد فى قداسة أرض مصر ولا تنتمى شخصيته من قريب أو بعيد إلى شخصية القوات المسلحة المصرية. بناء على ذلك ظهرت مشاهد غريبة فى تاريخ مصر مثل مشاهد خيانة قادة المرتزقة ومعهم كتائب كاملة، ومثل مشاهد عدم رفض الاستسلام والهروب من أرض المعركة، وأصبحت مصالح القادة الشخصية هى محركة سلوكهم العسكرى. كان كل ذلك يمثل ظهورًا أقدم لفكرة المماليك. دفعت مصر ثمن هذه الأخطاء السياسية باهظًا وهو استقلالها!
رغم ذلك فقد سجلت صفحات التاريخ بعض المشاهد التى تثبت بقاء شخصية القوات المسلحة المصرية كامنة فى العنصر المصرى، وأنها كانت فقط تنتهز الفرصة للتعبير عن نفسها. وأنها قد عبرت عن نفسها فى أكثر من معركة، أهمها معركة رفح فى الفترة البطلمية حوالى 218ق.م، وما تبعها من بعث الروح القومية وقيادة هذه القوات لفلاحى مصر فى ثورات قومية ضد الاحتلال البطلمى أو اليونانى. ثم معركة منف فى العصر الرومانى 117م. بدأت فى هذه القرون سياسة إبعاد المصريين من الاشتراك فى القوات المسلحة، وبدا وكأن مستهدفى مصر قد اكتشفوا أهم أسرار قوتها ووضعوا ذلك السر وهو قواتها المسلحة الوطنية هدفًا دائمًا للإضعاف للتمكن من احتلال مصر والسيطرة على مقدراتها!
بدا الأمر وكأنه محاولة لحبس المارد فى قفص حتى يتمكن المتآمرون والضباع من الاستفراد بالشعب منزوعًا منه قوته! يثبت هذا العرض التاريخى خطأ ما يتندر به بعض المصريين المعاصرين بأن أسلافهم كانوا خانعين يفتحون بلادهم لكل محتلٍ وكل غازٍ. فلم تتوقف ثورات المصريين ضد كل المحتلين، والخطأ هو عدم قراءة المصريين المعاصرين تاريخ بلادهم بشكل موضوعى تفصيلى حقيقى! تبنت القوات المسلحة المصرية مهمة الإبقاء على جوهر الشخصية المصرية التاريخية وبعثها كلما أتيحت لها الفرصة لذلك رغم تباعد الفترات الزمنية بين الفرصة والأخرى!
*****
فى هذا المشهد كان الغزو العربى المسلح لمصر عام 642م.. فكيف سيتعاطى العرب مع فكرة السماح بوجود قوات مصرية مسلحة؟ هذا ما سوف أعرضه فى الجزء الثالث من هذا المقال..